في فصل الصيف ترتفع درجة الحرارة، وتصبح الشمس ساطعة بشكل قوي، والجو حاراً، والسماء صافية، ويطول النهار، ويقصر الليل، وينتهي التلاميذ والطلبة من دراستهم، وتعتبر فيه العطلة الصيفية من الأزمنة الخصبة، التي تنتقل فيها كثير العائلات من هموم الحياة ومشاكلها، إلى الترويح عن النفس وتبدأ العائلات بالبحث عن كيفية الاستفادة الجيدة من العطلة الصيفية فيما يعود على أبنائهم بالنفع والفائدة، فهي من الفرص السانحة على المستوى النفسي والزمني، الذي يستطيع فيها الشباب أن يستثمرها في إنضاج خبراته، وبلورة كفاءاته، واكتساب المهارات الجديدة. ولكن في واقع الأمر فهي طاقة معطلة عند كثير من الناس؛ فتجد الكثير يقضيها عبثاً ولهواً، ودفعاً للوقت في النوم البطر الكثير في النهار، ومشاهدة الفضائيات المساهمة في نشر الرذيلة والإباحية، والأمراض النفسية والاجتماعية، وتمرير الظواهر السلوكية الشاذة من خلال التركيز على أفلام العنف والإغراء، والتوسع المفضوح في الإعلانات، التي توظف أجساد النساء، وتعتبر المرأة سلعة رخيصة، والانغماس في استخدام الانترنت؛ ما يشكل إدماناً وأمراضاً نفسية، مثل الاكتئاب نتيجة سوء استخدام الإنترنت؛ مثل قصص الحب الوهمية، والصداقة الخيالية، ما يترتب عليها عواقب خطيرة، مثل ظاهرة التسكع في جوانب الشوارع والطرقات في ساعات الليل المتأخرة، لا لشيء سوى لتمرير الوقت، زد على ذلك ظاهرة تعاطي الخمور والمخدرات في ساعات الليل المتأخرة حتى ساعات الفجر، ولا تسل عن الحضور للمهرجانات الغنائية والحفلات الموسيقية التي تعم أرجاء البلاد، فيملأ صداها الأركانَ شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، ويعم صخبها العالمين براً وبحراً، ولم يسلم من ضجيجها أحد ليلاً ونهاراً، والتي تخصص لها تمويلات خيالية وميزانيات ضخمة، يتم صرفها في التنظيم واستقطاب الفنانين وأداء مستحقاتهم، وكلها تصرف من مال الأمة وخزانة الدولة. فهذه أغلب الأماكن التي يقضي فيها الشباب أوقاتهم الصيفية، في جو يغلب عليه الاستهتار واللامبالاة، وهي من العوامل الأساسية للانحراف، وبروز المظاهر السلبية في الوسط الاجتماعي، إذ لا تزال فئة عريضة من الشباب تصر على التعامل مع العطلة الصيفية بمنطق "تقطيع الوقت أو قتله"، وتضييعه إما بالنوم أو السهر، لاعتقادهم أنه فصل الملل. فتضيعُ الأوقات في غير نفع، وتهدر في غير الفائدة، ولو حاسب الواحد نفسه وذكّرها؛ لعلم أنه مقصِّر، وينبغي له أن يصحح طريقه لينتفع بعمره، ويكون التأسف على تضييع الوقت أكثر في حق الشباب وهم في ريعان شبابهم، ومع هذا لا يستفيدون من شبابهم ونشاطهم، بل ضياع وتبديد في أمور لا تنفع بل تعود بالضرر عليهم في الدنيا والآخرة. فمن الأهمية أن نتساءل عن كيفية الاستفادة من هذا العطلة، وما هي البرامج المقترحة التي تملأ فراغنا لنصل إلى عطلة ممتعة مفيدة؛ بحيث نعود بعد انقضاء العطلة بمشاعر متجددة، وفلسفة حياة متميزة، لبدء عام جديد يملؤه الجدية والعمل الصالح لخيري الدنيا والآخرة؛ فكثيراً ما نسمع أفراداً يرددون السؤال نفسه في كل سنة عندما يأتي الصيف. العطل الصيفية من المواسم المهمة التي ينبغي أن يستثمرها الشباب اليوم في توفير متطلبات النجاح والتفوق، ومؤسسات الدولة والمجتمع ينبغي أن تكون لها البرامج الصيفية التي تجذب وتستقطب العديد من الشباب الذين سيجدون في هذه البرامج القدرة على تأهيلهم وتنمية مواهبهم. فمراكز التدريب والتأهيل التي عرفت ازدهاراً وانتشاراً في السنوات الأخيرة؛ من المؤسسات الهامة التي تمتلك بنية تحتية مناسبة للقيام بمجموعة من الأنشطة الكفيلة باستيعاب الشباب في برامج متنوعة، فيسعى كل مركز إلى القيام ببعض الدورات الترفيهية النافعة والثقافية في مختلف المجالات، من أجل التأهيل النفسي والاجتماعي للكثير من الطاقات الشابة. ومن الضروري التذكير بأن الجمعيات المدنية المتعددة، ستساهم في امتصاص الكثير من الطاقات الشابة في المجتمع إن هي أحسنت ذلك، فلا بد من تشجيع الانخراط فيها، والقيام ببعض البرامج والأنشطة الصيفية التي تستوعب مجموعة من الشباب لتأهيلهم وتنمية مواهبهم. وللأسرة أيضاً دور في هذا المجال، فلتَسْعَ كل أسرة إلى التفكير العميق في طرق الاستفادة من العطلة الصيفية على جميع مستوياتها، تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات وحاجات الأطفال والشباب. فالأمم الرائدة هي التي تلتفت لشبابها بكل ما يعود عليهم بالنفع والتربية على كريم الشمائل؛ وسوف تجني آثار صنيعها الجميل في أجيالها من الشبان والفتيات في مستقبل أيامهم، لذلك ينبغي أن تتكاتف كل الجهود من أجل استيعاب فئة الشباب في العطلة الصيفية في برامج نفعية مقاصدية، تنهي حالة الفراغ وتساهم في تنمية مواهبهم وصقل إمكاناتهم وإنضاج مقاصدهم. وهذه بعض الخطوات العملية بإمكان المجتهد أن يستفيد منها، ويستثمرها فيما يعود عليه بالنفع، وسيقضي من خلالها الشباب عطلةً ناجحة خالية من الأكدار والمشاكل: أولاً: الإكثار من الأعمال والطاعات والتزود لليوم الآخر وتذكر حر جهنم؛ من قراءة القرآن والذهاب إلى المسجد لأداء الصلاة المكتوبة، وحضور الجنائز، وعيادة المرضى، وأداء العمل كما ينبغي، والمشي في قضاء حاجة الآخرين لله تعالى، ومساعدة الآخرين، وبر الوالدين وطلب العلم، وصلة الرحم، والدعوة إلى الله، ونصح الخلق، وإغاثة الملهوف، وإعانة الضعيف، وكل طاعة يحبها الله جل وعلا ويرضاها، وأهم ذلك وأجلُّه الفرائض التي افترضها الله على عباده، فإن الله جل وعلا لا يُتقرب إليه بالقربات إلا بعد أداء الفرائض كما أوجب وبين، فرغم انعدام وسائل التكييف والراحة في زمن الصالحين من هذه الأمة، والتي ننعم بها في زماننا، إلا أن ذلك لَم يمنعهم عن طاعة من الطاعات، بل أكثَروا من العمل والطاعة، فجعلوا عملهم الذي يقومون به لله؛ من أجل أن ينالوا مغفرة الله تعالى، وكذلك ينبغي لنا في هذه العطلة وفي سائر الأيام، ولا يجب أن تطغى علينا ملهيات الصيف - وما أكثرها- عن الاستعداد ليوم الرحيل، وذلك لا يكون إلا بمجاهدة النفس على الطاعة والصبر، لأن سبيل الطاعة شاق وثقيل يحتاج إلى حبس النفس وترويضها وسَوقها إلى الله بالتحمل والتصبر، فبسبب كثرة الذنوب والمعاصي وإصرار كثير من العباد عليها والجهر بها؛ أصبحنا مائدة ممدودة لكل طاعم، وصندوقاً مفتوحاً لكل آخذ، وقصةً يحكيها كل شامت، أورثتنا الذل والمهانة، فألفنا دموع اليتامى، واعتدنا أنات الأيامى، و أصبح قتل المسلم الأعزل في كثير من الأقطار أمراً سهلاً، إن مشكلتنا تتخلص في أننا لا نحس بأننا سبب من أسباب انحدار أمتنا وتخلفها، ونتغافل عن كوننا جزءاً من أجزاء الأمة التي نريد صلاحها، وكل واحد منا يرمي باللائمة على الغير، ومن المضحك جداً أن نلوم عدوّنا، ونجعله سبب مشاكلنا؛ لكي نتنصل من مسؤولياتنا، ونرتاح من تبعات التحليل والتدقيق، والمحاسبة والتقويم، فهل ندرك ذلك؟! ونفقه أن الأمة لن تصلح وتنتصر حتى يصلح كل فرد من أفرادها نفسه، وينتصر على أهوائه وشهواته؟! ثانياً: تهيئة جوٍّ أسري عائليٍّ دافئٍ مليءٍ بالود والمحبة والرحمة ومحبب للأبناء، لهو من أهم الأمور التي يجب على الوالدين إيجادها في زمن أصبح فيه حب الذات والأنانية هو الأصل، وأصبح بريق الاجتماع العائلي والأسري من الزمن الجميل الغابر، فلا شك أن لهذا الأمر انعكاساً كبيراً على الأبناء، وذلك يكون بالتحدث إلى الأبناء بأسلوب لطيف ومحبب، ونشر روح المرح والفكاهة بين أفراد الأسرة مع الالتزام بأدب الإسلام، والتبسم لهم في كل حين، والرفق بهم وجعلهم يشعرون بالحب والاهتمام، مع تجنب ما يؤدي إلى الخلاف بينكم أمام الأبناء، إن الحاجة للأمن النفسي للأبناء لهو ضرورة تمليها هذه الظواهر الخطيرة التي تدفع الشباب لوسائل متنوعة للهروب إلى أحراش الشارع بسلبياته، فيظن في نفسه أنه البديل، وفي هذه الحالة يلعب الشارع دوراً في تشكل الجانب السلوكي للأبناء، عكساً، فجو المنزل الذي سيحدد مسار الشاب في مستقبله. ثالثاً: من الأمور التي تساعد على الاستفادة من الوقت استفادةً إيجابية حيث تشغل ذهن الشاب بالمفيد؛ كتابة المذكرات، وتدوين المشاهدات، والمعلومات عن الأماكن والمدن الجديدة التي يراها؛ ما يعزز خبراته المعرفية، وليس فقط كتابة المذكرات إنما الكتابة بكل معناها؛ وقد أظهرت الدراسات أن الأشخاص الذين يكتبون مذكراتهم يتمتعون بفوائد عضوية ونفسية، وتتحسن مناعتهم، يكون احتياجهم للذهاب للأطباء أقل، كل هذه الآثار الإيجابية تحدث عندما يعبر كاتب المذكرات عن مشاعره تجاه الأمور المختلفة، يمكن لأي شخص أن يجرب كتابة مذكراته، كل ما يحتاج إليه هو بعض الوقت ومكان هادئ، وينصح الخبراء من يكتبون مذكراتهم أن يكتبوا عن الأمور التي لها أهمية من الناحية المشاعرية، مثل الموضوعات التي تقلقهم أو أحلامهم بخصوص المستقبل، والأفكار والشعور بالامتنان والأهداف والقرارات، وتؤدي كتابة المذكرات إلى أكبر فوائد ممكنة إذا كتب الشخص عن مشاعره الإيجابية والسلبية وغيرها، ولا يخلو عالم إلا وعنده بحث؛ وما كتاب ابن القيم "بدائع الفوائد" إلا من هذه الطريقة، وابن عثيمين له كتاب "فرائد الفوائد" كان يقيد ما وجده من الكتب، يجعلون بحوثاً لهم في قراءاتهم ويجمعونها في كتاب واحد ينفعون بها أنفسهم وينشرونه بين الناس، وفي كتاب "صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل" لعبد الفتاح أبو غدة أخبار كثيرة في ذلك، ينصح باقتنائه وقراءته وتسجيل فوائده، وهنا أستحضر قول الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي إذ يقول: "أوصيكم يا أبنائي بالقراءة والكتابة، وعليكم أن تعوِّدوا أنفسكم على ممارسة الكتابة وتدوين خواطركم ومشاهداتكم اليومية، دونما إبطاء أو إجهاد في البحث عن الجمل المنمقة، بل عبروا عن أحاسيسكم باللغة الريفية الامازيغية أو العربية أو بخليط بينهما، فالمهم هو التعبير الصادق الأمين عن المشاعر، والأهم هو اكتساب الكتابة والتعود على ممارستها". رابعاً: وفي الصيف يمكن اختيار مجموعة من الكتب القيمة والتي لها أثرها الإيجابي والمثمر اليافع؛ فهي تبني العقل، وتغذي الروح للشباب، فقد أشارت العديد من الدراسات إلى أن ارتباطهم بالكتاب يمنحهم القدرة على تشكيل ملامح مستقبلهم، ويعزز ثقتهم بأنفسهم، وإذا كانت القراءة هي أشهى ثمرات الإنسان على الأرض، فإن الأمم والشعوب تسعى للرقي والتقدم عن طريق غرس الثقافات المتعددة في نفوس أبنائها، وفترة الصيف مما يمكن فيه للشباب التفاعل مع الكتاب. فمن تمرَّس قراءة الكتب، وذاق حلاوتها، فإنه قادر على أن ينظم لنفسه وقتاً في هذا الصيف بأن يطالع بنفسه، في مختلف المجالات سواء أكانت كتبًا علمية أو دعوية أو فكرية أو سياسيَّة والتي التي تفيده في شؤونه الحياتية، وتصوُّره للأحداث التي تقع في عصره، ولا أجد أروع من القائمة التي أعدها الباحث أحمد سالم: "قائمة قراءة في المباحث الفكرية" وفيها 60 كتاباً، وقد اختصر من تلك القائمة قائمة مختصرة تحوي الضروري فحسب منها: • منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة، تأليف عثمان علي حسن. • تكوين المفكر، تأليف عبد الكريم بكار. • ضوابط المعرفة، تأليف: عبد الرحمن حبنكة الميداني. • آلام العقل الغربي، تأليف: ريتشارد تارناس، ترجمة: فاضل جكتر. • سلسلة: فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام ويوم الإسلام، للأستاذ أحمد أمين. • أسس التقدم عند مفكري الإسلام، تأليف: فهمي جدعان. • مذاهب فكرية معاصرة، تأليف: محمد قطب. • الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، تأليف محمد محمد حسين. • العلمانيون العرب وموقفهم من الإسلام، تاليف مصطفى باحو. • دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية، تأليف عبد الله الغصن. وغني عن البيان أنه لا يخلو كل كتاب من هذه الكتب من الخطأ ولا حتى اتفاق في الرأي معها، ولكنها جميعاً تعين على الغرض المذكور، مع احتياجها لعقلية ناقدة في قراءتها. خامساً: تمثل العطلة الصيفية الفرصة الذهبية لإكتساب هوايات جديدة وخبرات مفيدة، مثل المشاركة في الندوات وحضورها، وزيادة الخبرات في المهارات الحياتية، وتحصيل مزيد من المعارف، والالتحاق بأنشطة جديدة كاختيار رياضة مناسبة، وبرامج تدريبية مناسبة، حيث تسهم هذه الهوايات في إثراء المعارف والمهارات، التي تكسب خبرات تربوية وسلوكية وأدبية جديدة. سادساً: إن مما تزخر به بلادنا هذه البحار الشاسعة، فلا حرج من الاستجمام واختيار الشواطئ الخالية من آثام الاختلاط والمنكرات، فلا مانع من الترفيه البريء بعد تعب في عمل أو تعلم؛ إذ النفوس تمل كما تمل الأبدان؛ وقد جاء في الأثر "يا حنظلة ساعة وساعة"؛ فساعة جادة مع التعبد والتعلم والعمل، وساعة راحة مع الأهل والأولاد والأصحاب. فلا شك أن هذه الرحلات الشاطئية تقوي الروابط إذا راعينا فيها الآداب التي ينبغي التمسك بها، وهي بديل عظيم لما يقوم به بعض الناس من مزاحمة أهل الباطل في باطلهم في شواطئ يغلب عليها العري الفاحش، والمنكرات القبيحة التي تمجها الأنفس السوية، والتي تفتقد فيها للآداب؛ مثل عدم الاختلاط مما ينتج عنه شر كبير في الدنيا والآخرة. الفرصة سانحة الآن للجميع لقضاء عطلة صيفية متميزة، كل بحسب ظروفه وما يناسبه، فيما تتنوع طرق الإفادة من هذه العطلة لتحقيق أكبر الفوائد فمجال الابتكار والتفكير مفتوح للجميع في فعل ما ينبغي خلال الصيف، وخاصة الشباب.