المأزق اللائكي الرابع : التعددية /زعموا من العجيب حقا أن تجد اللائكي لا يبرح التغني بمطلب التعددية السياسية و ما يرافقها من قبول فعل التشارك الجماعي في بناء الدولة ومؤسساتها ثم تجده يمارس الإقصاء و الاستئصال العنيف لفصيل له امتداده الجماهيري الحاشد ، فالتصورات اللائكية العروبية حول قيمة التعددية كآلية لتدبير الخلاف السياسي لا زالت تخضع بدورها للهواجس الإيديولوجية المتحكمة و لا زالت حبيسة خطاب تجريدي و تسويقي يُستَحضَر لتجميل المُدارَسات النقاشية السياسية في حين تغيب على صعيد التفعيل و التجسيد . ليست العبرة البتة في المقاربات النظرية لموضوع التعددية السياسية و الفكرية على أهميتها الأكاديمية و إنما في قدرة دعاتها على ترجمة دَعَواتها إلى ممارسات عملية يشهد لها الواقع بصدق و إلا فإن الأمر لا يمكن تفسيره خارج الأسلوب النفاقي و الانتهازي. للأسف الشديد فقد تشوهت السياسة كفضاء قيمي للتباري النزيه لتصير ساحة لتصفية الحسابات الإيديولوجية و فلسفة لتعميق الهزائم لهذا الطرف أو ذاك، إذ أن عقليات الثأر السياسي و الاستئصال الممنهج للأطراف المخالفة ظلت تشتغل باستمرار في ذهنية اللائكي الحقود فصارت متاريسًا تحول دون إنضاج الفكر السياسي و دفع عجلة التنمية إلى الأمام ، الشيء الذي يلقي بظلاله على واقع المجتمع الذي يتمفصلُ بدوره حسب تلك العقليات إلى مكونات متناحرة ملغومة يصنع منها الطغاة وقودا و حروبا أهلية ضارية و ضاربة. إن القوى اللائكية قَلَّما تقبل بالوجود الإسلامي في حلبة المنافسة الشريفة لأنها تدرك ببساطة حقيقة ذاتها و لذلك تتسم مواقفها بالنفي القاطع و العنف السياسي و المادي أحيانا أخرى، و ما الثورة المضادة التي قادتها النخب اللائكية بتضليلاتها المستمرة و تحالفاتها مع قوى ورموز الاستبداد الداخلي و الخارجي إلا دليلا على هشاشة الخطاب التلفيقي "التنويري" ، فبعد أن لحقتها لعنات طرد الشعب لها من جميع الاستحقاقات و انهزمت بسلطة الشعب في معركة كسب الثقة لم تلتمس خلاصها من منطق الاعتراف السياسي باندحارها و من ثم العمل على الاستعداد لصولات جديدة تحقق فيها طموحاتها السياسية و إنما سلكت طريقا خطيرا قامَ على الشغب و التحريض و المكابرة و تكوين صعاليك متمردين يتولوا مَهمة زعزعة استقرار البلاد مستغلين في ذلك تغلغل نظام الطاغية مبارك في أجهزة القضاء و الداخلية و الإعلام، الشيء الذي قاد إلى احتراب الساحة الاجتماعية و انتزاء العسكر على الحكم عنوة ، بل لم يكتفوا بالانقلاب على النظام الشرعي بقوة السلاح و إنما راحوا يدفعون باتجاه تصفية الأحزاب المنافسة (الحرية و العدالة، البناء و التنمية،الأصالة..) عبر سن قوانين فرعونية موغلة في الاستبداد تقوم على حظرها من منطلق الانتماء الديني و السعي إلى حل تنظيم الإخوان المسلمين أكبر التنظيمات الإسلامية المهددة لعروش الطغاة عبر استصدار قرارات قضائية فلولية تبيح الحجر على كل الممتلكات التابعة لها . هي إذن تعددية في استعمال إجراءات القمع و ليست تعددية في إجراءات التدبير الأمثل لانتقال السلطة ، هي تعددية متجانسة تؤمن بالوجوه اللائكية في قيادة شأن الدولة و بالعصابات العسكرية في إحكام قبضتها على مفاصلها ليس إلا ! في مقابل هذا الوضع القاتل للحريات الخانق لقيم التعدد لاحظنا كيف عبَّرت الرئاسة الشرعية أيام مرسي عن احترامها البليغ للأطراف الأخرى حيث ضمت الحكومة مختلف التشكيلات السياسية و الفكرية و الدينية بعيدا عن المحاصصات الفئوية الضيقة، كما أن نداءات المؤسسة الرئاسية لم تتوقف عن مد يدها لكل القيادات للتشاور حول استبدال الوزارات بأسماء أخرى ، و مع ذلك ضل الموقف المعارض و ظل العناد اللائكي يصنع لنفسه تشوهات غائرة في بنية تفكيره السياسي حتى صارت معارضاته أشبه بألعاب مراهقين لا همّ لهم غير المعارضة لذاتها . و الآن بعد أن استحكم الانقلاب جذوره و بانَ عبيده سارع إلى إلغاء كل الأنشطة و التظاهرات المناهضة و قمعَ كل الأصوات الحرة بأسلوب جنوني لا يذكرنا إلا بمحاكم التفتيش المخزية و اتبع مسارات الصهاينة في التعامل مع المقاومين لفكر الانقلاب عبر الإكثار الغوغائي من الحديث عن الإرهاب و الاتهامات بالتخابر و تجريم التجمعات و ممارسة التضليل الإعلامي الفادح في حق الرافضين للإجراءات القمعية من خلال تصوير المعركة على أنها دائرة بين جماعة الإخوان المسلمين و الشعب و ما هي في العمق إلا معركة بين صعاليك و متمردي الدولة الإرهابية و بين الشعب المصري الحاشد في كل المحافظات الرافض لعودة دولة العسكر و الخزي و الاستبداد . لم تتوقف تخاريف الدولة الجبرية الجائرة عند صناعة أكاذيب سياسية بل أباحت لنفسها الحق في استعمال الذخائر الحية و كل أشكال التعسف الوحشي لتفريق المظاهرات الزاحفة و قنص المواطنين بكل وقاحة و كأننا نعيش فيلما هوليوديا مرعبا أبطاله فراعنة فطاحلة ، لقد أسقطت بموجب هذا السعار البوليسي حق المواطنة للمتظاهرين و عدَّتهم الدولة الجبرية "إرهابيين" يهددون الأمن القومي و الاستراتيجي فوصلت بذلك إلى منتهى الفعل الإجرامي و الاستبدادي حتى يُخَيَّل إلينا و كأننا نعيش إحياءً لدولةٍ عضوضٍ في ممارساتها الوحشية، لقد كان من الطبيعي أن ُيلصق الطغاة المغتصبون تهمة العنف للمتظاهرين و حرق الكنائس ، لكن يعجب المرء كيف تحولت الدولة الآن لإرهاب دولة منظمة لا يدانيها في ذلك إلا إرهاب الكيان الصهيوني همجية و دموية . و ما قد يستدل به البعض من وقوع بعض الأفعال العنيفة هنا أو هناك إلا استثناءات عابرة تمليها سخونة و حِدّة القمع و التقتيل الهستيري التي تنفذها قيادات قوات الاحتلال المصرية (احتلال الإرادة) ، و لو أبدى المتظاهرون رغبتهم في انتهاج سبيل العنف على كثرتهم كما فعل الصعالكة المتمردين الموالين لقوى الشر لكانت مصر كلها تحترق من أولها لآخرها و لما سلم جندي أو صعلوك متمرد أو خنفس من الأمن المركزي من الاغتيال في كل يوم، لكنها المبدئية النضالية بلا نزاع .