قد تعجز الكلمات، وقد لا تسعفنا اللغة بكل مخزونها ومعانيها والإشارات الرمزية بكل دلالاتها، وقد تخدعنا الذاكرة وقد يغلبنا النسيان، وقد يعجز اللسان عن البيان، وقد نصطدم كصدمة رحيلك بأنك انت الحسين الإدريسي أكثر من موضوع، وابعد من منظور، فأصاب بالقصور وأنا أحاول أن أكتب نبذة قصيرة وقاصرة عن حياتك المليئة بالعطاء والتضحيات علني استطيع أن أقربك للقارئ الكريم -من خلال خطك الفكري-، كما عرفتك، ولكني أجد نفسي كلما نجحت من رسم البدايات لا أستطيع أن اقترب من النهايات وكيف لي أن أقوم بتأبين عملة نادرة غير قابلة للصرف. ولد الحسين الإدريسي بمنطقة الريف ناحية تيزي وسلي بكل ما تحمل هذه المنطقة من رمزية في النضال والمقاومة ضد الاستعمارين الفرنسي والاسباني، وقد كان الراحل يعتز ويفتخر بهذا الانتماء الجغرافي والتاريخي، وقد جعله ذخرا وعنوانا هوياتيا في الدفاع عن الشخصية المغربية في ابعدها الفكرية والثقافية والدينية. اشتغل الراحل الادريسي على مسار فكري وثقافي أصيل ملتزم بالقضايا الوطنية، طارحا مفهوم جديد للهوية والدين والثقافة المغربية وهو يحاول أن يرسخ ويدافع عن نموذج مغربي متميز الذي ارتقى به إلى مستوى المدرسة الفكرية في إطار من الحضارة المغربية مستشعرا في نفس الوقت خطر المشروع الأصولي في تجلياته الوهابية المتطرفة التكفيرية والإخوانية المعادي للهوية المغربية والموروث الديني المغربي . وقد قام الراحل بنقد هذه الحركة الأصولية وسماها بظاهرة التهريب الديني وهو المفهوم الذي ابدعه الراحل في اطار تفكيكه للظاهرة الاصولية الدينية المتطرفة بصفة عامة المعادية للهوية والحضارة المغربية المتسمة بالاعتدال والتسامح والانفتاح على الغير. وقد بين ان رواد هذه الظاهرة المرضية يعملون على تسليع الدين والانتقال به من مستوى الممارسة التعبدية المقدسة للفرد والجماعة في العلاقة بالله سبحانه وتعالى إلى ممارسات تجارية جعلت من الدين دكانا لكل أشكال الارتزاق والوصولية والانتهازية، بعد أن كان الدين وما يزال سلما للارتقاء الروحاني والتعبدي والأخلاقي للإنسان ، وبذلك تكون حركات التهريب الديني، قد قامت بقلب السلاليم من بعدها الأفقي إلى البعد العمودي عبر فتح دكاكين بعناوين مزيفة حزبية جمعوية وغريها من العناوين المقنعة. كان الراحل الادريسي في محاربته لهذا المد الأصولي الوهابي البدوي الصحراوي القادم من المشرق يبحث عن جبهة وطنية من قوى حداثية ديمقراطية متنورة ومثقفين متحررين ليعينوه على هذه المعركة الوطنية المصيرية، ولكن للأسف الشديد قد خاب ظنه في الكثير ممن كان يعول عليهم وبقي وحيدا في الساحة يصارع جحافل الأصولية القاتلة ما عدا بعض القوى الحية التي شذت عن القاعدة وكان الراحل يشيد بها في كتاباته، ويوجد على رأس هذه القوى جريدة الأحداث المغربية -التي نوجه اليها كل التحية بهذه المناسبة وان كانت أليمة- التي أسست منذ انطلاقها لخط تحريري مبدئي مناصر ومدافع عن قضايا الحداثة والتنوير والتي احتضنت مبكرا كتابات الراحل، وهو الخط التحريري الذي تعزز مؤخرا بجريدة الوطن الآن لرئيس تحريرها الأستاذ عبد الرحيم أريري دون أننسى الدكتور محمد المرابط الذي يرعى هذا الخط علميا وفكريا والذي دفع وما يزال أثمان باهظة لهذا الالتزام الوطني والمبدئي. وبعد تجرعنا لمرارة رحيلك عنا لا نملك الا نلملم جراحنا ونقول لك ايها الحسين ايها الصادق الامين المخلص المتفاني افتقدناك و يتمتنا فيك. افتقدك الوطن والمدرسة المغربية والثقافة المغربية والهوية المغربية والإسلام المغربي والثوابت المغربية التي قدمت نفسك قربانا لها. ناضلت في صمت قدمت كل شيء حتى حياتك ولم تاخذ أي شيء بالمقابل، كنت نموذج المثقف الملتزم المستنير المضحي الذي يحترق لينير درب الأمة المغربية الذي لولا شعلتك وشعلة بعض أمثالك لاستحال ظلمة حالكة. افتقدك النضال الحقوقي والامازيغي افتقدك النساء والرجال والصغار والكبار والشيوخ والجوار واصحاب العقل والراسخون في العلم والمصلحون، افتقدتك العائلة الصغيرة والكبيرة افتقدك الانسان... ايها الرجل الاستثناء فوق العادة والقاعدة المسكون بالوطن ايها الفاضل الشامخ شموخ الاطلس انت هناك معنا وبجانبنا أمامنا وراءنا وما بدلت تبديلا وما تركت للوجع رنينا ، نم مطمئنا راضيا مرضيا، هكذا يرحل الخالدين. ايها الحسين الزاهد الصامد المسؤول الملتزم... سلام عليك يوم ولدت ويوم رحلت ويوم... يبقى فكرك حيا...