الفتوى تكشف حقيقة الدولة : إذن، في زمن هيمنة الفكر السلفي الوهابي وانتشار ثقافة الشيوخ والفتاوى، أصدر المجلس العلمي الأعلى، كما سبق الإشارة إلى ذلك في الحلقتين السابقتين ، أجاز من خلالها قتل المرتد رغم الغموض الفقهي الذي يكتنف موضوع الردة من عدة جوانب فقهية وقانونية. لكن، علاوة على هذه الأمور، فالفتوى تتعارض كليا مع توجهات وشعارات الدولة وثقافة العصر أيضا، وبالتالي فالفتوى خارجة، وبكل المقاييس، عن سياقات التاريخ والحضارة المعاصرة، كما أنها خارجة أيضا عن جوهر الإسلام الحقيقي كما سنوضح ذلك في المحور القادم ، وهو الأمر الذي يقودنا إلى طرح السؤال التالي: ما هو الهدف من إصدار المجلس العلمي الأعلى للفتوى المذكورة سلفا ؟ حيث لا ندري كيف يتحدث دستور الدولة عن الديمقراطية،الحداثة، الكرامة، الحرية، المساواة والتسامح ( انظر تصدير الدستور) وتصدر في نفس الوقت فتوى بهدر دم كل من اقتنع بدين آخر غير الإسلام؟ أليس هذا تناقضا؟ وفي هذا السياق يطرح سؤال آخر، وهو: كيف ستضمن الدولة التي تتبنى مثل هذه الفتاوى حق كل مغربي في ممارسة شؤونه الدينية كما جاء في الفصل الثالث من الدستور ؟ تجدر الإشارة هنا إلى أن المجلس العلمي الأعلى الذي اصدر الفتوى التي نحن بصدد الحديث عنها هنا يعتبر مؤسسة حكومية رسمية، يترأسها الملك ( انظر الفصل 41 من الدستور / الباب الثالث) إلى جانب 47 عضو (ة) بالإضافة إلى وزير الشؤون والأوقاف الإسلامية. فبعض النظر، مرحليا ، عن حقيقة وجود " حد " الردة في الإسلام من عدمها (سنعود للموضوع فيما بعد) ، فالمغرب مطالب الآن أكثر من أية وقت مضى بالحسم الفوري في اختياراته وتوجهاته السياسية والفكرية؛ أي انه مطالب بأن يختار بين أمرين لا ثالث بينهم، الأول هو أن يختار طريق الديمقراطية، الحداثة، الحرية وحقوق الإنسان وبدون لف ودوران، وبالتالي انخراطه الايجابي في ثقافة وحضارة العصر أو أن يختار التشبث بالماضي البئيس والعمل بثقافة بدو الحجاز ؛ وهي الثقافة التي تعتمد - أساسا- على النقل والتبرير، وتبيح بشكل فضيع ورهيب القتل والنهب والفوضى. ولكون أن الأمر خطير ، وفي هذا الوقت بالذات، حيث أن التحديات التي تواجهنا على مختلف المستويات كثيرة وعويصة جدا، لم نعود نتحمل التلاعب بالمفاهيم والشعارات البراقة دون القطع مع كل أشكال وأسباب التخلف والفتن، بل أننا لم نعد نتحمل التلاعب بمستقبلنا ومستقبل الأجيال القادمة. وعندما نقول هذا الكلام فإننا ندعو بشكل واضح وصريح إلى القطع مع كل أشكال الإسلام الأموي والوهابي، فكل المصائب التي نعيشها تأتينا من الإسلام الأموي العروبي البدوي المتخلف، وندعو في ذات الوقت إلى إعادة النظر في مصادر التشريع الإسلامي، وتحديدا أعادة النظر في ثقافة الأحاديث ومسألة إجماع الأمة، فمن الغريب جدا، بل أنها كارثة حقيقية، أن تجتمع امة محمد ( أزيد من مليار و500 مليون) في القرن الواحد والعشرون على قتل المرتد ولا تجتمع على تحرير فلسطين ومحاربة التخلف الاقتصادي والحضاري، ومن السخافة أيضا أن يتم اعتبار الحديث جزء من الوحي ومصدرا من مصادر التشريع وهي تحوي على كم هائل جدا من الأمور التي تتناقض مع القرآن، وفي المقابل ندعو إلى إسلام مغربي حداثي عقلاني مستقل عن السلفية الوهابية، إسلام يسعى إلى تحقيق المبادئ والقيم الأساسية والجوهرية للإسلام؛ وهي العدل الاجتماعي، التعايش السلمي، المساواة، الحرية وحفظ كرامة الإنسان باعتباره أفضل مخلوقات الله على الإطلاق. فالإسلام كما فهمناه يشترط تحقيق العدل الاجتماعي والمساواة والحرية قبل أن يطالب بتنفيذ حدود الله، فالإسلام على سبيل المثال يطالب بتوفير أولا: العمل، المدرسة، التأمين الصحي، الأمن، العدل( قضاء مستقل)، والسكن وغيرها من ضروريات الحياة قبل أن يطالب بتنفيذ شريعة الله ( = حد السرقة، الزنا ..) المنصوص عليها في القرآن بشكل واضح وصريح. شكرا للمجلس العلمي الأعلى على فضحه للدولة: إجمالا، الفتوى لم تأتي بشيء جديد، فموقف الوهابية من الردة معروف وقديم، لكن الجديد، بل والجميل في الفتوى هو أنها ضربت مصداقية الدولة في الصميم، وبالتالي فإنها كشفت لنا عن زيف الشعارات التي كانت ترددها مند تولي محمد السادس الحكم سنة 1999، ومنها شعار الحداثة، التعايش الديني، التسامح والحرية وغيرها من الشعارات الزائفة. ومن جانب آخر كشفت لنا على هيمنة الفكر السلفي الوهابي على أهم وابرز مؤسسة إفتائية في البلاد، وهذه الهيمنة صرح بها الكاتب العام للمجلس الدكتور محمد سيف، وبشكل عير مباشر، عندما قال " ماعندناش جواب على ذاك الشيء " ، كيفش أن المجلس العلمي الأعلى ((معندو ما يدير))؟ هل ما قاله الدكتور سيف يعبر عن وجود أزمة فكر داخل المجلس أم أن الموضوع يتعلق بتنفيذ التعليمات فقط ؟ فهل بالفعل لا يستطيع المجلس مثلا التمييز بين الحكم الشرعي والفتوى الشرعية؟ ومن ابرز الإشكالات التي تعترضنا في الفتوى التي بين أيدينا هي مسالة المرتد أو بصيغة أخرى ماذا يقصد بالمرتد ؟ وكيف سيتم تنفيذ هذا الحكم ؟ وما هي الجهات المختصة والمسئولة على تنفيذ هذا الحكم المتناقض مع جوهر الإسلام والقيم الحضارية لعصرنا؟ هذا على مستوى الشكل أما على مستوى المضمون فالفتوى لم تبين لنا ما هي النصوص القرآنية القطعية الدلالة التي تؤكد " حد " الردة كما يزعم المجلس والمساندين له؟ علاوة على هذا، موضوع الردة يعتبر من المواضيع الخلافية بين الفرق والمذاهب الفقهية وعلماء الأمة، مثله مثل مسألة الحجاب، النقاب، الخمر، الخلافة/ الإمامة وتارك الصلاة وغيرها من الأمور الدينية التي لا يسمح لنا المجال بتناولها جميعا، حيث هناك ثلاثة آراء فقهية بشأن موضوع الردة، لكن قبل أن نتطرق إلى هذه الآراء، نود الإشارة أولا إلى ملاحظة مهمة وأساسية التي قد تساعدنا على فهم وجهة نظرنا هذه، وهي أن جميع الأمور والقضايا الفقهية التي بشأنها نصوص قرآنية قطعية الدلالة لا تكون محطة اختلاف الفقهاء والمذاهب الإسلامية على اختلافها وتنوعها(السرقة والزنا مثلا). والآن سنعود إلى مناقشة الآراء الثلاثة بخصوص الردة، الرأي الأول يقول بأن عقوبة المرتد عن الإسلام هي عقوبة حدية؛ وهي القتل، يقولون هذا بالرغم أن القرآن لم ينص على ذلك أطلاقا كما سنوضح ذالك فيما بعد، والرأي الثاني يقول بأن الردة هي عقوبة تعزيرية وليست حدية، وبالتالي ليست بحد ثابت قرآنيا، وحجتهم في ذلك أمرين أساسيين: الأمر الأول: هو عدم وجود نص ثابت وقطعي الدلالة في القرآن كما سبق الإشارة، بل بالعكس تماما حيث أن جميع النصوص القرآنية التي تتناول الارتداد عن الإسلام أجلت عقوبة المرتد إلى الآخرة، وبالتالي فإنها لا تشمل على أية عقوبة دنيوية كما تخبرنا بذلك العديد من الآيات القرآنية، ومنها الآية 217 من سورة البقرة { ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حطبت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار عم فيها خالدون }، والآية 159 من سورة الانعام { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله }. أما في سورة المائدة الآية 45 فيقول الله سبحانه وتعالي ما يلي { يأيها الذين امنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين } وفي سورة لقمان/ الآية 23 أيضا { ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبهم بما عملوا إن الله عليم بذلت الصدور } . هذه الآيات وغيرها كثيرة تشير ، وتؤكد، بشكل واضح جدا أن عقاب المرتد هو من اختصاص الله وليس البشر ، فكل ما تشمل عليه الآيات الأنفة الذكر وغيرها هي أن الله يتوعد المرتدين بالنار ولم يشير أطلاقا إلى عذابهم في الدنيا . فإليس من المنطقي أن يعطي الله الحرية الكاملة للبشر في الاختيار بين الإيمان والكفر ويسلبها في ذات الوقت، فالله يقول بصريح العبارة في سورة الكهف الآية 29 ما يلي { قل الحق من ربك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} وفي سورة البقرة 256 نقرأ أيضا { لا إكراه في الدين } . أما الرأي الثالث فيتعلق بالتاريخ والسيرة النبوية تحديدا، التاريخ لم يثبت أطلاقا أن الرسول(ص) نفذ حكم الردة أيام حكمه، هذا مع العلم أن العديد من الناس ارتدوا عن الإسلام في عصره، بل ومنهم بعض الصحابة أيضا، وهو ما يعتبر أمرا خطيرا للغاية، فكيف لا ينفذ الرسول حكم الردة إذا كان يعتبر حد من حدود الله كما يقول المجلس العلمي الأعلى ؟