عندما خرج الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي في الناس من أهل عشيرته في الريف، بغية إلهاب حماستهم واستنهاض همم عزائمهم عبر إطلاقه دوّي دعوته الحاثَّة على ضرورة محاربة جيوش المستعمر الاسباني الذين اُقتيدوا كالحمير والبغال في شاحنات مكدّسة تحت إمرة الديكتاتور الحديدي فرانكو، قصد دحضهم للتعجيل بجمع قلاعهم أو بالأحرى إسطبلاتهم التي نصبوها فوق قمم جبال الريف وسهوله عند المخارج والمنافذ، حتى يقفلوا عائدين أدراجهم من حيث أتوا بلا رجعة وغير مأسوف عليهم، لم يجد أسد الريف صدّا البتة من أحد من شيوخ القبائل وحكمائها، مع أنّ الريف من أدناه إلى أقصاه، زمن حرب الاستنزاف كان في وضع اجتماعي يرثى له، بحيث كان أيامئذ في شبه انعدام تام لأبسط شروط التأطير والتوعية وما إلى ذلك مما كان يفترض جدلاً أن يقف حائلاً في وجه انسيابية دعوة المجاهد الأمير، بمبرر الخصاص والغياب المهولين للمراكز ذات الأبعاد التربوية والبيداغوجية المنوطة بها مثل هذه الأدوار والمدارس التعليمية والمرافق العمومية، عدا المسيد والمسجد اللذان كان لهما كبير الأثر في البصم بنجاح على حرب المقاومة الريفية الشرسة ضدّ الأسبان وحلقيات الأسواق الأسبوعية التي أدت دورها الثانوي على الهامش كما تورد كتابات المؤرخين على هذا الصعيد. والحال حسب هؤلاء دائماً أن المنطقة لم تكن بالكاد تتوفر على طرق سيارة ولا مراكز استشفائية ولا قاعات سينما ولا جمعيات ولا ما يسمّى اليوم بهياكل المجتمع المدني ولا أحزاب ولا جرائد ولا حتى منشورات، إلا ما تيّسر من نزر قليل جداً من هذه الأخيرة، خلافا لما كان عليه الحال أيامها في مراكز حضرية بالمغرب النافع بين ألاف الأقواس، اللّهم بعض منجزات الأسبان التي همّت المجالين الاجتماعي والثقافي لاحقاً على ندرتها. ورغم هذه الظروف والعوامل غير المواتية بتاتا فقد خرج الريفيون حشوداً وأفواجا عرمرماً من كلّ فجّ عميق لأجل قضية عادلة آمنوا بها حتى النخاع ولا محيد لهم عنها مهما كلفهم ذلك دفع الثمن باهظاً، والمدهش حقّاً أن التاريخ لم يسجل ولو في إشارة واحدة تقهقر أيَّة قبيلة حسبما تذكره المصادر التاريخية الموثوقة في هذا الباب. فبصدور مفعمة بروح البسالة نزل الأهالي كافة، صغيرهم وكبيرهم، إلى معاقل القتال من أجل استرجاع حقّ مغتصب وحققوا بالتالي انتصارا تاريخيا مبينا في الأخير. واليوم، التاريخ يدوّن لهم في سجّله المُشرق نصرهم بحبر من ذهب والأمم قاطبة من مشرق الأرض إلى مغربها تنحني إجلالاً وإكباراً، تقديراً للريفيين الأشاوس وتحيّةً للبطل محمد عبد الكريم قائد أشرس مقاومة بشمال أفريقيا ضدّ العدوان الغاشم. أمّةٌ ذات جذور ضاربة في عمق القِدَمِ والزمان، وذات عراقة وحضارة ومجدٍ لامعٍ وبطولات خارقة وصفحات مشرفة في دفتر التاريخ الإنساني، كان على الضمائر الحيّة في هذه البلاد منذ احتفائها بعيدها الأول للاستقلال أن تقدرها حقّ قدرها، وتنصفها إنصافا كاملاً من حيث أنها أمة تتغذى من كرامتها، لا أن تذر الملح على جراحاتها الخاثرة مدراراً، وكذلك من منطلق أن تكريمها صدقاً بحقها المشروع في حياة كريمة كالتي يشهد التاريخ أنها لم تتقاعس عن الذود لنيلها على مرّ ماضيها، عرفاناً لها بما قدمته من تضحيات جسام في سبيل عزتها وفي سبيل توشيح هذا الوطن بوسام راية الاستحقاق من درجة "مستقل" بين سائر الأوطان، لأنّ الإنسان الريفي يستحق فعلاً من كلّ أمين، انطلاقا من أيّ موقع من مواقع المسؤوليات، تجسيد اعترافه لهُ بالملموس على أرض الواقع، وتحديدا أرض الريف التي تئن ليل نهار تحت وطئة التهميش والحرمان ومعادلات اجتماعية صعبة جداً! رغم أن الريفيين قاوَمُوا على غرار مواطنيهم في سائر ربوع المملكة لإيمانهم الأوحد الذي لم يتزحزح قيد أنملة بعدالة قضيتهم دونما انتظار لا يومذاك ولا يومنا هذا جزاء من أحد ولا شكورا. الريف الذي ما زال يعيش على عتبة جرح ينزف لم يندمل بعد، رغم وضع بلاسم له غير مجدية بالتأكيد في تعافيه، لا يريد من الوطن يا سادة لا امتيازات ولا حتّى هبات، كما لا يحّف نفسه بهالة نورانية حتى لا يُعتقد وهماً أنه عكس الآخرين ملاكٌ، غير أنّ القاعدة في عرف ناموس الوجع لمَّا تصل الطعنة العظم فقد يكون "الصراخ" حقّا مشروعاً كردّة فعل طبيعية وتلقائية تعبيراً عن أكثر الكلوم إيلاماً. ولعل الموجع حدّ ضربة سيف هو هدر أبنائنا الذين تلفظهم أمواج البوغاز جثثاً منفوخة على رمال شطآن المتوسطي، متخذين من قوارب الموت المسافرة خلف خارطة الوطن، قنطرة عبور إلى ضفة أحلامهم الأخرى، ابتغاءَ عيش كريم يوّفر لقمة عيش سائغة مع حفظ ماء الوجه. إذ بالاختصار المفيد، إنهم يتطلعون عبر ركوب أمواج البحار العاتية إلى آفاق أرحب وأوسع حيث يمكن للحياة استرجاع بريقها المفقود، وتذوق أسمى معانيها الضائعة، مع أنها في الواقع حياة بطعم المنفى والاغتراب والمرارة والتشرد في بلدان الناس. إنَّ الريف يا سادة جزءٌ أصيلٌ من هذا الوطن، وابن شرعيّ له كسائر أبنائه إذ لا فرز، ولكنه على غرار كل الأحرار والشرفاء، يتطلع لحياةٍ بطعم وطن الحرية والكرامة، فليس بالخبز وحده يحيى الإنسان، أما آن لكم أن تقرؤوا الرسالة!