أغلب كتابنا إن لم أقل جميعهم لا يتورعون في إبداء آرائهم حول كلّ شيء، حتى ولو لم يطلب منهم ذلك أحد، ومهما كانت هذه الأشياء التي ينيطون بها جدلهم ومواقفهم تافهة وعديمة الجدوى، الا أن يدلوا بدلوهم إزاء ما يتعلق بحال ديننا الحنيف الذي يدينون هم الآخرون به لا شك، إلى درجة تعتقد معها صادقا بأحد الاثنين، يا إما أن المعتقد الديني في عصرنا الرقمي أمر خرافي لم يعُد له وجود على الإطلاق سوى ما تبقى من شذرات "إيمان" مستقرة تتعشش في قلبك كحبات الخردل، وإما أن هؤلاء جميعا حسموا في أمر اعتقادهم مبكرا واختاروا أن يكونوا نسخا كربونية مكرّرة طبقا للنسخة الأصلية لقيدوم الجحود ورمزه أبو جهل وأبو لهب وسائر مشركي قريش. وفعلا، فمثقفونا وكتابنا الذين من المفترض أننا نعوّل عليهم باعتبارهم صوت الأمة وضميرها كما يقال قبل تحوّلهم في أيامنا الرديئة هذه إلى مجرد ظواهر صوتية تغرد خارج السرب وتسبح ضد التيار، صاروا يحشرون أنفهم في كلّ شاذة وفاذة، لا يستنكفون عن إطلاق كلامهم على عواهنه بخصوص مسألة ما، بالرغم من حالة اللاعلاقة التي تربط بعضهم بالمجالات التي يتهجون أبجديات الكتابة ضمنها، من أمور السياسة والاقتصاد وحقوق الإنسان والعلاقات الاجتماعية بين الأفراد وفي الشذوذ والإدمان بشتى أشكالهما والفن والثقافة والتلفزيون وهلم جرا. ولكن، حينما يتعلق الأمر برسالة السماء إلى البرية، فإن أقلامهم سرعان ما تخرس وتجّف وترّد إلى قرابها، كما لو كانت سيوفا منكّسة في أغمادها، بما أن ساحة الوغى حسب هؤلاء تؤشر ببوادر حرب خاسرة الداخل فيها مغامر أكثر منه باسل. وهكذا، أضحى للأسف سيل قليل من المداد في قضية دينية ما ذات أبعاد اجتماعية أو ثقافية أو أخلاقية لا يمكن حصرها بالضرورة داخل دائرة اختصاص الفقيه وحسب، بل تتعداه لتصبح نفسها ما يفترض أنها تشكل تحديدا صلب اهتمامات المثقفين وغيرهم، قضية خاسرة من أصلها ولا طائل وراءها. لهذا السبب بالضبط تجد الواحد منهم يضرب "الطم" على فمه للصوم الدهر بأكمله عن الخوض في مواضيع من هذا اللون سواء بالحسنى أو الإساءة، خشية من أن يرتبط صيت اسمه الذي كلفه حياته لأجل تلميعه أدبيا أو سياسيا بصورة ذاك "المتدين" الساذج الغرّ. أما القول بأن لكل تخصصّه فلماذا لا يذر المثقف عنه مواضيع عدة ذات أبعاد سياسية واجتماعية وتاريخية وإنسانية يضعها في صميم انشغالاته ما دام لكلّ ذي أمر شأن يغنيه؟ إذا كنّا نفهم دوافع نبذ المثقف الغربي في ما مضى لكل ما هو ديني بما في ذلك التنّصل من الحديث بشأن "الدين" وتحاشيه بالمرة لئلا يُوصف بألقاب قدحية عدة، نتيجة ممارسة الكنيسة الوصاية على المجتمع واستبدادها بالحكم في مرحلة تاريخية معيّنة عنى فيها الإنسان المسيحي البسيط الاضطهاد، فإننا بالمقابل لا نفهم صراحة ما علاقتنا كمسلمين بنموذج تجربة الدين المسيحي حتى نستنسخ منه الفلسفة نفسها التي نتعاطى بها مع ديننا. أما إذا كانت تعاليم ديننا السمح تمثل حرجا ومظهرا من مظاهر الرجعية ورمزا للتخلّف وصنم القرن الواحد والعشرين بالنسبة للبعض ممّن لا يتوانون في تقديم أنفسهم إلى المغاربة على صورة مثقفين "واعرين" لا يشق لهم غبار ( اللهم لا حسد ) بينما شهرتهم في الواقع بالكاد لا تتجاوز حدود المقاهي التي يفضلون فيها إفراغ مكبوتاتهم وثرثراتهم التي تبني مدينة فاس في يوم واحد وتهدّها في آخر، بزعم إبحارهم في الفكر والمعارف الفلسفية والعلوم وسبرهم أغوار ميادينها حتى قرار العمق، ما أتيح لهم ربما حيازة الحقيقة المطلقة دون علمنا وأنهم أولياء من أولياء مارد "العقل" وفطاحلة النبوغ الإنساني وجهابذته الخارجين لتوّهم من كهف عبقر، علاوة عن أنهم لم يتركوا شأنا دنيويا الا وخاضوه وتجربة حياتية الا وعاشوها، بما يغنيهم عن الإيمان بكتاب مبين يعتقده المغاربة صادقين بقلوبهم وعقولهم من زمان أنه منزل من عند ربّ عظيم هو الله الذي عنت إليه الوجوه في المحيى قبل الممات، ويُفهم كتابه على أنه ( كطالوك ) جهاز هذا الكون المعقد والعجيب، تماما كالكتيبات المرفقة معية مختلف الأجهزة الالكترونية، والرامية إلى إحاطتك جيدا بكافة معلومات الاستعمال الأمثل حتى لا تؤذيك الآلة أو تعطلها، فإنا نقول لهؤلاء تعالوا إلى كلمة سواء وفسّروا لنا نحن البسطاء بينكم كيف ظلّ هذا "الصنم" مدّة أربعة عشر قرنا ونيف صرحا قائما سامقا وشامخا استعصى إسقاطه حتى الآن، أمام ذروة "العلم" الذي لم يرتق عقل أحد بعد إلى حدّ التشكيك في قدرته الخارقة على الهدم وإعادة البناء مجددا لكلّ خربة قديمة مهما بلغت أساساتها عمق القرار، هذا ان دفعتهم الجرأة مقدما للتصريح علنا بما تضمره صدورهم ان كانوا على قناعاتهم ثابتين لا محيدين، ذلك أجدى لهم ممّا يخفونه، حتى يكونوا عن حق وحقيق مثقفين لا منافقين. وحبذا لو فسروا لنا أيضا كيف يكفرون بكلّ الأيديولوجيات التي آمنوا بها ويضربونها في "الصفر" هكذا دفعة واحدة متى حضر أحدهم اليقين بغتة، ولا يبقون سوى على إيديولوجية واحدة وهي الإيمان بالله عز وجلّ، ويصبحون على ما كانوا يخوضون فيه سلفا نادمين، ولهم في معبودهم "كارل ماركس" خير مثال حين لزم فراش المنية أخر أيامه قائلا: "أخشى أن يكون لهذا الكون إلاها". ما يحزّ في النفس حقا أيها القارئ الكريم هو أن يجادل في دين الله بغير علم ( ولو حدّ أدنى من الإلمام بشريعته ) مَنْ قال فيهم الرسول الكريم إذا هُم توّلوا شؤونكم فانتظروا الساعة، وحتى إذا سألت أشباه هؤلاء المتمركسون وأنصاف اللائكيون أيّ أمهات الكتب ينهالون ويغترفون منها علما، تكتشف فظاعة جهلهم بكتاب الله ولا يكادون يفقهون فيه قولا، وهم عن آياته غافلون، ولوه الأدبار وراحوا يتخذون من مؤلفات الفلسفات المادية الإلحادية لماركس ولينين معبدا مقدسا يخلدون إليه آمنين. بينما ثقافتهم الدينية بالكاد لا تتجاوز حدود "الشبهات" التي ينقبون عنها تنقيبا وسط ركام كتابات المستشرقين لإشهارها في وجهك أنت أيها المغفل الذي اتبعت ملّة أبائك المغفلين. ولعلّ النكرة المدعو مختار لغزيوي من أسوء النماذج التي ما ان أبدت رأيها بخصوص قضية ما الا وفقأت لها العين وقرأ المغاربة بعد ذلك اللطيف، كتصريحه مؤخرا ذات لقاء صحفي أجرته معه إحدى القنوات العربية، والذي جرّ عليه ويل سخط واستنكار شريحة عريضة من المغاربة، كما فتح عليه نار فقيه معروف بغلظة لهجته المتشدّدة وفضاضتها، حين انبرى للدفاع عن الحقوق الفردية للمغاربة بلغة وأسلوب أقرب ما ينتميان إلى قاموس الشارع. ولكن على الأقل لغزيوي يُشهر توّجهه الإيديولوجي صراحة دونما أن يخشى لائمة لائم، خلافا لنظرائه الذين ودوا إطفاء نور الله بأفواههم وما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. لذلك، تجدني أعود وأقول رغما عن كل شيء، أعتبر جريمة الصمت غير البريء طبعا لجزء من نخبتنا، اتجاه "الإسلام السمح" وحيادها السلبي أحيانا، حسنة ما بعدها حسنة، فهي على الأقل تريح المغاربة من غوغائياتها ما دام الأمر واضحا من بدايته، بحيث أن الجماجم مدجنة بالفرانكفونية اللصيقة بالإلحاد كموضة عصرية حتى أنها بالمناسبة أوشكت على الاندثار، ومؤدلجة بالعلمانية التي لا يفقهونها الا على النسق الذي يفيد أنها تهتم بدراسة شؤون أسفل الحزام، وفق ما يصوره لنا علمانيو المغرب الأجلاء. غير أنه ليس لأحد أن ينكر أن رشيد نيني الأوسع شهرة وسط النخبة، كان أول المثقفين السبّاقون إلى إشهار حبّه علانية وباستمرار لانتمائه العقدي دونما أن يجد في صدره حرج، كما لم يتحوّل ذلك على سمعته الأدبية وبالا، على العكس مما قد يظنه المثقفون، فمن قرأ بعين متبصرة وثاقبة ما وراء السطور لمقاله الأخير "استراحة محارب" عقب خروجه من السجن، يستشف بالواضح أن الرجل أضحى بفعل استغراقه في التأمل والعودة إلى الذات لتفقد هوامش منسية وقصية داخلها طيلة سنة كاملة من العزلة والفردانية، أشبه ما يكون بمتصوّف كبير. فما بال نخبويينا الانتلجينسيين من هذا الاستنباط! دام فضلكم. بالنسبة إليهم، قد يكون صميم هذا الكلام كلّه ضرب من الخرافة والأساطير من وحي نسج الأولين نلوكها نحن جيل القرن الواحد والعشرين معاصري زمن تفكيك الذرّة والسفن الفضائية والمفاعل النووية، ولكن نقول لكلّ دينه، من منطلق إيمان الجميع بحرية الاعتقاد ومبدأ التعدد والاختلاف، مبدأ كافة الأديان السماوية والتشريعات الوضعية، التي تدعوا جميعها قبل أي اعتبار آخر إلى ضرورة التآخي والتآزر بين جميع الناس باختلاف مشاربهم وأنسابهم وعقائدهم. عدا هذا فما تبقى من قول هو مجرد إشارة أود من خلالها توجيه عناية القارئ الكريم إلى أني لم أتطرق للكتابة عن طبيعة علاقة مثقفينا بدينهم ( ديننا جميعا ) لأشتري به ثمنا قليلا أو أسوّق عن شخصي صورة منمّقة ليست تغنيني عن جزاء الله الذي أؤمن به كغيري، شيئا. وختاما، هذا مجرد رأي، وطبعا من شاء من مثقفينا فليؤمن ومن شاء فليجحد، وأصدق الكلام ما قاله المغاربة أيام زمان "كل نعجة كتعلق من كراعها" وانتهى الأمر.