ان هذه الاعتقالات والمحاكمات التي تطال نشطاء الحركة الاحتجاجية بشكل ممنهج ووفق أجندة الحكومة في الريف الكبير أفرزت عدة استنتاجات. أولا, إن القضاء المغربي برهن على ولائه المطلق واللامشروط للجهاز التنفيذي رغم روح التعديلات الدستورية الاخيرة الشبه الاحادية التي تنص على ضرورة الارتقاء باستقلالية و مصداقية القضاء المغربي. ثانيا, إن الحكومة المغربية ما زالت تنهج نفس السلوك القديم(القمع والتهميش في عهد الحكومات السابقة) في تعاملها مع أي صوت شعبي ينادي بالتغيير الحقيقي. ثالثا, إن الحكومة من خلال اعتقال أو خطف ومحاكمة نشطاء الحركة الاحتجاجية الشعبية تعزز الطرح السائد في أوساط المجتمع المغربي بأن الحكومة ماهي إلا مجرد أداة تحركها حكومة الظل التي هي المسؤولة الحقيقية على إدارة الشأن الداخلي والخارجي وبعبارة أخرى أن الحكومة العامة تحت التصرف المباشر لحكومة الظل المكونة من أفراد لهم تاثير قوي في تحديد توجهات الحكومة العامة. كل هذه الاستنتاجات السائدة تحتوي على مصداقية عالية وبالتالي فهي مقبولة. من هذا المنطلق, أن هذا المقال سيركز بالتحديد على تحليل تصرفات وسلوك الحكومة الممنهج ضد نشطاء الحركة الاحتجاجية في الريف الكبير من خلال نظرية بناء سمعة خشنة ولعبة الاشارة. (a tough reputation-building) نظرية بناء سمعة خشنة ولعبة الاشارة: توضيح المفاهيم العامة
إن نظرية بناء سمعة خشنة وقاسية توظف في عدة ميادين. لكن هذه الورقة ستحاول شرح مفاهيمها بأخذ النزاعات الترابية كمثال ثم بعد ذلك ستوظفها لتفسير سلوك الحكومة تجاه نشطاء الحركة الاحتجاجية. عندما يكون هناك اطراف متعددة تتمتع بتأثير قوي داخل دولة واحدة تطالب بالانفصال او الحصول على جزء ترابي تضطر حكومة الدولة إلى الاستثمار في هذه السمعة واستعمال القوة لمواجهة هذه المطالب ورفض الدخول في مفاوضات مع هذه الاطراف ورفض تحقيق مطالبها. إن استعمال القوة ضد طرف من هذه الاطراف يجعل الاطراف الاخرى مقتنعة بأن الحكومة سوف تنهج نفس السلوك ضدها في المستقبل. وبالتالي تكف على رفع مطالب مرتبطة بتحقيق المصير (Barbara F. Walter 2003, 140). وهنا حكومة الدولة تمارس الردع كوسيلة لإسكات الاطراف الاخرى و ايضا تريد أن ترسل إشارة قوية الى كل الاطراف بأنها ترفض بأي شكل من الاشكال الانصياع لأي مطلب ذات صلة بتحقيق المصير. فالحكومة الاسبانية مثلا لايمكن ان تمنح استفتاء تحقيق المصير لمنطقة الباصك لأن ذلك سيخلق سابقة وسيجعل باقي الاطراف في المناطق ذات الحكم الذاتي برفع نفس المطالب ككتالونيا وكاليسيا(Ibid ,140) . باختصار, إن اي حكومة تستثمر في بناء سمعة خشنة وقاسية وتستعمل القوة ضد طرف ما يطالب بحق تحقيق المصير من اجل ردع الاخرين من رفع نفس المطالب في المستقبل. بعد شرح مفاهيم هذه النظرية في ميدان النزاعات الترابية بشكل عام, ستحاول الورقة توظيف هذه المفاهيم العامة من اجل فك لغز سلوك الحكومة المغربية تجاه الحركة الاحتجاجية في الريف الكبير.
الحكومة المغربية وسمعة الخشونة
إن الحكومة المغربية منذ تدشينها وهي تستثمر في بناء سمعة خشنة وقاسية ضد اي صوت شعبي ينادي بالإصلاح والتغيير الحقيقي. وبالتالي فهي لا تأخذ الحوار البناء الجدي والاستشارة السياسية لمختلف مكونات المجتمع المدني المغربي كإستراتيجية طويلة المدى لحل مشاكل السياسة السفلى (low-politics)كالمشاكل الاجتماعية, الاقتصادية,الصحية و التعليمية. هذه السمعة بدأت تتبلور عندما لجأت الحكومة المغربية إلى استعمال القوة المفرطة ضد متظاهرين سلميين في بني بوعياش وضواحيها. إن لغة العنف والقوة المفرطة ضد نشطاء الحركة الاحتجاجية الشعبية تزكي المقولة الشعبية أن الحكومة تعهدت أمام جهة معينة بإخماد كل الاشكال الاحتجاجية والقضاء عليها حتى تتمكن من الحصول على رضها. ان إقدام الحكومة على اعتقال او خطف ومحاكمة نشطاء الحركة الاحتجاجية في بني بوعياش على سبيل المثال تطبيق مثالي لنظرية بناء سمعة خشنة وقاسية. والهدف الاساسي من هذا التطبيق هو ثني كل نشطاء الحركات الشعبية بالمغرب من مواصلة احتجاجاتهم المطالبة بالتغيير الحقيقي. وأيضا الحكومة تريد أن ترسل رسالة مفادها أن كل من سولت له نفسه القيام بالأشكال الاحتجاجية سوف يلقى نفس المصير الذي تعرض له نشطاء الحركة الاحتجاجية في بني بوعياش. وهنا الحكومة ترفض الدخول في حوار سياسي جاد مع كل مكونات المجتمع المدني لأنها أولا غير قادرة على تلبية مطالبهم وثانيا عاجزة على وضع خطط عمل ناجعة لحل المشاكل بشكل تدريجي ومطمئن وثالثا تخاف من تصعيد الاحتجاجات وانتشارها بشكل لم يسبق له مثيل. إذن إن لغة الاعتقالات والمحاكمات, في تصور الحكومة, هي اجراءات إستباقية بالدرجة الاولى لإسكات أصوات التغيير الحقيقي وزرع الخوف والرعب في عقل نشطاء الحركة الاحتجاجية في أرجاء التراب الوطني وبالتالي ثنيهم عن القيام بالأشكال الاحتجاجية المشروعة.
في الختام, إن تطبيق الحكومة لنظرية سمعة الخشونة ولعبة الاشارة من خلال اعتقال ومحاكمة نشطاء الحركة الاحتجاجية يعبر عن قصر النظر لدى فريق الحكومة المغربية وفشلهم في وضع سياسات فعالة وطويلة الامد وبمشاركة المجتمع المدني من خلال جسور الحوار وتبادل الافكار المناسبة لحل المشاكل المتراكمة التي تتخبط فيها الدولة المغربية. ان الحكومة وبتعنتها المستمر من خلال تطبيق نظرية سمعة الخشونة يمكن أن تخمد الحركات الاحتجاجية على المدى القصير ولكنها ستفشل في وضع حد لها على المدى البعيد. باختصار ,في تصوري, إن اعتقال ومحاكمة نشطاء الحركة الاحتجاجية الشعبية لن يؤدي على الاطلاق الى حل المشاكل بل في حقيقة الامر سيؤدي الى تأجيج الاوضاع وإدخال المغرب في مصير مجهول إذا لم تعمد الحكومة الى إعادة ترتيب أوراقها وإظهار ارادة سياسية حقيقية مصحوبة بخطط عمل فعالة وبمشاركة كل مكونات المجتمع المدني في صياغة السياسات العامة.