يقف المغرب السياسي على حافة انتظارٍ محفوفٍ بالكثير من التشكيك وعدم الثقة .. انتظارٌ لولادةِ حكومةٍ تدل كل المؤشرات على أنها ستكون ولادة قيصرية، ستتدخل فيها الكثير من الأطراف، وستتجاذبها العديد من الحساسيات والسلط، وستنتهي على أرضٍ متحركة لا تكاد تستقر لتميل من جديد. ما سماه الإعلام ب"البلوكاج" هو فعلا رسالة واضحة إلى إسلاميي الحكم، أنهم كائنات غير مرغوب فيها لتحمل مسؤولية الحكم لولاية جديدة. فلقد تعددت الإشارات قبل الانتخابات، وبعدها. ولقد حاول المغرب السياسي العميق أن "يغمز" في أذن هذا التيار الذي جرب حظه مع الحكم خلال ولاية حكمية كاملة، أنه أضحى غير مرغوب فيه، وعليه أن يفهم الرسالة إن لم يفهم الإشارة. وعلى السيد بنكيران، الذي نقلت الانتخابات حزبه إلى احتلال المرتبة الأولى، أن يفهم أنه لم يقطع الواد بعد، وأن المعركة الحقيقية هي هذه التي يُمَانِعها وتُمَانِعُهُ، وأن النظام الانتخابي المغربي الذي لا يخول لأحد أن يحرز على الأغلبية المريحة هو الفيصل أمام أي رغبة في الاستفراد بالقرار، وطرح الشروط على طاولة المفاوضات. فما عرفته انتخابات الرابع من شتنبر، مما استعصى على فهم السيد بنكيران ولا زال يجتره في مجالسه الحزبية، حينما نقلت التحالفات، غير المتجانسة، إلى سدة رئاسة مجالس الجهات والأقاليم جماعة من "المتكربعين"، في الانتخابات، يمكن أن يتكرر، بل سيتكرر مع هذه التحالفات التي كلما حاول السيد بنكيران أن يرممها من جانب انفلتت من جانب. فبعد أن ضمن السيد بنكيران حليفه الرئيس التقدم والاشتراكية إلى جانبه، واستأنس ب"وعد" الاستقلال، ظلت محاولاته مع باقي الأحزاب يكتنفها الكثير من اللاوضوح، وعدم الثقة؛ بل أصبحت تتطور إلى تراشقات وشكوك تنذر بالزيادة في تعقيد الانفتاح على المزيد من المشاورات التي ستتحول، إن تمت، إلى الرفع من سقف المطالب، والشروط، ووضع السيد بنكيران بين سِنْدان القبول بالابتزاز مقابل تشكيل حكومة من عدة رؤوس حاكمة، ومطرقة رفع الراية البيضاء، والاستسلام، وتسليم المفاتيح إلى الملك لاتخاذ القرار. ولئن كان هذا الخيار الأخير مستبعدا جدا، رغم تلويح السيد بنكيران به في أكثر من تصريح، فإن السيناريو الذي يتماشى مع "عقيدة" السيد بنكيران هو الاستمرار في المفاوضات إلى النهاية، وتشكيل الحكومة كيفما كان الثمن؛ وذلك لسببين اثنين: الأول: لأن السيد بنكيران يعلم أن "البلوكاج" الذي يفرمل المفاوضات الجارية هو امتداد للحرب التي خاضها ضده "التحكم" منذ أزيد من سنة. لذلك فهو يسعى إلى كسب معركته الجديدة هذه ضده، بعد أن كسب المعركة الانتخابية، باستمالة حلفائه، وسحب البساط من تحته لتفويت فرصته في إفشال تشكيل الحكومة، مهما كان الثمن. لأجل ذلك، لا نستبعد، أن يقبل السيد بنكيران بكل الشروط، حتى غير المعقولة منها، التي يطرحها "الأحرار"، مقابل ضمه إلى الحكومة. خصوصا وأن الأحرار قد أصبح، بالإضافة إلى علاقة قيادته الجديدة بالدولة العميقة، يفاوض من داخل حلف حزبي وازن يضم إلى جانب الحركةِ الشعبيةِ، والاتحادِ الدستوريِّ، الاتحادَ الاشتراكيَّ الذي التحق مؤخرا بهذا الحلف، في محاولة لكسب ود الدولة العميقة، والانضمام إلى تشكيلة حكومية محتملة تضم الحليف السابق "البام" في حالة ما إذا فشل السيد بنكيران في تشكيل الحكومة وقدم المفاتيح، وأعيدت الانتخابات !!. فلقد سبق للسيد بنكيران أن اتخذ قرارات مجحفة، من داخل الحكومة السابقة، في حق أصحابه الوزراء مقابل تقديم ترضيات لفائدة وزراء من الأحزاب الحليفة، حفاظا على لحمة الحكومة من التصدع. فكان يفضل المس بصلاحيات وزراء العدالة والتنمية، بل بصلاحياته شخصيا كرئيس للحكومة، على أن يرفض "نزوة" عابرة لوزير قد تجر عليه سخطا يربك مسار الحكومة، ويهدد مستقبلها، ويشمت فيه الخصوم. لذلك، لا نستبعد، أبدا، أن يعالج السيد بنكيران هذا الوضع، من موقعه السياسي البراغماتي، بقبول الشروط المجحفة إياها(منها فك الارتباط مع الاستقلال)، لربح رهان تشكيل الحكومة، أيُّ حكومة!!، وتفويت فرصة "البلوكاج" على خصومه الجذريين. على خلاف ما يدعيه العديد من أنصار الحزب الذين يرفعون، على الورق، عتبة التحدي إلى أقصاها، ويتوهمون شجاعة تصدر من الزعيم، توقف مسار التفاوض، وترد الملف إلى المربع الأول !!. الثاني: لأن تقديم السيد بنكيران للمفاتيح كما يروج أتباعه، أو كما يهدد هو نفسه به في بعض خرجاته، لا ينسجم مع ما عرف عن الرجل من حرصه المستميت على الحكم. وهي "عقيدة" نبتت مع السيد بنكيران منذ ثمانينيات القرن الماضي، وعليها أسس مساره السياسي، والحزبي، وسعى إليها بتؤدة، وحنكة، وصبر حتى نالها، ولا أتصور السيد بنكيران خارج رئاسة الحكومة، على الأقل خلال هذه الولاية المقبلة، ولو كان ذلك على رأس حكومة من 120 وزيرا.. ولو كان ذلك على قاعدة شروط لا يقبل بها عاقل. ولإخوان السيد بنكيران أن يقولوا ما يشاؤون، وأن يدافعوا عن زهد الزعيم، وحرصه على احترام ذكاء المواطنين، واختياراتهم، ولكن عليهم أن يعلموا أن الزعيم يواجه اليوم "الباب المسدود"، ولا مناص له من الخروج من هذه الضائقة للحفاظ على مشروعه الحكمي الذي أكد في خرجته الأخيرة أنه مشروع "كوفئ به الإخوان جراء صبرهم وإخلاصهم"، إلا بالقبول بشروط "البلوكاج" التي تبقى، بمنطوق السياسة، أهون تكلفة عليه وعلى البلاد من انتخابات سابقة لأوانها. فنحن في المغرب ولسنا في إسبانيا!. كما على هؤلاء "الإخوان" أن يعلموا أن الصالون الذي تدبر فيه التحالفات، ليس صالونا بمقر الحزب، وإن بدا لهم وللإعلام كذلك، بل هو صالون من داخل الدولة العميقة التي تؤسس لمسارات التحالف على شروط المساواة في الامتداد الحكمي؛ فلا فضل لحزب على حزب إلا بمقدار الرضا بما قسمت هذه الدولة. إذ في هذا الصالون، ينتهي كل حديث عن الرابح والخاسر، وينتهي كل حديث عن الانتخابات ونتائجها وفرحتها. فالكل سواء، لا فرق بين 37 مقعدا و125 مقعدا. فإما أن يقبل السيد بنكيران بشروط اللعبة، وإلا سيستمر عليه "البلوكاج" إلى حين الاستسلام لها. والراجح عندنا، وللأسباب الآنفة، أن السيد بنكيران سيستسلم، وسيقبل بالشروط، كل الشروط، بل سيسعى لإقناع الإخوان بسداد اجتهاده، وسيصفقون له كما صفقوا له يوم تحالف مع "الأحرار" في الحكومة السابقة بعد طولِ عَداءٍ، وستتشكل حكومة من خليط يرضي كل المتهافتين على القصعة، وسنسمع للتبريرات، والتفسيرات، والتأويلات،...حدَّ الشبع، وسيستمر التلاعب ب"أحلام" الناخبين،...إلى حين!. فالسياسة مصالح، وممارستها لا تؤمن بالعواطف، ولا تعتقد في الأحلام. فلا تحلموا كثيرا، يا سادة، فلا زال بيننا وبين الانتقال الديمقراطي الحقيقي سنوات وعقود!!. دمتم على وطن.. !!