بدأت معركة الانتخابات التشريعية باكرا هذا العام، وهذا مفهوم لأن الدستور الجديد فتح اللعبة الانتخابية على رهانات سياسية كبيرة، وأصبحت الحكومة ورئيسها يخرجان من صندوق الاقتراع وليس من دار الحكم في القصر الملكي، كما أن الدستور الجديد جعل من رئيس الحكومة مؤسسة مركزية في صناعة القرار، بعدما كان من قبل مجرد وزير أول لا يهش ولا ينش. زد على هذا حرارة الصراع بين «البام» و«البي جي دي» على من يفوز بالمرتبة الأولى ولو بمقعد واحد. إذن، من الطبيعي أن تعرف الانتخابات التشريعية المقبلة معركة ضارية بين الأحزاب المتنافسة وبين وزارة الداخلية، التي تعتبر مطبخا سياسيا لحماية لعبة التوازنات التاريخية في المملكة، وعدم ترك عجلة الانتخابات تدور بحرية كاملة. بمعنى آخر، الانتخابات في المغرب ليست شأنا حزبيا، بل هي قضية دولة، ولهذا دائما ما يكون هناك إعداد لهذه الولادة السياسية القيصرية.. لا يوجد حمل طبيعي وولادة طبيعية لإرادة الأمة. قبل يوم الاقتراع هناك دائما يد تتعهد التخصيب وتشرف على الوضع، لكن هذه العملية صارت معقدة اليوم أكثر، لأن الدولة لا تريد أن ترجع إلى انتخابات إدريس البصري المغشوشة والمفضوحة، لكنها، في الوقت نفسه، لا تقدر على كلفة انتخابات حرة مائة في المائة، لأن صحة النظام الانتخابي لا تحتمل مغامرة من هذا النوع، والحل هو «الإعداد» و«تهييء الجو»، و«معالجة القوانين الانتخابية»، والتشاور بين كل الأحزاب، الصغيرة والكبيرة، الموجودة في الحكومة والجالسة في المعارضة. الجميع يشارك في الإعداد لليوم الكبير، من وضع اللوائح الانتخابية، إلى طريقة احتساب الأصوات.. هذا معناه أن الإعداد للانتخابات ليس سياسة عمومية في يد الحكومة المنتخبة، بل هو ثمرة مشاورات وترضيات، وحسابات صغيرة وكبيرة بين كل الأحزاب وبين المطبخ السياسي للدولة.. وزارة الداخلية، وهذا بخلاف المعمول به في كل الدول الديمقراطية. لا تصدقوا حكاية «الإشراف السياسي» لرئيس الحكومة على الإعداد للانتخابات، هذا أمر غير دقيق اللهم إذا اعتبرنا أن لقاءات الدردشة التي يقوم بها رئيس الحكومة مع الأحزاب هي الإشراف السياسي. رئيس الحكومة لا يتوفر على الوسائل التي تجعله يشرف على الانتخابات، ورئيس الحكومة لا يتمتع بالهامش الكبير الذي يجعله ينظم انتخابات مفتوحة وحرة ونزيهة بدون «معالجات ورتوشات». بنكيران في أفضل الحالات، يمارس نوعا من الضغط لمقاومة بعض القوانين والإجراءات والتدابير، التي يرى أنها لا تخدم شفافية العملية الديمقراطية أو تضر بحزبه.. ولأن رئيس الحكومة يسعى إلى طمأنة الجميع، وزرع بذور التطبيع، فإنه، في الوقت نفسه، يعول على الشعب وعلى مدفعه التواصلي لتقليل الخسائر. اليوم يطالب حزب الاتحاد الاشتراكي بإلغاء عتبة %6 في الانتخابات التشريعية المقبلة، بدعوى السماح للتعددية بالانتعاش، والسماح للأحزاب الصغيرة بدخول مجلس النواب. كنت أتمنى ألا يأتي هذا المقترح من حزب ناضل لعقود من أجل عقلنة المشهد الحزبي، وقدم عشرات المذكرات يقترح فيها جعل العتبة الانتخابية %10 من أجل منع البلقنة، ومن أجل تسهيل تشكيل الحكومات المنسجمة… الآن صار حزب القوات الشعبية يعتبر نفسه حزبا صغيرا لا يقدر على القفز فوق عتبة %6، التي سيشكل زوالها عقابا للأحزاب الكبرى وعودة إلى البلقنة، ونكسة للعقلنة الحزبية في بلاد لا تشكو التعددية الشكلية، بل إن ديمقراطيتها تشكو «البوتيكات السياسية» والأحزاب «الكارطونية» التي تبيع وتشتري في التزكيات الانتخابية، ولا تقدم أي قيمة مضافة إلى المشهد السياسي. خذ، مثلا، كيف سيؤثر زوال العتبة الانتخابية الموجودة في كل الدول المحيطة بنا على الأحزاب الكبرى، وعلى عدالة توزيع الأصوات. لنفترض أن دائرة انتخابية فيها ستة مقاعد، صوت فيها 150 ألف ناخب على 15 قائمة حزبية، حيث فازت القوائم الخمس الأولى ب120 ألف صوت، متجاوزة عتبة 9 آلاف صوت (%6 من 150 ألف صوت)، فيما ذهبت الأصوات المتبقية (30 ألف صوت) إلى العشرة أحزاب المتبقية. إذا كنا إزاء عتبة %6، فهذا معناه إزاحة 30 ألف صوت، التي ذهبت إلى الأحزاب غير المتوفرة على العتبة، من الحساب، وقسمة 120 ألف صوت على ستة مقاعد لنحصل على القاسم الانتخابي الذي هو 20 ألفا، وهذا معناه أن الحزب الذي حصل على 50 ألف صوت سيأخذ ثلاثة مقاعد، والذي حصل على 25 ألفا سيأخذ مقعدا واحدا، والذي حصل على 20 ألف صوت سيحصل على مقعد واحد، والحزب الذي حصل على 15 ألف صوت سيحصل على مقعد واحد، والذي حصل على 9000 صوت لن يأخذ شيئا… هذا الحساب يبدو منطقيا لأنه أعطى للحزب الذي حصل على حوالي نصف الأصوات المحتسبة (50 ألفا من 120 ألفا) نصف المقاعد. لنرَ الآن كيف ستتحول الأرقام إذا حذفنا العتبة في الدائرة نفسها، حيث سنحتسب كل الأصوات المعبر عنها (150 ألفا صوت)، وسيصبح القاسم الانتخابي هو 25 ألف صوت (150 ألف صوت مقسومة على ستة مقاعد)، حيث سيأخذ الحزب الأول الذي حصل على 50 ألف صوت مقعدين، والثاني صاحب 25 ألف صوت مقعدا واحدا، والثالث صاحب 20 ألف صوت مقعدا واحدا، والرابع صاحب 15 ألف صوت مقعدا واحدا، وصاحب 9000 صوت مقعدا واحدا (مول 50 ألف صوت يأخذ مقعدين ومول 9000 صوت يأخذ مقعدا.. هل هذا عدل؟). ستتفرق دماء الأصوات بين خمسة أو ستة أحزاب، وهذا معناه ثلاث نتائج كارثية؛ أولا، سنضرب عدالة توزيع الأصوات وإرادة الناخبين، حيث سيأخذ صاحب 9000 صوت مقعدا واحدا، وصاحب 25 ألف صوت مقعدا واحدا، وهذا له اسم واحد هو النصب. ثانيا، سندفع إلى مجلس النواب خمسة عشر فريقا برلمانيا وأكثر من 20 حزبا. وثالثا، سنصعب ميلاد حكومات منسجمة وفعالة، وسيصبح رئيس الحكومة مشلولا طوال ولايته الانتخابية.