بدون سابق انذار وفي غفلة منا بدون استئذان تتسلل إلى غياهب ذاكرتنا صور لأشخاص طبعوا حياتنا دون ان تكون لنا الجرأة في نسيانهم او تجاهلهم، شكلوا لنا نافذة على عالم العلم و المعرفة ونحن، آنذاك، في عالم لا ندري ماهية الاشياء وتأويلات المواقف ومرامي التضحيات. تختزن ذاكرتنا صورا لأناس لا زالوا يشكلون، لبعضنا، نبراسا يتراءى في شموخ حاملا معه يافطات العلم و المعرفة, نبراس لن ينجلي بمرور السنين ولا بتجاعيد الزمن على قسمات الوجوه ولا ببياض بعض شعيرات الرؤوس وإنما سيرافقنا إلى الثرى لينبعث من جديد مع جيل جديد حاملا معه نسائم أرض سقيت تربتها بهامات علمية سجلت أسماءها في سجلات التاريخ العالمي. الوجوه التي أنارت طريق العلم والمعرفة أمام أجيال من تلاميذ منطقة أيت باها أودرار كثيرة إلا أن اكثرها رسوخا ظلت، وبدون منازع، صورة أستاذ شغل الناس، تلامذة وزملاء، باحترامه الكبير ولباقة تصرفاته وأسلوب شخصيته المتميز ووفائه لمهنة التدريس التي شغفته حبا... إنه الاستاذ الجليل ابراهيم جنا، أستاذ اللغة العربية بإعدادية الفرابي بأيت باها. وعليه سنحاول في هذه الورقة تسليط الضوء على بعض الجوانب من مسار حياته في أفق إنجاز ترجمة وافية لتضحياته وأعماله. من ڭلّويت إلى إنزڭان وسط جبال لْكْسْتْ بدوار ڭلويت، قبيلة توزوين، جماعة تارڭا نتوشكا، أطلق إبراهيم جنا صرخته الأولى في يوم من ايام شهر من شهور سنة 1959 معلنا عن قدومه إلى عالم محروم من ابسط الشروط. دوار ڭلويت شكل عالمه الاول بامتياز حيث قضى سنواته الاولى في كنف والديه. وكحال أقرانه من ابناء دواره، كان مسيد الدوار مزاره ووجهته التي لا يتخلف عنها أحد من بني جلدته. وجهة لم يستقر بها كثيرا حيث كان يستعصى عليه حفظ اللوح واستظهار ما يحمله من آيات قرآنية امام فقيه لا يتردد في التهكم عليه مرددا عبارة لا زال ابراهيم جنا يتذكرها: " أڭلت اوكان أياشهبون أما اورا تحسوت اورا تحسوت" أي "علق لوحك أيها الاشهب فإن حفظك للوح ميؤوس منه ". سيرافق الطفل إبراهيم عمه الحسن جنا -قيدوم الكتبيين بإنزڭان- إلى عالم آخر متمدن لا يلجه إلا المحظوظون من أبناء ذلك الزمان تاركا معه عالم القساوة والحرمان، ليكون هذا الموقف بمثابة البوصلة التي غيرت اتجاه حياته. أيامه الاولى بمدرسة الموحدين, ثاني أقدم مدرسة بإنزڭان، لم تكن مفروشة بالورود، بل واجهته عدة مشاكل وأهمها اللغة؛ فكيف لطفل امازيغي أن يساير دروسه بلغة غريبة عنه؟ حال جعلته ينطوي على نفسه ويميل إلى العزلة أكثر وعدم الانسجام مع جماعة الفصل. حالته الانطوائية تلك، لاحظها استاذه محمد زكي فعالجها من خلال إشراكه في الدروس بتوجيه اسئلة إليه بتاشلحيت ومساعدته على تعلم لغة التدريس. مساره الدراسي كان موفقا إلى أن نال شهادة القسم الخامس ابتدائي سنة 1971، لتكون إعدادية وثانوية عبدالله بن ياسين وجهته الموالية ومبلغ علمه حيث قضى بها ست سنوات ونال بها شهادة البكالوريا في الأداب العصرية سنة 1978. عن هذه المرحلة من حياته يقول إبراهيم جنا: "عمي الحاج الحسن له الفضل فيما انا عليه اليوم، فهو من أخرجني من ظلمات منطقة لا تتوفر على بنيات تحتية و لا على مؤسسات تعليمية إلى النور، نور يتجسد في ولوجي إلى التعليم ومحاربة جهل كان قاب قوسين أن يكون مصيري كما وقع لأقراني الذين لم يبرحوا المكان (...) قدومي إلى إنزكان رفقة عمي –أبي الروحي- جعلني ادرك الفرق بين العالمين الحضري و القروي؛ و وجدت نفسي كمن يسقط من نخلة في اتجاه أعماق بئر، كل شيء كان بالنسبة لي غير مألوف لطبيعة المدينة التي استقبلتني أولا ولاكتشافي لهذا العالم الجديد بالنسبة لي ثانيا (...)" أيام رباط الفتح: سنوات التحصيل الجامعي ككل شباب الجنوب المغربي، سيشد ابراهيم جنا الرحال إلى مدينة الرباط لمتابعة دراسته الجامعية، حيث سيسجل في شعبة اللغة العربية وآدابها بجامعة محمد الخامس، اختيار له مبرراته، يتجسد أساسا في إعجابه بأستاذين، الأول يتعلق بالأستاذ محمد زكي بالسلك الابتدائي و الثاني يتعلق بالأستاذ ابراهيم شكري بالسلك الإعدادي الذي كان يعشق لغة الضاد ويعتبرها خبزه اليومي، ويعود الفضل إلى هذا الشخص في تحبيب مهنة التدريس لابراهيم جنا .... عاش ابراهيم جنا في الحي الشعبي يعقوب المنصور بالرباط من خلال اكترائه لغرفة يسكنها رفقة زملائه. في هذه المرحلة سيحس ابراهيم جنا بغربة من نوع خاص، لأول مرة سيحس ببعده عن أهله وسينتظر بفارغ الصبر أيام العطل لزيارتهم. عن ما يميز ابراهيم في هذه المرحلة يقول: "لم أكن قط تلميذا متميزا، تحصيلي الدراسي كان لا بأس به، لكن إصراري على التحصيل الدراسي وحاجتي إلى عمل جعلني أكتفي بشهادة الإجازة دون أن أواصل دراساتي على مستوى دبلوم الدراسات المعمقة أو على مستوى الدكتوراه، فحالة أسرتي الاجتماعية لم تسمح لي بذلك... ". أيام التدريس الأولى: المنطلقات و التحديات في سنة 1983 سيحصل الاستاذ ابراهيم جنا على الاجازة من شعبة اللغة العربية وآدابها، وسيلتحق بإعدادية سيدي الحاج الحبيب بمدينة بيوكرى في إطار الخدمة المدنية حيث ستوكل إليه مهمة تدريس مادة التربية الإسلامية لسنتين. تجربة يعتبرها الاستاذ جنا هامة في مساره العملي، استطاع أن يفرض فيها شخصية الأستاذ الناجح على التلاميذ وإن كان منهم من يكبره سنا وجسما. بعدها سيلتحق بالمركز التربوي الجهوي لإنزكان حيث سيتخرج منه كأستاذ للغة العربية سنة 1986 ليتم تعيينه بمدينة طانطان بإعدادية علال بن عبدالله. بعد ثلاث سنوات من عمله بهذه المؤسسة سيتم إلحاقه بثانوية محمد الخامس بنفس المدينة حيث درّس تلاميذ الثانوي لمدة أربع سنوات. عن هذه التجربة يؤكد الاستاذ جنا انها كانت مرحلة مهمة في حياته استطاع ان يتغلب فيها على تحديات و أن يبصم مساره العملي بشخصية قوية ومنهج موفق سار عليه طيلة حياته المهنية. فبعد ان أسندت إليه مادة التربية الاسلامية لتدريسها بدون أي تكوين بيداغوجي وبعد أن أسندت إليه أقسام الثانوي استطاع ابراهيم جنا أن يكون عند حسن ظن الجميع وأن يقوم بالمهمة على احسن ما يرام. تجربة أفادته كثيرا وبصمت تعامله مع فرقاء عدة وجعلته يدرك أن شخصية الأستاذ تفرض من البداية وأن نجاحه العملي يرتبط بهذه البداية. أيت باها : العودة إلى الأصل أصل بعد تجربة طانطان المهنية التي دامت زهاء 7 سنوات، سيعود ابراهيم جنا إلى موطنه الأصلي سنة 1993. سيطيب له المقام بأيت باها منذ ذلك التاريخ إلى اليوم، وهو ما خوله أن يكون قيدوم أساتذة إعدادية الفرابي بل وأمين سرها. سيبدأ عمله التدريسي بأقسام مدرسة طارق بن زياد وحجرات دار الطالب، قبل أن ينتقل إلى البناية الجديدة للإعدادية في موسم 97/98. الانتقال إلى أيت باها للتدريس كان وراءه طموح لخدمة المنطقة وأهلها. يرى انه من الواجب عليه ان يساهم في إنارة طريق المعرفة أمام أبناء المنطقة الذين لم تسعف الظروف ذويهم للتعلم. ولكونه من المحظوظين المتعلمين فقد ارتأى أن يناضل على حق التعلم من اجل ابناء منطقته وأن يقاسمهم تجربته وإسهاماته على المستويين التربوي و الجمعوي. الأعداد الهائلة من أفواج التلاميذ و الأساتذة و الإداريين الذين مروا من إعدادية الفرابي سيتذكرون خصال هذا الرجل وتعامله اللائق مع الغير، لكنهم لن يتذكروا وجوه زملائهم أو على الأقل أسماءهم ، وهنا يتفوق إبراهيم جنا على الكل إذ يتوفر على أرشيف مهم لجميع المواسم الدراسية التي درّسها: لوائح بأسماء التلاميذ ، ورقة امتحان لكل تلميذ ناهيك عن مئات الصور و الفيديوهات... أرشيف يشكل ذاكرة تاريخية تؤسس للفعل التعليمي بإعدادية الفرابي بايت باها وتبرز دور المدرس في حفظ الذاكرة الجماعية لأجيال من التلاميذ الذين تفرقت سبلهم واختلفت مساعيهم وانشغالاتهم... ابراهيم جنا: الفاعل الجمعوي ما عاناه ابراهيم وأبناء منطقته من حرمان ونسيان وغياب للبنية التحتية ، سيجعله ينخرط في العمل الجمعوي التنموي، وسيساهم في فك العزلة عن الساكنة القاطنة بهذه المناطق، لذلك عمل- رفقة شركاء آخرين- على مشروع تعبيد الطريق 1009 الرابطة بين ايت باها و تاركا نتوشكا في إطار جمعية تاركانتوشكا للتنمية التي شغل فيها منصب نائب الكاتب العام سنة 1998 ، مشروع ساهم في فك العزلة عن ساكنة المنطقة وفي إعطاء الانطلاقة الحقيقية للتنمية بهذه الربوع. سنة 1999 سينتخب رئيسا لجمعية توزوين للتنمية حيث سيبصم على مشاريع تنموية و اجتماعية تهم جميع المجالات الحيوية للساكنة. فيكفي الإشارة إلى أن جمعية توزوين للتنمية قد خصصت لها وسائل الإعلام الوطنية والدولية مساحات للتعريف بمنجزاتها , واعتبرت جمعيته مَثَلاً أعلى للجمعيات التنموية على الصعيد الوطني. بالإضافة إلى أن الجمعية انخرطت في أوراش مهمة كتبليط الطرق المؤدية إلى الدواوير وحفر الآبار وترميم وإصلاح المدرسة العتيقة وبناء مسجد توزوين الكبير وإنجاز "مركز تكوين و تأهيل المرأة" سنة 2008 الذي دعمته سفارة اليابان والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية وغيرها من المشاريع و المنجزات التي بصم عليها الأستاذ ابراهيم جنا من خلال عمله الجمعوي واستطاع أن يبرز دور المدرس في انفتاحه على المحيط السوسيوثقافي للمجتمع. [email protected]