الثامن من يناير 2015، يوم مشؤوم. سطعت فيه غيوم الظلال، وخيم فيه الظلم. سأبدأ كتابة هذا المقال عن الزعيم المعتقل السياسي “محمد الوحداني”، بعد أن انتظرت كل هذه المدة لمعرفة مجريات التحقيق. طيب سأبدأ من حيث انتهى الأديب المرموق اللامع المرحوم “محمد خير الدين”، روايته “أسطورة أكنشيش”. نهاية اختار لها “خيرالدين” أن تكون مدينة تيزنيت مسرحا لها، (المدينة التي حكم ويسجن فيها الوحداني) فيها صور إبداعية راقية من خيال ابن “أزرو واضو”. أنصح الجميع بقراءة هذه الرواية الخالدة، وخاصة الذين يتلكأون في كراسيهم وسط مكاتبهم وهم يستمتعون بسيادية قل مثيلها حين يصلهم خبر الحكم على الزعيم وهم يحاولون رؤية أنفسهم من انعكاس لمعان أحذيتهم السوداء فوق زرابي مخزنية حمراء. أنصحكم مرة أخرى بقراءة “محمد خيرالدين” وغيره من الأدباء العظماء من طينته، وهم كثر. الحكم على الوحداني بالسجن، ليس هو المهم بالنسبة لي، ولكن المهم هو رمزية الحدث ودلالاته وسياقه العام؟ ما الذي يزعجهم في “محمد الوحداني” حتى يلتجئوا إلى المنطق “الفيبري” للدولة؛ شرعنة العنف من أجل الإخضاع والسيطرة. سجنوه لأنه فعلا شجاع. لا يريد السير بجانب الحائط مائل الرأس، لا يرغب في السير مع الجماعة، سير القطيع وصمت الجميع . إنه الرجل الاستثنائي الرافض للبنية الحزبية المارقة بتعبير السوسيولوجي الملتزم “عبدالله زارو”. أعرفك أنك لن ترض بأحد زعماء أحزاب الألوان الباهثة والرموز الحزبية الحزينة يخطب عليك وأنت جالس في قاعة الأفراح المتحركة. في “الكازينو” أو “الكومبينغ”، أعرفك أنك لن تنصاع للخضوع والتحكم والتسلطية الجديدة. هل ينسوا، أنهم؛ ولمرات عديدة التجئوا إليك قبل سنوات لتعتلي إحدى السطوح وفوق شرفات المنازل لتخطب أمام ألاف من الجماهير المحتجة والغاضبة لإقناعها من أجل العودة إلى الديار. هل ينسوا تلك الكلمات التي تخرجها بحرارة، بعفوية، بأسلوب الزعماء, هل ينسوا ذلك السلهام الداكن الذي ترتديه وتخرج يداك للإشارة بالنصر….اعتقلوك؛ وسجنوك لنتذكر نحن جميعا تلك الخطى واللحظات. هكذا؛ التاريخ يصنع بالتضحيات. محمد الوحداني الرئيس، كم هي مزعجة هذه الكلمة، “الرئيس” وستلازمك مدى الحياة. فعلا أنت الرئيس المنتخب ولأول مرة في تاريخ بلدية افني، بالمعنى الحقيقي لكلمة انتخاب. أنت نموذج النخب الكاريزما، لم تعد البلاد تنجب أمثالك، أنت عملة ناذرة في زمن النذرة. في زمن “الفترة” بلغة المؤرخين. لستَ ثائرا ولا انفصاليا، نعرف عمق وطنيتك وحدَّتِها. ولا نريد أن يتزايد أحدا أمامك على غيرتك على الوطن. لأن الجبناء عادة ما يعلوا كعبهم ويطول لسانهم في مثل هذه الأوقات العصيبة التي تعيشها وتعيشها معك أسرتك وذويك. الغريب في اعتقال “محمد الوحداني”هو سعي البعض على فرض جذران الصمت وكسر كل أشكال التضامن مع المعتقل. بل أكثر من ذلك مواجهة كل من بادر تلقائيا إلى التعبير عن التضامن الرمزي والتفاعل مع حدث الاعتقال. هذه سياسة جديدة من أجل العزل والتجاهل وتكريس صورة أمام الرأي العام على أن الرجل لم تعد له علاقة بالشارع ولا بالشأن العام. لقد تم تجنيد طابور خلفي واحتياطي للتهجم على كل من كتب عن هذا الاعتقال، على كل من تكلم عن المسار النضالي للوحداني وتضحياته من أجل الكرامة والمواطنة الحقيقية في ايت باعمران. قبل هذا وذاك؛ لابد من الفهم الجيد للظرفية التي تم فيها هذا الاعتقال ونجملها في ما يلي: عودة الاحتجاجات والاحتقان الاجتماعي نتيجة استمرار الوضع على ما هو عليه في المنطقة خاصة بعد الفيضانات الأخيرة ؛ فشل المقاربة المخزنية والتسلطية في تكميم الأفواه وفبركة مجتمع مدني متنفع محيط بالسلطة؛ التعويض الهش والضعيف لأطر ونخب ما بعد السكريتارية؛ إنزال حزبي كثيف من الفوق وظهور عدة مؤشرات بفشل التجربة الجديدة؛ قرب الانتخابات المحلية والجهوية وضعف تفاعل النخب والشعب مع العرض السياسي والحزبي؛ التخوف الحاصل أمام الفراغ والجمود والكمون الحاصل في المنطقة؛ قرب تعديل جهوي وتقطيع إداري سيدخل المنطقة في رهانات وتقاطبات جديدة؛ هكذا؛ ونرى أن اعتقال الرئيس السابق لبلدية افني؛ ليس حدثا عاديا، عابرا. وإنما هو حدث تاريخي يجب أن يقرأ في إطار سياق عام وخاص كذلك، محلي ووطني، سيكون له ما بعده. شخصية الوحداني هي فريدة في التاريخ المغربي المعاصر، هو مثقف، مناضل، مشاكس، عرف تاريخ المغرب أمثاله ولكن كانوا قلة. يأتون من الهامش ويصلون إلى بعض مراكز القرار عبر السجن والاعتقال، وحين يزيغون عن خطاطة “الشيخ والمريد” التي رسمها “عبدالله حمودي”، فإن مصيره يكون إما السجن أو النفي أو ما شابههما. لا نريد صناعة الأوهام و”تقديس” الأشخاص، وقد تكون ملاحظات وانتقادات لمحمد الوحداني حين كان رئيسا، وقد أبديناها في لحظتها. ولكن لا يجب الصمت عن اعتقاله. هذا الاعتقال هو شبيه لما نقرأه في كتب التاريخ، هو تعذيب ولكنه تجريب، فيه رسائل ورموز تبعث للآخرين، رسائل سيفتحها الزمن ليقرأها المستقبل.