في إحدى المناظرات السياسية المشهودة في تاريخ الديمقراطية الأمريكية، قال أحد المرشحين لخصمه، وهم في غمار مجادلة عنيفة حول البرامج والسياسات العامة، التي يعتزم كل واحد منهما العمل وفقها إذا صوت عليه الشعب، قال له؛ هناك 99 طريقة لكسب المال بطريقة غير مشروعة، وهناك طريقة واحدة لكسبه بطريقة شريفة !! خصمه المنافس لم ينتبه للفخ الذي ينطوي في طيات هذا الطرح، فقال بتسرع، ما هي هذه الطريقة في نظرك؟ هنا ابتسم السياسي المحنك، وعرف أن خصمه سقط في المصيدة، قائلا؛ كنت متأكدا أنك تجهل ذلك. بمعنى آخر، لقد قدمه أمام ملايين المشاهدين على أنه مرشح لا يعرف كيف يكسب المال الحلال. إنها ثواني صغيرة، غيب فيها هذا المرشح أبسط آليات تحليل الخطاب، شكلت له كارثة فادحة، رجعت عليه بالفشل في استقطاب أصوات المواطنين، لأنه في نظرهم أثبت، بما لا يدع مجالا للشك، أنه لا يعرف طريقة كسب المال الحلال، وقد نال هذا الحكم، بسبب الفخ الذي نصبه له خصمه في هذه المناظرة السياسية، التي تعد، حاليا، من أهم آليات التسويق السياسي للبرامج وللأحزاب وللمنتخبين في الدول الديمقراطية. حتى أن أمريكا جرت فيها أول مناظرة رئاسية عام 1960 بين نيكسون وكنيدي، وبُثت مباشرة عبر الإذاعة وشاشة التلفزة. وكشفت هذه المناظرة التاريخية أهمية الأثر المترتب على الأسلوب والشكل، بالإضافة إلى المضمون. فرغم أن معظم من تابع هذه المناظرة عبر الإذاعة أعربوا عن اعتقادهم بأن نيكسون هو الذي فاز فيها، فان معظم مشاهدي التلفزيون، وكان عددهم أكبر، أعربوا عن اعتقادهم بأن كنيدي كان هو الفائز، وهو ما أسهم، على ما يبدو، بفوزه في الانتخابات جراء فارق ضئيل جداً من الأصوات. وتعود أهمية هذه المناظرات السياسية، في قسم منها، إلى أنها وسيلة فعالة لإعطاء معلومات للناخبين، تسمح لهم بممارسة اختياراتهم السياسية في أجواء من التبصر والقدرة على فرز التباين بين البرامج والوعود الإنتخابية للمرشحين والأحزاب، ولأن هذه المناظرات تشكل محطة حاسمة في الحملات الإنتخابية، فإن الإعداد لها من طرف الخصوم السياسيين، يستلزم فترة مهمة من الإعداد والإستعداد، وجلسات طويلة مع المستشارين المتخصصين في ميادين عدة، من علم النفس وخبراء التواصل وتخصصي الملابس والهندام (..) وحتى طريقة المشي، وصعود منصة المناظرة، والتوقف، والسلام، والضحك، وطرق ضبط النفس، وتحليل أسئلة الصحافة والمواطنين قبل التفوه بأي جواب، وتفكيك الألغام التي قد ترد في حديث الخصم، وطرق إدارة النقاش، وتحويره لصالحه، إلى غيرها من أصغر الجزئيات، التي قد تصل إلى تحديد لون رابطة العنق (..) كل هذا وأكثر، لأنهم يدركون جيدا أن هذه المواقف لا تحتمل انفلات حرف واحد من صاحبه، أو أدنى تصرف مهما كان بسيطا، دون حساب، وموازنة ما ينجم عنه. وفي بلد مثل المغرب، زعماء أحزابه جبناء جدا !! الحالة مختلفة تماما عن باقي البلدان، فقد سجلت عدد من الجرائد الوطنية، كيف اجتمعوا على كلمة واحدة من تلقاء أنفسهم، وهذا يحدث نادرا، في رفض المشاركة ببرنامج حوار الذي يبث مباشرة، تخوفا منهم من الإطلال على الشعب مباشرة، والرد على أسئلة المنشط والصحفيين، وعندما يكون الحال هكذا في برنامج مباشر، يتم التوافق مسبقا حول محاور النقاش وطبيعة الحضور مع الضيف، فكيف يمكن لهؤلاء المشاركة في مناظرات مباشرة مع الخصوم، دون تحول طاولة النقاش لحلبة مصارعة حرة، يحضر فيها حوار الشوارع والأسواق، ويغيب فيها حوار ساسة متمكنين من آليات النقاش والدفاع عن برامج أحزابهم إن كانت لهم برامج أصلا. ولأن الأحزاب السياسية في المغرب قد فقدت كل مصداقية ممكنة، وكل ارتباط حقيقي مع الشارع، الذي انفلت من تأطيرها منذ سنين، فإن مفهوم التسويق السياسي أمر ضروري لمرحلة انتقالية، تسمح بمصالحة الجمهور مع العمل السياسي وأهله، وتعيد بعض الرواج المفقود لسوق السياسة. لكن التوغل في هذا المنحى قد يفقد السياسة معناها النبيل، إذ يحولها إلى مجرد صناعة يكسبها من يتمكن من وسائلها. صناعة تستخدم قوانين السوق، و وسائل الإتصال والإعلام، في نيل عطف وأصوات المواطنين. ولعل المتتبع لتدخلات الأحزاب في القنوات العمومية، يكتشف فقرا كبيرا لدى هذه الأخيرة في التواصل وتعبئة المواطنين ببرامج مسئولة، يمكن أن تدفعهم نحو صناديق الإقتراع. برامج تمتح من العموميات، يقدمها شيوخ يتلعثمون في الحديث أمام الكاميرا، أو يتصنعون، بشكل مقزز، الجدية والهدوء والرزانة في خطاب المواطن، أو يتحدثون في حيزهم الزمني عن كل شيء ولاشيء، أو يستعرضون على جيل شاب قصصا وهمية لتاريخ نضالي لم يعيشوه؛ نحن حزب تاريخي.. نحن أول من قال.. نحن أول حزب كرس التعددية.. نحن أول من طلب (...) وكأن المواطن سيأكل التاريخ، ويسكن في التاريخ، وإذا مرض سيعالج بالتاريخ !! أحدهم كرر مقولة حزب تاريخي عشرات المرات، ردا على سؤال ما هو برنامجكم في تشغيل حاملي الشهادات، وكأن المعطلين يهمهم تاريخ حزبه. إن أي برنامج لا يستند إلى لغة الأرقام الواضحة، المحددة بأزمنة صارمة، لن ينجح في تحفيز شباب يقضون أغلب أوقاتهم في عالم رقمي، يتطور يوما عن يوم، ويجدون فيه مقارنات صادمة مع أحزاب دول عريقة في الديمقراطية، حيث يكتشفون معنى برنامج انتخابي، حيث قد يتأسس برنامج حقيقي على ثلاث أو أربع نقط رئيسية، لها تأثير حاسم في حياة المواطنين ودخلهم الفردي، ويمكن الوفاء بها، في حيز زمني محدد في ولاية واحدة، لا تتجاوز أربع أو خمس سنوات حسب كل نظام انتخابي، أما تدبيج الأوراق بعشرات العناوين العامة، مثل تنمية العالم القروي، وتشغيل المعطلين، ومحاربة الفساد والمفسدين (...) دون إيلاء أدنى أهمية بسؤال الكيف، و سؤال آخر حاسم، هو سؤال الإمكانات والموارد الكفيلة بتمويل أية برامج جديدة، خاصة في ظل دستور جديد ينص على مسالة التوازنات المالية، ويمكن للمحكمة الدستورية، التي نص عليها الدستور، أن ترفض أي قانون مالي لا يستجيب لهذا المعطى الصارم. إنها حيثيات تغيب في حملات الأحزاب، ربما لأنها تدرك جيدا أن لا أحد يهتم بالبرامج، وأن العملية كلها مسألة أشخاص وأعيان، وهي تقصي في هذا السياق كتلة كبيرة يمكن أن تقصد الصندوق الزجاجي بناءا على محور أساسي ومعقول في برنامج حزبي معين. إن تخفيض أو إلغاء الضريبة على الدواء، ما يسمح بتخفيض أسعاره بشكل معقول. وإنجاز مناطق صناعية مندمجة في كل إقليم، حسب إمكانياته ومؤهلاته، تسمح بجلب الإستثمار المدر لفرص الشغل. وإصلاح حقيقي لمنظومة التربية والتكوين، بشكل يجعلها قاطرة للتنمية في البلد. وتعبئة فوائض ميزانيات الجماعات المحلية لإنشاء صناديق إقليمية لدعم و مصاحبة مشاريع الشباب المعطل. و تسريع تحديث الإدارة المحلية في الجماعات، عبر ما يسمى بالإدارة الإليكترونية. هي ثلاث أو أربع نقط رئيسية يمكن لأي حكومة الوفاء بها، وجد كافية لتصلح كبرامج حقيقية. في دول أخرى، نقطة واحدة قد تتحدد في تخفيض ضريبة، أو تعديل قانون أو مشروع إجتماعي مثل التغطية الصحية، يكفي كمحور أساسي تدور عليه الحملة الإنتخابية، ويشكل أساس تعاقد مع الشعب، يحاسب عليه الحزب بعد إنتهاء ولايته الحكومية. إن الدستور الحالي خول لرئيس الحكومة مهام واسعة.. وقبل المطالبة بالمزيد، يجب أولا تفعيل المهام الحالية، لكن استمرار عمل الأحزاب وفق أساليبها القديمة، وبهياكل منخورة، تغيب فيها رائحة الديمقراطية الداخلية، وبوجوه محروقة، وببرامج خيالية غير قابلة للتنفيذ.. سيجعل مرة أخرى نسبة مهمة من الشعب، يردون على من يسألهم لماذا لم تذهبوا لصناديق الإقتراع، بالجواب الشهير لعادل إمام في أحد أعماله.. لأني كنت في الحمام !!