بين أعالي الجبال وقلب الصحراء .. تفاصيل رحلة مدهشة من فاس إلى العيون    مضيان يقود لائحة كبار المغادرين لقيادة حزب الاستقلال وأدمينو أبرز الملتحقين    مغاربة ينعوون وفاة الفنانة نعيمة المشرقي: فنانة محترمة وماخذات حقها فالساحة الفنية (فيديو)    أخنوش: المغرب يعزز قيم الفرنكوفونية    التعادل يحسم مباراة الحسنية والوداد    عودة ليزلي إلى الساحة الموسيقية بعد 11 عامًا من الانقطاع    هكذا علقت هولندا على قرار المحكمة الأوروبية وعلاقتها بالمغرب    منتخب U20 يواجه فرنسا وديا استعدادا لدوري اتحاد شمال إفريقيا    طنجة.. توقيف شخص لتورطه في سرقة مبلغ مالي مهم من داخل محل تجاري    رغم تراجعه عن مطالبته بوقف تسليح إسرائيل.. نتنياهو يهاجم ماكرون: سننتصر معك أو من دونك وعارك سيستمر لوقت طويل (فيديو)    "أندلسيات طنجة" يراهن على تعزيز التقارب الحضاري والثقافي بين الضفتين في أفق مونديال 2030    عطل تقني يعرقل حجز التأشيرات.. وأصابع الاتهام تتجه إلى السماسرة    ENSAH.. الباحث إلياس أشوخي يناقش أطروحته للدكتوراه حول التلوث في البيئة البحرية        إنزال كبير لطلبة كليات الطب بالرباط في سياق الإضرابات المتواصلة -فيديو-    محكمة تغرم مجلس جماعي 5 مليون لفائدة سيدة تعرض لهجوم كلاب ضالة    حزب الله: التواصل مع صفي الدين "مقطوع"    وفاة الفنانة المغربية نعيمة المشرقي عن 81 عاما    بلجيكا من دون دي بروين ولوكاكو أمام إيطاليا وفرنسا    مصدر ل"برلمان.كوم": المغرب يواصل تنويع شراكاته ويمدد اتفاقية الصيد مع روسيا.. وقرار العدل الأوروبية عزلها دوليا    الفنانة المغربية نعيمة المشرقي تغادرنا إلى دار البقاء    في عمر ال81 سنة…الممثلة نعيمة المشرقي تغادر الحياة        "احذروا".. زخات رعدية قوية مصحوبة ب"التبروري" وبهبات رياح غدا الأحد بعدد من المناطق        مجلس جماعة امطالسة يصادق على ميزانية 2025 وتمويل اقتناء عقار لاحتضان مركب للتكوين في المهن التمريضية    "لا يقول صباح الخير".. لويس سواريز يهاجم مدرب المنتخب مارسيلو بييلسا    التوقيع بالجديدة على إعلان نوايا مشترك لتعزيز التعاون المغربي الفرنسي في قطاع الخيول    وفاة الممثلة القديرة نعيمة المشرقي بعد مسار فني حافل بالعطاء    معاناة 40 بالمائة من أطفال العالم من قصر النظر بحلول 2050 (دراسة)        البكوري: عملنا يستند على إعمال مبدأ القانون في معالجة كل القضايا مع الحرص على المال العمومي    رسالة بنموسى في اليوم العالمي للمدرس    جيش إسرائيل يقصف مسجدا بجنوب لبنان    الجامعة تحدد أسعار تذاكر مباراة الأسود وإفريقيا الوسطى    شركات يابانية تلجأ إلى الذكاء الاصطناعي لتعويض نقص العمالة    السكوري يُطلق منصة رقمية لخدمة التشغيل    من قرية تامري شمال أكادير.. موطن "الموز البلدي" الذي يتميز بحلاوته وبسعره المنخفض نسبيا (صور)    استجواب وزيرة الانتقال الطاقي أمام البرلمان عن الفجوة بين أسعار المحروقات في السوقين الدولية والوطنية    "أطباء لبنان" تطلق نداء عاجلا لوقف "مجزرة" إسرائيل بحق الجهاز الصحي        هيئة: أكثر من 100 مظاهرة في 58 مدينة مغربية تخليدا للذكرى الأولى لمعركة "طوفان الأقصى"    دراسة تكشف معاناة 40 % من أطفال العالم من قصر النظر بحلول 2050    قافلة المقاول الذاتي تصل الى اقليم الحسيمة    وزير الإعلام الفلسطيني يزور مقر الفيدرالية المغربية لناشري الصحف بالدار البيضاء    الحسيمة.. تخليد الذكرى 69 لانطلاق العمليات الأولى لجيش التحرير بالشمال    محكمة التحكيم الرياضي تخفف عقوبة توقيف بوغبا    "ميتا" تعلن عن إنشاء نموذج ذكاء اصطناعي جديد    طقس السبت ممطر في بعض المناطق    مهنيون يرممون نقص الثروات السمكية    تسجيل حالة إصابة جديدة ب"كوفيد-19″        وزارة الصحة تكشف حقيقة ما يتم تداوله حول مياه "عين أطلس"    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في سيكولوجية " الملتحي"
نشر في اشتوكة بريس يوم 29 - 08 - 2011

" الملتحون" أو "أصحاب اللحى" أو "لْحَايَا" حسب التعبير الدارج، ألفاظ نطلقها ونريد بها الإسلاميين المحسوبين على التيار الإسلامي ، ممن لا يمتون بأفعالهم وأقوالهم للإسلام بصلة .
فلفظ "لحايا " الذي نطلقه – ههنا- والذي اخترناه بالدارجة المغربية لحمولته النفسية ، وملمحه السيميائي في الوعي الجمعي للمغاربة ، مُسمىًّ لا نقصد به عمق دلالته الاصطلاحية الشرعية ؛ إذ إعفاء اللحية سُنَّة (1) لا يجادل فيها إلا من كان في قلبه مرض . إنما نقصد به عنوانا لأمة من الناس تبدو فيما يظهر للناس ، من سمتها وشكلها وخطابها ، علماء ودعاة على هيئة سلف هذه الأمة وخيارها ؛ بيد أن حقيقتها التي يجهلها الكثير من عباد الله ؛ خاوية على عروشها ، فارغة من كل معنى ، تحدث أصواتا كلما قُرعت بقوة الحجة ، ونصاعة البرهان ؛ كما الطبل سواء !!
فأغلب أبناء الحركة الإسلامية ملتحون حريصون على هذه السنة المُمَيِّزة لسَمْتِ العبد المسلم الملتزم ، وأغلب هؤلاء دعاة وعلماء أفاضل يمثلون خيرة أبناء هذه الأمة . وهم ليسوا مقصودنا بهذا الوسم الآنف .كلاَّ وحاشا! ؛ إذ مقصودنا محصور على من يتدثرون خلف لحاهم لتحقيق مآرب أخرى غير الدعوة والإصلاح !!
ف"لحايا " هم أولئك الذين يملأون المساجد بالصراخ والزعيق حين يكتشفون أن الناس على غير نهجهم يسيرون ، فيُبَدِّعون ، ويفسِّقون ، و...و يكفِّرون كل من خالف مذهبهم ، ولبس على غير هيأتهم.
و" لحايا" هم طائفة من الشباب المندفع الحديث العهد بالالتزام ، الذي لم يفهم من رسالة الإسلام سوى تطويل اللحية ، وتقصير الثوب ، والجدال في الجزئيات الفقهية التي خالف فيها أحمد مالكا – رحمهما الله تعالى - . فترى الواحد منهم يتعب نفسه في حفظ الدليل الوارد في المسألة الفقهية المتعلقة بهيئة معينة في الصلاة أو الآذان أو الإقامة... لا لشيء ، سوى ليجادل بها من خالفه ويفحمه بها . وحينما يُجابَه بأن الكثير من الأمور والقضايا التي يجادل فيها هي أمور خلافية ، وأن الكثير مما ينكره مما يراه في المساجد المغربية مؤصل على أصول المذهب المالكي الذي ارتضاه المغاربة مذهبا رسميا لهم ؛ يواجهك بأن هذه مذهبية وتعصب ما أنزل الله بهما من سلطان ؛ وهو يعلم أو لا يعلم أن مايروِّج له وينافح دونه من أفكار وآراء فقهية هي كذلك صادرة عن مذهب ، وأن تعصبه لهذه الآراء والأدلة مذهبية وتعصب كذلك ، سواء بسواء !! (2).
و"لحايا" كذلك هم أولئك الذين يستغلون سذاجة الناس ، وثقتهم في علمائهم ودعاتهم الصادقين ؛ فيطففون في الميزان ، ويفرون بالديون ، ويخونون الأمانات . حتى أصبح ذكر صاحب اللحية في رأس الدرب مرادفا عند الساكنة للخائن الذي يأكل الحقوق ، ويفر بالديون !!
ولقد سبق لي أن قلت لأحد "لحايا" وأنا أحاوره : بالله عليك اصدقني القول ،وقل لي لماذا يكرهكم الناس ، وأنتم تدَّعون اتِّباع سنة الحبيب المصطفى – صلى الله عليه وسلم - ، وقد كان –صلى الله عليه وسلم – أحب الخلق إلى الخلق؟ فقال :" اللحية فيها وفيها . فليس كل ملتح بملتزم ، و ليس كل ملتزم بملتح . فاللحية ليست مقياسا للشهادة على صدق الشخص أو خلافه ". فقلت له:" صدقت ورب الكعبة" !
لقد صدق صاحبي الملتحي ..نعم.. ولكن عامة الناس لا يفهمون كل هذه التصنيفات . فالملتحي عندهم هو الملتزم ، والملتحون كلهم سواء . إذ لا يفرقون بين الدكتور القرضاوي العالم المجدد ، وعبد السلام ياسين الدرويش الثائر، وعبد الإله بن كيران السياسي المهادن ، و الفيزازي السلفي المتشدد و... و الخائن بلحيته في رأس الدرب ... فكلهم "لحايا" !!. فما يفعله الخائن بلحيته يسحب على سائر الملتحين من الملتزمين ، وإن كانوا أتقياء أنقياء . ولقد لعب الإعلام الرسمي دورا خطيرا في تلطيخ سمعة الملتزمين من الملتحين ، والدفع في اتجاه هذه النظرة الكزة الجاحدة التي يرمق بها العامة كل من ترك دقنه . حتى أصبح المغاربة ، خصوصا بعد الأحداث الإرهابية التي شهدها المغرب ، يتعوذون من أصحاب اللحى كما يتعوذون من الشيطان الرجيم أو أشد . وبعضهم لا يطيق مشاهدة الخيار منهم على شاشة التلفاز كمحمد حسان ، والمصري ، والحويني ، والعودة ، والقرني وغيرهم ؛ بَلْهَ الاستماع إلى دروسهم . فتجده يغير القناة في التَّوِّ واللحظة ، بعد أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، كمن رأى لقطة خليعة في حضرة والديْه... !!
و"لحايا"!! كذلك هم كل أولئك الذين لا يلتزمون من سنة الرسول- صلى الله عليه وسلم - سوى بالسنن "الجزئية" ، في حين يذبحون مضمون الرسالة المحمدية و جوهرها الممثل في المعاملات والأخلاق على عتبة سلوكاتهم المخجلة . فتجدهم يحرصون أشد الحرص على مظاهر "جزئية" من سنة الرسول- صلى الله عليه وسلم - من قبيل اللحية واللباس والمشية والشربة والهيأة والسواك ...(على أهميتها!) ، ويغضون الطرف عن سننه المنظمة لشؤون الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وهي الأولى والأجدر بالاتباع ؛ بل هي أُسُّ الدين وفصُّه . إن كانوا يعلمون !. فتجد الواحد منهم يعتني بلحيته وقميصه أكثر من عنايته بوالديْه الكبيرين ، أو زوجته ، أو أولاده ، أو عمله الذي يقتات منه ، أو مواعيده التي يبرمجها مع عباد الله ...بل منهم من يعق والديه ، ويضرب زوجته ، ويؤذي جيرانه ، ويتكبر على عباد الله ، ويتعامل بالربا ، ويطفف في الميزان ، ويخون الأمانات ، ويتهرب من أداء الديون ، ...وفي المقابل لا يكف عن إقامة المعارك الخاوية ، والجدال العقيم ، حول وجوب اتباع سنة المصطفى- صلى الله عليه وسلم- في اللحية والتقصير والسُّترة والسواك وجلسة الاستراحة ... !!
فإذا كان الصحابة-رضوان الله عليهم - يقتفون أثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم – في كل شيء حتى في المشية والالتفاتة والشربة والأكلة ... ، فذلك لأنهم قد "حسموا"مع سائر السنن المنظمة للحياة العامة ، حسما لا يحتاج لدروس أو ملاحظات يلقيها عليهم أحد. فجعلوا سنن الهيئة لاحقة ، فكانت ثمرة للالتزام والتأسي . إذ بدأوا بالسنن الكلية قبل الجزئية (3) فوفقهم الله للالتزام بكليهما .
فقد كانت كلمة " لا إله إلا الله " حينما ينطقونها ،كلمة فاصلة قي حياتهم ؛ تنقلهم من عالم الجاهلية بكل تمظهراته السلبية ، وتجلياته الكزة الجاحدة ، إلى عالم الإسلام ، الواسع ، الماتع ، الرحب ، السعيد ...في قطيعة تامة ، كاملة ، حاسمة .
أما إخواننا "لحايا"(4) فقد بدأوا بالسنن "الجزئية" وجعلوها غاية الالتزام ، ومنتهى العلم والاتباع . فمنهم من التزمها وحدها دون سواها وظن أنها الدين كله ، في حين ظل على جاهليته وفسوقه وعصيانه في مجالات الحياة العامة ، والخاصة . ومنهم من التزمها ليتصدر الناس في الفتوى ، وإمامة الصلاة ، والكلام وسط الجموع ؛ أشرا وبطرا ورياء ، وهو أفرغ علما من فؤاد أم موسى . ومنهم من يجتهد فيضيف إلى هذه التشكيلة (اللحية والقميص) عينَيْن ذابلتيْن عبوستيْن ليوهم الناس أنه كثير البكاء والخشوع ، عظيم الهَمِّ لما آلت إليه الأمة من بُعدٍ عن شرع الله ،وسنة حبيبه المصطفى – صلى الله عليه وسلم- ؛ حتى يكسب ثقتهم ، وينال حظوة الذكر عندهم . وقد جهل أو تجاهل أن الذي يزعم اتباعه - بأبي هو وأمي- كان على خلاف ذلك تماما ؛ منشرح الوجه ، دائم الابتسامة ؛ رغم أن بكاءه بين يدي ربه في جوف الليل وخوفه منه ،مما لا يُضاهَى . وكذلك كان صحابته الكرام – رضوان الله عليهم أجمعين – .
وقد حرص الصالحون – كما ذكر ابن الجوزي في - التلبيس- :" على إخفاء أعمالهم حذرا عليها وبهرجوها بضدها . فكان ابن سيرين يضحك بالنهار ويبكي بالليل ، وكان في ذيل (إزار) أيوب السختياني بعض الطول. وكان ابن أدهم إذا مرض يُرى عنده ما يأكله الأصحاء..." (تلبيس إبليس ، ص: 161) .
ومنهم من يطيل الجلوس في المسجد ليُعلم أنه كثير العبادة والذكر وقراءة القرآن ، فيجد لذة عظيمة إذا علم أن الناس قد علموا بانفراده ، في حين إذا خلا بنفسه وفي بيته لم يذكر الله إلا قليلا . وليس مقصده من ذلك إلا نيل الحظوة عند الناس ، بعد أن أعوزته أُمِّيَّته ، وضحالة علمه أن يتصدر الناس في الموعظة والإفتاء ...
فإن قيل: ماذكرته من سلوكات يقوم به الملتحون وسواهم ، فلم تتحامل على "لحايا" ولا تشير إلى غيرهم؟
قلنا: إن خطورة هذه السلوكات ناجمة عن صدورها من "لحايا" لأنهم يمثلون صورة الملتزمين بهذا الدين ؛ بهم يُعرَف وعلى نهجهم يُقتدَى . فالناس يرون هذا الدين في صاحب اللحية ولا يرونه في الحليق . ثم إن لفظة "لحايا" – كما أشرنا إلى ذلك آنفا- لا نقصد بها سوى الذين يقومون بهذه السلوكات بالفعل ، أما سواهم ممن برئ منها فغير مقصود منا وإن كان ملتحيا . فتأمل !! .
فالاتباع منهج حياة قائم بذاته ، منفرد بطبيعته وفلسفة تنزيله ؛ والسنة كلٌّ لا يقبل الاجتزاء والتبعيض. وكل محاولة تتغيى – عن علم أو جهل - تجزئتها ، بفصل روحها عن جسدها ، وحصر موضوعها في بعض الشؤون دون بعض ؛ محاولة خاطئة تنم عن سوء فهم لطبيعة هذا الدين ، ومغزى رسالة الحبيب – صلى الله عليه وسلم-.
و من الأمثلة الدالة على غياب الفهم الصحيح والحكمة الناضجة ، عند هؤلاء، في التعامل مع الوقائع والأحداث التي نختلف معها ، و التقدير الصحيح في الموازنة بين المصالح والمفاسد ؛ حادثة طريفة وقعت في عقيقة أحد الإخوان ، حين حضر بعض "لحايا" استجابة لدعوة الأخ صاحب العقيقة . فعندما بدأت الفرقة تنشد مواليل وأمداحا نبوية ، أخذت وجوه أصحابنا تتلوَّن فيما يُشْعِر بأن الإخوة في استنكار داخلي رهيب لهذا المنكر العظيم، والشر المستطير الذي يَشْهَدونه !!. فقام أقلهم صبرا بعملية غير محسوبة العواقب ، حين انسحب من الحفل وقطع بذلك حبل الصداقة والود مع أغلب الحضور ، ومع صاحب الحفل على وجه الخصوص. ولقد ظللت أنظر إلى أحدهم وكان يجلس في الجهة المقابلة لمكان جلوسي ، ووجهه يتمعَّر حتى كاد ينفجر . فقلت في نفسي : هل هذا "الأخ" يشعر بذات الحرج والضيق حينما يشاهد الكاسيات العاريات ، المائلات المميلات اللائي تضج بهن الطرقات والشوارع ؟ وهل يشعر كذلك حينما يرى إخوانه في فلسطين يقتَّلون ، وتهدم بيوتهم ، وتجرف أراضيهم من طرف العدو الصهيوني المغتصب ؟ وهل يتمعر وجهه بنفس الحدة أو يخجل من نفسه حينما يسمع عن الظلم المخزني الذي تمارسه القوى الأمنية ضد المعطلين والمتظاهرين من أجل الكرامة والحرية والخبز ، ولا يستطيع أن ينبس ببنت شفة لأن شيوخه الأجلاء من أصحاب الإقامات الفاخرة ، والأرصدة المنتفخة بهبات أصحاب البيترودولار من ممولي هذا التيار الدخيل ؛ حذروه من الحديث في السياسة أو الاقتراب منها لأنها فتنة ، والفتنة أشد من القتل ؟!! وهل ..، وهل...؟ وأنا في تساؤل داخلي مع نفسي ، يتدخل قائد الفرقة ، وقد شعر بما شعرت به ، ويعلق بعربية فصيحة :" مالي لا أرى إلا وجوها عبوسة ، ألسنا في فرح . كفاكم من هذا التجهم المفتعل؟ ! " . وقائد الفرقة بالمناسبة ، صاحب علم شرعي وافر، ودراية متقدمة بعلم القراءات العشر ؛ دراسة وتدريسا وأداء. وقد جلست إليه وخبرته في علم الأصول والقراءات ؛ فوجدته ذا علم وكياسة . ولما علم أني قد اشتغلت على كتاب"الموافقات" لأبي إسحاق الشاطبي ، وأن لي فيه بحثيْن . سُرَّ بذلك كثيرا . وقال لي :" لقد التقينا في الشاطبي " وهو يقصد الشاطبي الفقيه الأصولي ، والشاطبي صاحب "الشاطبية" في القراءات . وقد ظل قائد الفرقة يقدم نكتا ومستملحات أضحكت الجميع خلا أصحابنا . فقلت في نفسي :" والله لو كان هؤلاء أصحاب علم ، ما سكتوا حتى يُقنعوا أو يَقتنعوا . ولكن يظهرأنهم ليسوا سوى أشباه "شيخ" (5) أبي حنيفة" !!
وأخيرا، أقول للملتحين الصادقين: إنكم ورثة النبي –صلى الله عليه وسلم- الرحمة المهداة، للناس كل الناس، (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)[الأنبياء،107]، فالتزموا هديه في التعامل مع الناس، ودعوته إياهم. ولا تكونوا متشنجين، ولا متعصبين و أنتم تقدمون هذا الدين للعالمين، بل كونوا رحماء بمن تدعون،علماء بما تدعون، فأنتم دعاة رحمة ومغفرة، لا دعاة غضب وحقد، فأمروا بالمعروف بمعروف، وانهوا عن المنكر بلا منكر. واعلموا – رحمكم الله- أنكم مسؤولون عن لِحاكم بين يديْ ربكم يوم يقوم الأشهاد ؛ فأمامكم مهمة كبيرة في تصحيح نظرة الناس إليكم ، ورد ثقتهم فيكم ؛ ولن يكون ذلك إلا بمخالطة عامة الناس ، والرحمة بهم ، والكف عن مخالفتهم ، وتسفيه أفعالهم ؛ قبل دعوتهم وإرشادهم . ولتكن محاربة بدعهم ومنكراتهم بفقه صحيح مليح ، يراعي الواقع ، ولا يجمد عند النصوص .واحذروا أن تستثيروا مكامن الغضب، أو تؤيِّسوا من رحمة الله و سعة عفوه ورضوانه... وإنما الموفق من وفقه الله. (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)(الحشر: 10).
وصلى الله على سيدنا محمد و على آله وصحبه وسلم .
---------------
(1)وأنا أميل إلى ما ذهب إليه بعض العلماء : بأن إعفاء اللحية سُنَّة يُثاب فاعلها ولا يُعاقب تاركها، وحلْقها مَكروه، وليس بحرام، ولا يُعَدُّ مِن الكبائر. وقد استندوا في ذلك إلى ما رواه مسلم (صحيح مسلم بشرح النووي ج 3 ص: 147 ط. دار الكتب العلمية- ببيروت) في صحيحه عن عائشة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "عشْرٌ مِن الفطرة: قصُّ الشارب، وإعفاء اللحْية، والسواك، واستنشاق الماء، وقصُّ الأظفار، وغسْل البراجِم (البراجم: مَفاصل الأصابع من ظهر الكف "بتصرُّف: مختار الصحاح").ونَتْفُ الإبِط، وحلْق العانَة، وانتقاص الماء (انتقاص الماء: يعني الاستنجاء). قال مصعب: ونسيتُ العاشرة إلا أن تكون المَضمضة.
وقد رد هؤلاء على من استدل بالوجوب بحديث: "خالِفُوا المُشركينَ، ووَفِّرُوا اللِّحى، واحْفُوا الشوارب".بأن الأمر بمُخالفة المُشركين لا يتعيَّن أن يكون للوُجوب، فلو كانت كلُّ مُخالفةٍ لهم مُحتَّمة لتحتَّم صبْغ الشعر الذي وَرَدَ فيه حديث الجماعة: "إن اليهود والنصارى لا يَصبغون فخَالِفُوهم". (رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي التاج الجامع للأصول ج 3 ص: 173) مع إجماع السلف على عدم وُجوب صبْغ الشعر، فقد صبَغ بعض الصحابة، ولم يصبغ البعض الآخر كما قال ابن حجر في فتح الباري، وعزَّزوا رأيهم بما جاء في كتاب نهج البلاغة (ج 2 ص: 141): سُئل عليٌّ كرَّم الله وجهه عن قول الرسول- صلى الله عليه وسلم-:"غيِّروا الشَّيْبَ ولا تَشَبَّهُوا باليهود".
وقد جرَى على لسان العلماء القول: بأن كثيرًا ممَّا ورَد عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- في مثل هذه الخِصال يُفيد أن الأمر كما يكون للوُجوب يكون لمُجرد الإرشاد إلى ما هو الأفضل، وأن مُشابهة المُخالفين في الدِّين إنما تَحرُم فيما يُقصد فيه الشبه بشيء مِن خصائصهم الدينية، أمَّا مُجرَّد المشابهة فيما تجري به العادات والأعراف العامة فإنه لا بأْس بها ولا كَراهة فيها ولا حُرمة.
(2) وقد أشار الدكتور فريد الأنصاري – رحمه الله- إلى هذا الخطإ المنهجي عند التيار السلفي ضمن الخطإ السادس الذي عنون له ب "إستصنام المذهبية الحنبلية في التيار السلفي " في كتابه الفريد (الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب). ومما جاء فيه : (وقد تجلت حنبلية السلفية الدخيلة في أمرين :
- التجلي الفقهي بتبني الأحكام التي قال بها أئمة الحنابلة قديما فصدرت إلى المغرب على أنها نوع من تجديد الدين، ومحاربة البدع ... – التجلي الأصولي المنهجي أو " الاجتهاد في إطار المذهب" كلجوئهم إلى ترجيح أقوال العلماء الذين اجتهدوا حسب أصول المذهب الحنبلي وخرجوا الفروع الجزئية على قواعده الأصولية، مع ظن الأتباع أنهم مجتهدون لا يتقيدون إلا بالدليل. .... فابن تيمية وابن القيم وبن باز والعثيميني وحتى الألباني كانوا حنابلة... لأن التقليد ليس اتباعا في الفروع وإنما هو تقيد بأصول الإمام المقلد، وهذا ما أدى إلى تكسر تيارهم على صخرة المذهب المالكي في المغرب...)
وقد ترتب عن هذه الاختلالات ، وقوع التيار في خمسة أخطاء منهجية ؛ نذكر منها :( الإعراض عن المذهب المالكي الذي يمتاز بسلفيته التي قادها ابن عبد البر وابن أبي زيد القيرواني والشاطبي وغيرهم، ممن حاربوا البدع في العقائد والعبادات والتصوف دون النقض لمذهبيتهم المالكية. ولا التنكر لتصوفهم السني. تماما كما صنع ابن القيم في الحفاظ على حنبليته الاجتهادية وتصوفه السني الأصيل ... السلفية فقدت نصرة الناس في المجال الدعوي الصرف، بسبب اضطراب ميزان الأولويات والجهل الفظيع بفن "التواصل" عند مخاطبة الجمهور وذلك بالتركيز على المفاسد الجزئية الخلافية، وإهمال المفاسد الكلية الإجماعية، وعدم مراعاة حاجة البيئة الدعوية وطبيعة مشكلاتها... لقد اختل ميزان الأولويات فعلا لدى كثير من متزعمي التيار السلفي في المغرب، فدخلوا في معارك وهمية، مع خصوم وهميين، وتركوا العدو الحقيقي يعيث في الأرض فسادا، وهم لا يشعرون، إن المشكلات الدعوية للبلد غير ما يتصورون، وغير ما يستوردون من المشرق من قضايا ومعارك... المغرب يعاني من اهتزاز منظومة القيم، وأصول الأخلاق الإسلامية، ومن وطأة الفجور السياسي، ومن ارتجاج الإيمان لدى بعض العامة والخاصة، ومن الإيديولوجيات " الأخرى" المناقضة للدين عقيدة وشريعة، ومن تسرب الطائفيات المخالفة لثوابت الوطن الدينية أصولا وفروعا...كل هذه القضايا الحقيقية هي أصول العمل الديني، التي أعرض عنها السلفيون، واشتغلوا بما وراءها بأزمنة بعيدة) .[انظر :الصفحات من :125إلى152].
(3)المقصود ههنا بالجزئية والكلية ما كان على مستوى الأهمية والأولوية لا على مستوى الجنسية أي ما كان الجزئي من جنس الكلي.
(4)أعود فأؤكد أن مقصودي ب"لحايا" ليس جميعهم بل طائفة ممن هذه صفاتهم . وقد اخترت لهم هذه العبارة تجنبا لأي مصطلح حركي قد يُساء فهمه ؛ وإلافإن كاتب هذه السطور ملتح وحريص على هذه الستة !
(5)إشارة للقصة الطريفة التي ترويها كتب التاريخ والأخبار و التي وقعت للإمام أبي حنيفة حينما دخل عليه المسجد شيخ كبير السن، له لحية كثيفة طويلة، ويرتدي على رأسه عمامة كبيرة، فجلس بين التلاميذ. وكان الإمام يمدّ قدميه، لتخفيف آلام كان يشعر بها، ولم يكن هناك من حرج بين تلامذته حين يمد قدميه، فقد كان قد استأذن تلامذته من قبل بمدّ قدميه أمامهم لتخفيف الألم عنهما.
فحين جلس الشيخ الكبير، شعرَ الإمام بأنه يتوجّب عليه، واحتراما لهذا الشيخ، أن يطوي قدميه ولا يمدّهما، وكان قد وَصَلَ في درسه إلى وقت صلاة الصبح، فقال ‘'وينتهي يا أبنائي وقت صلاة الصبح، حين طلوع الشمس، فإذا صلّى أحدكم الصبح بعد طلوع الشمس، فإن هذه الصلاة هي قضاء، وليست لوقتها''.
وكان التلامذة يكتبون ما يقوله الإمام والشيخ الكبير "الضيف" ينظر إليهم. ثم سأل الشيخ الإمام أبا حنيفة هذا السؤال : "يا إمام، وإذا لم تطلع الشمس، فما حكم الصلاة؟". فضحك الحضور جميعهم من هذا السؤال، إلا الضيف والإمام الذي قال :" آن لأبي حنيفة أن يمدّ قدميه.(نقلناها بهذا اللفظ من موقع صحيفة "الوقت" البحرينية لموافقة معناها ما نحن بصدده ).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.