هناك من يطالب بتغيير الدستور وإسقاط الحكومة وتجريد برلمانيي مجلس النواب ومستشاري الغرفة الثانية من حصانتهم، وهناك من يحلم فقط بتغيير رئيس المجلس البلدي وعمدة المدينة أو موظف بسيط في مدينة منسية يتحكم في رقاب عباد الله ويبتزهم من أجل إعطائهم البطاقة الوطنية أو عقد الازدياد. البعض عاتبنا لأننا انشغلنا بالكتابة حول الثورات العربية والمطالب الكبيرة للنخبة ونسينا مطالب الشعب البسيطة واليومية والمستعجلة. وإذا كان شباب المدن الكبرى يستعملون الفيسبوك من أجل الدعوة إلى مسيرات احتجاجية من أجل إسقاط الحكومة، فإن شباب مدينة باب برد التابعة لإقليم شفشاون استعملوا الفيسبوك من أجل ضرب موعد لاقتحام اجتماع المجلس البلدي والمطالبة بالإطاحة بالرئيس مخلوف مرزوق الذي حول مدينتهم إلى منطقة منكوبة، واستدعاء قضاة المجلس الأعلى للحسابات ومفتشي الداخلية لفتح ملفات المجلس البلدي الذي لم يتقدم رئيسه قط أمام أعضائه بأية فاتورة تبرر نفقاته. وهكذا اقتحم حوالي مائة شاب قاعة الاجتماع، مدعومين بثلاثة آلاف مواطن اجتمعوا خارج المجلس، وطالبوا برحيل الرئيس ونائبه الذي يوقع على الوثائق في دكانه. أما شباب الفقيه بنصالح فيفكرون اليوم في إنشاء مجموعة على الفيسبوك، مهمّتها الوحيدة هي مطالبة القضاء بمحاسبة رئيس المجلس البلدي. فقد ضاق شباب الفقيه بنصالح ذرعا بالوضعية المزرية التي تعيشها مدينتهم رغم عائدات الضرائب والسوق الأسبوعي والعائدات اليومية للمجزرة وتحويلات المهاجرين المغاربة المنحدرين من المنطقة والذين يعدون بعشرات الآلاف، والتي لا يظهر لها أثر على البنيات التحتية للمدينة. الأثر الإيجابي الوحيد الذي لاحظه هؤلاء الشباب هو ذلك الأثر الذي ظهر على رئيس المجلس البلدي الذي تحول من موظف بسيط في مركز الطاقات المتجددة بمراكش إلى برلماني ورئيس مجلس بلدي وواحد من مليارديرات المنطقة، يملك العقارات ومجموعة «بلادي». وإذا كان مواطنو الفقيه بنصالح يشكون من رئيس مجلسهم البلدي، فإن مواطني سلا يشكون من رئيس مصلحة بطاقات التعريف الوطنية، والذي تعود إجبارهم على دفع رسوم التمبر مرتين بحجة ضياع ملفاتهم. الناس يطالبون بتغيير الدستور بينما المواطنون يستغربون كيف أن شكاواهم للإدارة العامة للأمن الوطني لم تفلح حتى في تغيير موظف بسيط يتحكم في بطاقاتهم الوطنية ويتصرف كما لو أنه سيمنحهم بطاقات «الغرين كارد» الأمريكية. وربما يقول قائل كيف أننا في مغرب 2011، مغرب المطالبة بتغيير الدستور، لازلنا نعاني مع مشاكل الحصول على البطاقة الوطنية. نعم يا سيدي، لازال المغاربة يعانون ويبيتون الليالي أمام مقرات الأمن ويعطون الرشوة من أجل الحصول على بطاقتهم الوطنية، التي يعرف هؤلاء الموظفون المرتشون أنه بدونها يستحيل على المغاربة إنجاز الكثير من تعاملاتهم اليومية، ولذلك حولوا ملفات طلبات البطاقة الوطنية إلى وسيلة لابتزاز الناس وسرقة جيوبهم. وبعيدا عن صخب المدن الكبيرة، هناك مواطنون يقطنون في قرية من قرى وادي زم اسمها أولاد بوغادي بقيادة بني خيران، وقف سكانها هذا الشهر مصعوقين من غلاء الفواتير التي أرسلها إليهم السي علي الفاسي الفهري، مدير المكتب الوطني للكهرباء. فخلافا للمعتاد، اكتشف سكان هذه المنطقة أن الزيادة الصاروخية تتراوح ما بين 500 و1500 درهم للمشترك، رغم الفقر المدقع الذي يعيشه سكان هذه المنطقة المنسية. والسبب هو أن السي علي الفاسي الفهري، الذي يشغل عائلته والمقربين منه في مراكز المسؤولية بالشركة الأم، لا يريد أن يشغل المزيد من المراقبين في وكالات مكتبه الوطني للكهرباء. وبسبب ذلك، فإن موظفي الوكالة ليست لديهم إمكانية المرور على البيوت لتسجيل الاستهلاك بانتظام، بسبب قلة عددهم، وهكذا يمر المستهلك البسيط من الشطر الأول إلى الشطر الثاني والثالث، وبذلك ترتفع فاتورة الاستهلاك ليربح المكتب الوطني ويصعق المواطن البسيط. وهناك مواطنة فقيرة في هذه القيادة، تشتغل كخادمة في البيوت مقابل 300 درهم في الشهر، جاءتها فاتورة استهلاك قدرها 530 درهما. وليس شباب باب برد والفقيه بنصالح وحدهم من يستعدون لرفع راية الاحتجاج ضد رئيسي مجلسهم البلدي، بل حتى بعض سكان مراكش يستعدون للقيام باحتجاجات أمام مبنى محكمة الاستئناف للمطالبة باقتلاع جذور الوكيل العام للملك، عبد الإله المستاري، الذي خيم في منصبه لثلاثين سنة كاملة، رغم وصوله سن التقاعد القانوني. إن أصل المشاكل الاجتماعية الاقتصادية في مراكش هو وجود هذا الشخص على رأس محكمة الاستئناف لثلاثة عقود جعلته يستفيد هو وزوجته، القاضية في المحكمة التجارية، وأبناؤه من امتيازات كبيرة بسبب خوف العديد من التجار ورجال الأعمال والمستثمرين من بطشه وقراراته وقسوة أحكامه ومزاجه المتقلب. لقد أصبح عرض هذا الوكيل العام للملك على الطب النفسي مسألة مستعجلة، لأن أحكامه وقراراته الطائشة تعرض المدينة إلى احتقان شعبي هي في غنى عنه، خصوصا في هذه الظروف العصيبة التي تشهد انتفاضة سكان الحي العسكري بسبب قرار ترحيلهم خارج مراكش، وما رافق ذلك من مصادمات. وهذا ما دفع بعض القضاة وكتاب الضبط في محكمة الاستئناف إلى مراسلة الديوان الملكي بالرباط من أجل تخليصهم من هذا الوكيل العام للملك الذي أصبح يصدر أحكامه وقراراته وفق مزاجه الصباحي، خصوصا ضد القضاة الذين لا يسيرون وفق أهوائه والذين يبحث لهم عن أقل الهفوات وأبسطها لكي يجمد ترقياتهم وينقلهم إلى المناطق البعيدة. والغريب في أمر السيد الوكيل العام للملك أنه يكون قاسيا شرسا في أحكامه ضد المواطنين العزل أو الذين لديه حسابات شخصية معهم، كالقضايا التي كان وراءها الرئيس الأول السابق هاشم العلوي، بينما يتحول فجأة إلى حمل وديع عندما يتعلق الأمر ببعض الأشخاص المنتمين إلى حزب الاستقلال أو رجال المال والأعمال الذين يبقي شكاياتهم في «الحفظ» والصون، إلى درجة أن كثيرين أصبحوا يتدخلون لديه بواسطة أقطاب حزب الاستقلال في المدينة نظرا إلى تأثيرهم الكبير عليه وعلى أحكامه. أما في المحكمة الابتدائية بالرباط فالجميع يستغرب كيف أن رئيسها، الذي يأتي إلى مكتبه متأبطا وسادته المليئة بصرر «الحجابات»، لازال يحظى بحماية «لوبي» وزارة العدل، رغم استعماله للطرش والسب كوسيلة لفك مظالم عباد الله. ولم يبق أمام المحامين وبعض القضاة من حل للجم طيش هذا الرئيس سوى تنظيم وقفات احتجاجية ضده للمطالبة برحيله. عندما يتأمل المرء خريطة الاحتجاجات والمطالب في المغرب، يزداد اقتناعا بأن المغرب أصبح مثل الأقرع «فين ما ضربتيه يسيل دمو». فلكل جهة مطالبها ولكل جماعة أولوياتها. وعندما يحتج البعض على فواتير الكهرباء، فإن مستخدمي منتجع «مزاغان» يحتجون على منحهم 100 دولار للفرد من هبة تركها وراءه ملك السعودية، قيمتها ثلاثة ملايير سنتيم. فقد جمع المستخدمون الحساب واستنتجوا أن نصيبهم من الهبة الملكية هي مليون سنتيم للفرد، غير أن حفنة المدراء الفرنسيين الذين يديرون المنتجع «كوشت» على الهبة السخية وألقت إلى المستخدمين المغاربة بالفتات. ويبقى أن هؤلاء المستخدمين أكثر حظا من العشرات من عناصر الأمن والدرك الذين «سهروا» على راحة وأمن الملك السعودي طيلة وجوده في المنتجع، والذين لم يتوصلوا بدرهم واحد من الهبة التي تركها لهم هذا الأخير، فقد قررت مصالح الأعمال الاجتماعية للأمن والدرك «مصادرة» هذه الهبة لكي تصرفها بمعرفتها، ربما على مسؤولين كبار «مبندين» في مكاتبهم بالرباط لم يبذلوا أي مجهود يذكر أثناء إقامة الملك السعودي في المنتجع. وليست هذه هي المرة الأولى التي تخلق فيها «بركات» الملك السعودي احتجاجات في دكالة، فقبل عشرين يوما تقريبا خرج المئات من المواطنين الفقراء يحتجون على المحسوبية التي عرفها توزيع منحة قدرها 45 مليونا على فقراء المنطقة. وبعدها مباشرة، خرجت احتجاجات أخرى معارضة تدعو إلى رفض صدقات ملك السعودية وتمكين المواطنين من الاستفادة من خيرات منطقتهم، خصوصا مقالع الرمال التي يستفيد منها جنرالات متقاعدون دون أن يدفعوا لوزارة التجهيز تعويضات عن أطنان الرمال التي يستخرجونها ويبيعونها كل يوم. ونحن نتوصل بالبلاغات والبيانات والنداءات الداعية إلى التظاهر والاحتجاج، لا يسعنا سوى أن نقول لمن يديرون شؤون هذه البلاد «يحسن عوانكم»، فيبدو أن هذه الموجة من الاحتجاجات ليست سوى البداية «ومزال العاطي يعطي». وشخصيا، أفضل أن أرى في هذه الهبات الشعبية جانبها الإيجابي، وخصوصا نجاحها في إيقاظ من يحكموننا من سباتهم العميق ودفعهم إلى النزول إلى الشارع للاستماع إلى نبضه، عوض الاكتفاء بقراءة التقارير الباردة والكاذبة التي تطمئنهم وتخبرهم بأن «الوضع تحت السيطرة».