2 الميل إلى المراجعة إن هذه الحقائق البديهية التي أتينا على ذكرها هي التي ظلت غائبة عن كثير من المثقفين والباحثين العرب حينا من الزمن ، وقد حالت نظارات المثال الجاهز دونهم وامتلاك الجرأة الكافية لوضع مجموعة من المنطلقات النظرية والمنهجية محط السؤال والشك . فها هو ذا طه حسين على سبيل المثال يشك في كل شيء على الطريقة الديكارتية وينتهي إلى نتائج خطيرة . ولكنه لم يجرؤ لحظة واحدة على أن يشك في منهج الشك أو في المركز الغربي الذي تبناه بحسناته وسيئاته . ولعل هذا الوضع ، بعد استفحاله ، هو الذي دفع في السنوات الأخيرة بعض الباحثين والمثقفين والفلاسفة العرب لأن يراجعوا هذه المنطلقات . وأن يتجرأوا على الحمى السحري المقدس لتلك المسلمات التي أحيطت بإيمان أورثوذكسي ثابت . ولقد عبر د. حسن حنفي في معرض التقديم لكتابه الذي يحمل عنوان » مقدمة في علم الاستغراب « عن هذه المراجعة بوضوح كبير فقال عن نفسه ونيابة عن كثير من أمثاله : » كانت نقطة انطلاقي الأساسية في هذا الكتاب هي التالية : مازلنا نرى أن الغرب هو مصدر العلم ، الغرب هو الذي ينتج ونحن نستهلك . الغرب هو الذي يبدع ونحن نقلد . وأكبر مشروع ثقافي عربي مازال هو مشروع الترجمة والنقل : أي مشروع التعلم . وعلى أي حال فمعدل إنتاج الغرب في هذا المجال أكبر بكثير . ومهما فعلنا فلن نلحق به ، وهو يبدع ونحن نترجم . وهكذا فكل عملنا هو تهميش وتلخيص وتعليق على كانط وهيغل ، إلخ… هذا يعني أن علاقتنا بالغرب هي علاقة المركز بالأطراف . فقلت : ربما كان هذا هو السبب في أننا نبدو متحررين (ظاهريا) ولكننا في العمق نزداد تبعية . وكان السؤال : ألا يمكن تغيير أو تجاوز معادلات المركز والأطراف ؟ أي المركز الذي يبدع والطرف الذي يستهلك …… « ¹ ثم يستمر المفكر على المنوال نفسه في رفع التحدي والجرأة على المسلمات والأقانيم الثابتة 1- »علم الاستغراب « .. ما هو ؟ حسن حنفي ضمن مجلة الكر مل ع45/1992 ص:134 فيقول : » .. هذا هو أحد مظاهر التبعية . فلماذا لا أستقل أنا وأتحرر من هذا المركز الذي يستعبدني وأحوله ليس فقط إلى مصدر للعلم وإنما إلى موضوع للعلم ؟ فهو أيضا ملاحظ وليس فقط ملاحظا ، وأنا أيضا ملاحظ وليس فقط ملاحظا ، وبالتالي فعملية أن أتحول أنا إلى ذات عارفة وليس فقط إلى موضوع للمعرفة وتحويله هو إلى موضوع للمعرفة وليس فقط ذاتا عارفة هي عملية تساعد على التحرر العربي .. « . 1 إنها جرأة فكرية ناذرة لم نجدها في الحقيقة سابقا سوى عند أقطاب المدرسة الإصلاحية السلفية ومفكري الصحوة الإسلامية المعاصرة ، في الوقت الذي كان العديد من مثقفي النخبة المغتربة ينزهون الغرب عن وضعه في مثل هذا الموضع الذي يقترحه ذ . حسن حنفي . أما اليوم فقد بات واضحا أ ن هذه الجرأة ضرورة تاريخية ليس من أجل صياغة مناهج متميزة عن الآخرين فقط ، بل من أجل أن تأخذ " الأنا الجمعية " كذات عاقلة حيزها الأنطولوجي المعقول وتشكلها البريء من الشعور بالدونية والانسحاق أمام الآخر . هذا من جهة ومن جهة أخرى كي تأخذ الأشياء والمفاهيم الأخرى أحجامها الحقيقية في مساحة الذاكرة والنسيج النفسي الجماعي ، فلربما "كان الغرب" أكبر هذه الأشياء التي احتجزت في ذاكرتنا حجما مترامي الأطراف ، وتحول هذا التضخم المرضي إلى عائق نفسي حقيقي يحول دون كل محاولة في مجال الممارسة النظرية والمنهجية المستقلة ودون كل عملية جادة للنهوض والحداثة . ولقد صدق حسن الحنفي أيضا حينما قال في الإطار نفسه : »أحد عوامل التحرر لعربي هو رد الغرب إلى حدوده الطبيعية وتحجيمه وإثبات تاريخية ثقافته ، حتى يفسح المجال للثقافات غير الأوروبية بأن تؤكد ذاتها وهويتها . ذلك أنه مادام هذا الفيض يتدفق من المركز نحو الأطراف ، فإنك لن تستطيع أن تتنفس ، لأنك مغمور باستمرار بهذا الإبداع الخارجي . أحد شروط هذا الإبداع هو أن تحرر نفسك من سيطرة الآخر عليك . وهذا ليس رفضا للغرب ، وإنما هو محاولة لأن توجد أنت بنفسك أيضا ، وأن تدرس الظواهر دراسة مباشرة وأن تنظر للواقع تنظيرا مباشرا ، وألا تنظر إلى الواقع من خلال نص مكتوب ، وأن تحول أنت الواقع إلى نص مكتوب « .2 . 1- نفسه ص : 13 2- المرجع السابق ص : 135 وإذا كان هذا هو شأن الفكر والثقافة بصفة عامة فإن الميل إلى المراجعة المتراوحة بين الجذرية والشكلية وبين العمق والسطح ، امتدت إلى مجال النقد المنهجي (الأدبي) نفسه فصارت الأصوات تتعالى من هنا وهناك داعية التمرد على عقلية الاستنساخ والترجمة ، وجاعلة من المناهج والنظريات الغربية موضوعا للسؤال والشك أيضا كما هو مفروض في كل الإبداعات البشرية . فهذا د. محمد مفتاح على سبيل التمثيل يرى أنه قد »حان الوقت للناقد العربي كي يقوم بتمحيص كل ما يرد عليه من أنواع المقاربات النقدية الأجنبية . « . 1 إلا أن الشاهد عندنا هنا والمفارق أيضا يكمن في أن الناقد والباحث المغربي نفسه أمضى مدة لابأس بها من الزمن وهو يفكر بطريقة مغايرة تماما . أليس محمد مفتاح هو القائل » بالنسبة لي كإنسان في العالم الثالث وبالظروف التي درسنا فيها ، وبالإمكانات المحدودة ، أقول إنه ليس هناك في بيئتنا إبداع علمي، والإبداع في ميادين ومناهج العلوم الإنسانية مرتبط ارتباطا وثيقا بالإبداع في الميادين العلمية البحثة ، لذلك فما دام الغربيون مبدعين في ميدان العلوم البحثة فهم مبدعون أيضا في ميدان العلوم الإنسانية ، لذلك فنحن تابعون ، و ليس أمامنا إلا تكييف تلك النظريات . وإن فتح الله يمكن أن نقدم بعض الإضافات البسيطة . ولا ينبغي أن يزعم أحد في العالم الثالث أنه قادر على خلق نظرية متفردة لسبب بسيط وهو أنه ليس هناك إبداع علمي ، ولأنه ليس هناك اتصال بين الإنسانيين والعلماء . ولهذا فمن يعقتد أنه يمكن أن نخلق مناهجنا الخاصة بنا إنما يغالط نفسه و يعيد إنتاج التخلف . من هنا تصبح مسألة الاستفادة من المبادئ العامة الإنسانية التي لم ينتجها العالم الثالث ضرورية ؛ ذلك أن الدراسات الإنسانية الحديثة يجب أن تكون ملمة بالمنطق ، بالبيولوجيا ، باستخدام الحاسوب . . إلى غير ذلك « .2 هكذا كان ذ .محمد مفتاح يفكر ، إلى حدود سنة 1987 و هو تفكير موغل في الاستسلام للمثال المنهجي الغربي الجاهز ، و إن حاول أن يبحث له عن تبرير في انتفاء الإبداع العلمي داخل البيئة العربية و حضورها في الغرب فكأن الغرب ما بنى نظرياته في المجال الإنساني إلا بعد أن انتظر 1- " النقد بين المثالية و الدينامية " ضمن مجلة الفكر العربي المعاصر " ع 60 -61 يناير - فبراير 1989-ص:19 . 2- " حوار مع ذ . محمد مفتاح " ضمن مجلة " دراسات سيميائية أدبية لسانية " ع 1 خريف 1987 –ص:20 . تشكل مختلف الحقول العلمية ، و الحال أن ثمة علاقة جدلية تكاملية دائمة بين المجالين معا و لم يكن الواحد منهما ينتظر الأخر ، هذا بغض النظر عن معقولية النظر إلى هاتيك النظريات باعتبارها الممكن الأوحد في عالم النقد والمناهج . و دونما استرسال في هذه المناقشة يهمنا هنا أن الأستاذ محمد مفتاح سنة 1989 و أكد بنفسه على ضرورة الشروع في تمحيص كل ما يرد على الناقد العربي من أنواع المقاربات النقدية الأجنبية ، و هذه خطوة مهمة في مجال مراجعة العلاقة بالمثال الجاهز سالف الذكر . هذا فيما يتعلق بالأستاذ محمد مفتاح الذي يتحدث هنا بلسان عدد لا بأس به من النقاد و الباحثين المغاربة الذين صاروا و يستشعرون الضرورة نفسها فيما نظن و نتصور ، أما نقاد المشرق العربي فكانوا الأسبق في رفع علامة المراجعة دون الحديث طبعا عن الباحثين ذوي الميولات الفكرية الإسلامية ( نسبة إلى الصحوة الإسلامية المعاصرة ) الذين حسموا هذا الموضوع مند البداية . و من بين هؤلاء المشارقة يمكن التمثيل بالأستاذ د .جابر عصفور الذي يتحدث عن تهاوي المركزية الغربية الأوروبية بشكل نهائي في مجال النقد الأدبي . و يرى في صدور كتب من قبيل " أثينا السوداء " ( 1987 ) لبرنال و كتاب سمير أمين عن " النزعة المركزية الأوروبية " ( 1988 ) دليلا واضحا على أفول نجم المركزية الأوروبية في مجال العلوم الإنسانية بما فيها حقل النقد الأدبي أفولا يفسح المجال على مصراعيه لتنامي خطاب مغاير (( يصوغه نقاد العالم الثالث بالدرجة الأولى ، حيث تتلاقى أسماء إدوارد سعيد ، و هومي بابا ، و إعجاز أحمد ، و شاندرا موهانتي ، و جايا ترى شاكرا فورتي سبيفاك . و هي أسماء يكتب أصحابها في العالم الأول ، مؤكدين حضورهم في هذا العالم و إزاءه ، بوصفهم منتمين إلى هويات حضارية مختلفة و تراثات متباينة ، و مدارس فكرية متعددة يجمع بينهم التمرد على الخطاب المركزي الذي يصدره العالم الأول ، و على كل خطاب مركزي في أي شكل من أشكال الكتابة. و لا يمكن اختصار كتابتهم في أنها فعل من أفعال الإمبراطورية التي تثأر من سادتها القدامى ، فما كتبه إدوارد سعيد في " الاستشراق " ( 1978 ) أو " العالم و النص الناقد " ( 1983 ) أو "الثقافة و الإمبريالية " ( 1993 ) أو " تمثيلات المثقف " ( 1994 ) و إعجاز أحمد " في النظرية " ( 1992 )و جايا ترى سيفاك عن " ناقد ما بعد الكولونيالية " ( 1990 ) ليس سوى محاولات متكررة لتأسيس خطابات مناقضة لكل سلطة ، و تعرية لتجليات أساطير الهيمنة البيضاء ، بحثا عن عوالم أخرى تؤكد التعددية الإنسانية )) .1 و ينظر جابر عصفور إلى هذا التيار النقدي الناهض بارتياح و تفاؤل ويرى فيه » علامة أخرى على التعددية التي تميز المشهد النقدي في كل مكان ، و هي تعددية تسعى إلى تأكيد حضورها الذي يستبدل بالوحدة المصمتة ( كالبنية المغلقة ) التنوع الذي يتيح لكل الأطراف الإسهام في المشهد النقدي « 2 بل يذهب الناقد إلى أكثر من ذلك بهذه المراجعة فيقول : ' . . ذهبت إلى الأبد الدنيا التي كان فيها بعض النقد الأورو – أمريكي هو الإطار المرجعي الوحيد ، أو التي كان فيها لوكاش أو غيره الحكم التي ترضى حكومته في كل الأحوال ، و حلت محلها دنيا أخرى مزاحة المركز ، متعددة الأطراف ، متباينة المصادر ، محتشدة بعشرات ( بل مئات) الأسماء إلى درجة الوفرة الوفيرة غير القابلة للاختزال أو التقليد أو الاستهلاك ، و التي تتطلب أقصى درجات الانتباه من الوعي النقدي اليقظ ، و تستلزم ضرورة الإسهام الفعال في المغامرة الكونية الهائلة لنقاد الأدب في كل مكان ' . 3 1 - » فضاء النقد الأدبي « د . جابر عصفور - ضمن " مجلة العربي " ع 446 يناير 96 - ص : 105 . 2 - نفسه ص : 104 -105 . 3 - نفسه ص : 105