تنطفئ منارات حرية التعبير واحدة تلو الأخرى على امتداد الوطن العربي، منذرة بالانكفاء صوب حقبة من الجهل، غياب التسامح وقمع الحريات. ويبدو الآن أن غالبية الشعوب العربية -التي كانت ترى في حرية التعبير مكسبا وحيدا من تداعيات التغيير في دول المنطقة- باتت تتجه لتقبل التضحية بهذا الحق الكوني وبانتهاك حقوق الانسان، مقابل وعود باستعادة الاستقرار والازدهار الاقتصادي. المحزن أيضا أن القيادات تتجاسر الآن على فرض النظام القديم، مستغلة الفوضى المنتشرة عبر دول المنطقة، مع انهيار هياكل دول مثل ليبيا، اليمن، سوريا، والعراق. وهكذا يتصدر الأمن وليس الديمقراطية رأس أولويات الحكام وغالبية الشعوب، فيما تتلاشى الشعارات التي ظهرت خلال السنوات الأربع الماضية: العدالة المجتمعية، سيادة القانون وقيم الديمقراطية، احتواء الفساد المستشري وإعلاء حق الوصول إلى المعلومات وبناء إعلام احترافي يسائل السلطة ويحاسبها. وفق هذه المعادلة، قد تمضي أجيال وأجيال قبل أن نرى مجددا أصواتا مستقلة في سماء العالم العربي. ما يثير القلق، بروز تحالفات مبطنة بين الحكومات ورجال أعمال يديرون مؤسسات إعلامية خندقت ذاتها في مواجهة الأصوات المعارضة، التي باتت تصور على أنها تهدد أمن المجتمعات واستقرارها. إذن هل غدت الصحافة مهنة مستحيلة في هذه المنطقة؟ في العديد من الحالات.. نعم. فالصحافيون، الأكاديميون والكتاب الذين يتحدّون الخطاب الرسمي يواجهون رقابة ومحاكمات غير عادلة، ناهيك عن العنف اللفظي والجسدي. العديد من الصحافيين رفعوا الراية وتراجعوا عن المواجهة لأسباب عدة؛ من بينها الخوف أو رغبة انتهازية لإرضاء الحكام الجدد مقابل الفوز بمكاسب شخصية. ماذا علينا فعله أمام هذا الانحدار؟ أخشى أن أدوات وقف الانهيار معدودة. القلة من الصحافيين الشجعان الملتزمين بخدمة مجتمعاتهم من خلال كشف تجاوزات السلطة، سيواصلون خوض معركة استقلالية الإعلام وحدهم، وبكلفة عالية. ... *كاتبة المقال : صحفية مستقلة ومدربة إعلامية والمديرة التنفيذية لملتقى أريج المتخصص بثقافة صحافة الاستقصاء في غرف الأخبار وكليات الإعلام في تسع دول عربية؛ الأردن، سوريا، لبنان، فلسطين، العراق، مصر، البحرين، اليمن وتونس.