ينطلق في عمان اليوم الجمعة مؤتمر أريج السنوي السادس بمشاركة أكثر من 300 صحافي استقصائي عربي، يتشاركون في تحدّي حواجز سياسية، قانونية ومجتمعية في سعيهم لكشف تجاوزات حكومات وسوء إدارتها وصولاً إلى مجتمع أكثر عدالة. تأتي هذه التظاهرة السنوية - التي تنظمها شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج)- في وقت يتعمق فيه التخندق والاستقطاب ولغة التخوين في المشهد الإعلامي، بعد انحراف مسار الثورات العربية وتنامي الخشية من المستقبل. لكن تلك التحديات القديمة/الجديدة لم تنل من عزيمة الجيل الجديد من صحافيي الميدان والمحررين في مواجهة شتّى الضغوط والحواجز وصولاً إلى استعادة دور الصحافة ك «سلطة رابعة». فهذا الجيل يسعى إلى إخضاع أصحاب السلطة والنفوذ للمساءلة، وتشجيع مجتمعاتهم على المحافظة على مواجهة الحقائق المزعجة المتوارية خلف بيانات منمقة، بعيداً من الشفافية ومبدأ المحاسبة. ويبقى جهد هؤلاء الرواد أشبه بمهمة مستحيلة في منطقة تخضع لأنظمة شمولية وتفتقر إلى حق الوصول إلى المعلومة، بالمقارنة بدول الغرب التي خطت شوطاً مشرّفاً في إرساء تقليد «صحافة المساءلة»، لكن بعد عقود من التحولات السياسية وتحقيق مساواة في الحقوق المدنية والقانونية بين الجنسين وإصرار دافع الضرائب على معرفة أين تصرف أمواله. هنا، لا شيء يقف إلى جانبهم. فالعديد من المسؤولين يرفضون التحدث إلى الإعلام، إلا إذا كانت المقابلة ترويجية على مقاسهم المبرمج. وبالكاد توجد بيئة قانونية متطورة وتقليد راسخ من الصحافة التنافسية الحيوية - أو ناشرون دون أجندة خارج طيف مالكي وسائط الإعلام التابعة للحكومات، رجال أعمال وساسة متنفذين باتوا يتحكمون اليوم بمفاتيح ما يسمونه إعلاماً مستقلاً فقط لأن تمويله ليس حكومياً. ويغيب أيضاً الإسناد المجتمعي، أو حتى دعم رؤساء التحرير للصحافيين الجريئين الراغبين في كسر المحرمات وتوثيق الحقائق. غالبية الدول العربية تفتقر إلى قوانين حق الوصول إلى المعلومات. ومع ذلك يشتكي صحافيون في عمّان، وتونس وصنعاء - حيث سنّ المشرعون قوانين تسمح بالاطلاع على السجلات الخاصة والعامة- من أن هذه القوانين مليئة بالثغر ومشوبة بالقصور، بحيث تسمح للجهاز البيروقراطي بحجب المعلومة في كل صغيرة وكبيرة. وفوق ذلك، تنطلق غالبية الراغبين في احتراف الصحافة، على القدم الخطأ. طلاب الإعلام يتخرجون دون أن يتسلحوا بالحد الأدنى من الخبرة العملية. ثم ينضمون إلى وسائط إعلام لا يؤمن أكثرية رؤساء تحريرها بقيم التدريب الاحترافي. فمعظم رؤساء التحرير من الجيل القديم وعاجزون عن اللحاق بركب الثورة المعلوماتية. ويكمن جزء أخر من المشكلة في أن قلّة من رؤساء التحرير صحافيون محترفون ولا يمتلكون مهارات وأدوات لنقلها إلى الأجيال الجديدة. كما أن غالبية وسائط الإعلام الخاصة والعامة تدفع رواتب متدنية. هذه المعادلة تدفع الصحافيين الجيدين للبحث عن فرص عمل خارج أوطانهم أو للعمل مع وسائط عدّة في آن، لتأمين قوت يومهم. في المحصلة، يفقد هؤلاء التركيز وتتبخر طاقتهم الكامنة، وبالتالي ينتجون كماً من الأخبار على حساب النوعية والقدرة على التأثير. كما أن العديد من وسائط الإعلام لا توظف خبرات تحرير احترافية ضمن ما يعرف بنظام ضبط الجودة والتأكد من الحقائق المنشورة، في غياب محام يراجع القصص التي قد تحمل في طيّاتها مساءلة قانونية. إلى ذلك، لا يبدو أن المجتمعات مستعدة للخضوع لامتحانات تشريحية من شأنها معالجة الإخفاقات المستوطنة فيها نتيجة الموروث الثقافي والاجتماعي، ربما لأنها تفتقر إلى الثقة والنضوج في ظلال منطقة تحكمها هياكل أنظمة بطريركية. إذاً، هل يمكن «صحافة المساءلة» أن تضرب جذورها في هذه المنطقة، بوجود تلك التحديّات؟ الجواب: نعم. لكن على نحو تدريجي، بدءاً بنشر صحافة الاستقصاء التي تركّز على كشف حالات غش يعاني منها المستهلك، وتجاوزات شركات وتحايلها على القوانين، وتدهور البيئة، وفضائح صحية وغيرها من القضايا الحياتية الملحة، قبل أن ينتقلوا لكشف التزوير في الانتخابات وشراء الأصوات، والجريمة المنظمة وروابط الفساد وراء البحار. على الصحافيين أيضاً تطوير مهاراتهم والالتحاق بركب ثورة المعلومات، لكي يكونوا على مقدار مهمتهم المقدسة. وذلك يأتي بالممارسة وتراكم الخبرات في الاتجاه الصحيح. هذه هي الطريق الذي تشجعه «أريج»، شبكة دعم الإعلام المتخصصة في نشر ثقافة الاستقصاء في غرف الأخبار وداخل كليات الإعلام، حيث يتأهل صحافيو المستقبل. بالاعتماد على دعم السويد والدنمارك والنرويج وهولندا ومؤسسات المجتمع المفتوح، قدّمت «أريج» منذ أواخر 2005 مساعدات مهنية، قانونياً ومالية لأكثر من 200 صحافي، انفردوا في إنجاز تحقيقات أثرت في مجتمعات دول انتشار الشبكة؛ الأردن، فلسطين، سورية، لبنان، العراق، مصر، البحرين، اليمن وتونس.