ما أحوجنا في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها الأمة العربية و الإسلامية إلى أن نتذكر أخلاق و تصرفات رائد من رواد التحرر ، التحرر من الأحقاد و الجهالة و روح الانتقام و الكراهية قبل تحرير الأرض ، تلك الشخصية التي تحتفون بها اليوم و دائما و التي كانت قد نادت في بداية العشرينات من القرن الماضي بالإخاء و التعاون بين بني الإنسن بصرف النظر عن دينهم أو معتقداتهم أو جنسهم أو لونهم . إن تسليط الأضواء على شخصية الأمير عبدالكريم الخطابي اليوم أمر يفرضه الواجب ، خاصة بعد أن أصبحت صورتنا كعرب و مسلمين مشوعة و أصبحت هناك علامات استفهام حول مبادئ الدين الإسلامي و الأخلاق العربية الأصيلة ، فسيرة عبدالكريم ما زالت تنبض بالحياة . و لا أدل على ذلك أن العديد من الكتاب و الباحثين في السنين الأخيرة قد أولوا هذه الشخصية اهتماما بالغا و مثال ذلك الكتاب الذي ألفته حوله باللغة الفرنسية الباحثة زكية دواد تحت عنوان "ملحمة الدم و الذهب" أما الدم فتقصد به القوة ، بينما الذهب يمثل العدل و الأخلاق ، فعندما تلتحم القوة بالأخلاق تصنع المعجزات القوة وحدها تؤدي إلى الطغيان و يسهل انكسارها و لا تدوم . لقد رأينا في التاريخ جبابرة غزوا بلادا و ارتكبوا جرائم بشعة ضد الإنسانية و لكنهم سقطوا من التاريخ الإنساني ، فالفضيلة وحدها هي الباقية "فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " ، فما يجب أن نركز عليه في "شخصية القرن" هو الفضيلة و الرحمة و الرأفة بالناس ، فبعبقرية عبدالكريم العسكرية ، و التي أصبح بفضلها رائدا في فنون الحرب التحريرية في القرن العشرين ، لم تكن الصفة التي ميزته و أبرزته و خلدته ، و إنما إنسانيته و صدقه و تمسكه بالقيم الإسلامية الحقيقية التي تتمثل ببساطة في الصدق و الأمانة و الرأفة و الرحمة . إن الشعوب و حتى و إلم تكن متعلمة أو مثقفة ، فإنها تستطيع أن تميز بفطرتها بين الصدق و الكذب ، و العدل و الظلم ، فقد كان في استطاعة الخطابي أن يكسب الحرب بالرغم من كل المعوقات و التفوق النوعي و الكمي لخصومه ، إلا أنه فضل التمسك بالقيم على الانتصار المادي و هو الذي قال عندما رفض مهاجمة "مليلية"و تصفية الاحتلال الإسباني في ذلك الثغر خوفا على المدنيين ، بالرغم من أنه كان في أوج انتصاراته : " أي نصر هذا الذي يمر على جثث الأبرياء من النساء و الأطفال "؟ ، في حين اعتبر كل المحللين العسكريين ذلك خطأ عسكريا فادحا ، حيث كان بإمكانه تصفية الوجود الإسباني في ذلك المعقل الهام ، و بالتالي تثبيت النصر الذي كان قد حققه بالفعل و الذي يعتبر في حد ذاته معجزة بجميع المقاييس . بهذه القيم و الأخلاق ، هزم عبدالكريم مع حفنة من رجاله جيوشا منظمة يقودها "مارشال و جنرالات" أوروبيون و على رأسهم المارشال "بيطان" بطل معركة "فردان" في الحرب العالمية الأولى و الذي خلف المارشال "ليوطي" الشهير الذي عجز عن مجابهة عبدالكريم معللا ذلك بقوله : "لقد هوجمنا من أكفأ عدو لاقيناه في حروبنا الاستعمارية و لا تقل قيادته حنكة من ناحية التكتيك و الاستراتيجية عن أرقى الأمم الأوروبية : ، فلا يمكن أن يكون عبدالكريم قد هزم تلك الجيوش بالسلاح المادي أو بالتكتيك الحربي فقط ، و إنما هزمهم بالفضيلة الحقة . فلقد قال الكاتب الكاتب البريطاني "روبيرت فورنو" بالحرف الواحد في الكتاب الذي ألفه عنه تحت عنوان "عبدالكريم أمير الريف" : " إني أعتقد أنه كان رجلا فذا ، كان يمكن للعالم الغربي أن يتعلم الشيئ الكثير منه ، و إن كان ثمة عبرة نتعلمها فلعلها إدراك الحقيقة التالية ألا و هي : إن الفضيلة ليست مقتصرة على المنطقة الواقعة شمال البحر المتوسط". و تعقيبا على ذلك فإن نجاح عبدالكريم الخطابي راجع إلى فهمه العميق لمعنى الفضيلة كما يفهمها المحارب المغربي الأصيل ، و تلك الأخلاق التي تركز على : عدم التقهقر أمام الخصم و حماية الضعفاء و عدم الاعتداء على النساء و الشيوخ و الأطفال و السماح للخصم بالحفاظ على ماء وجهه حتى تكون هناك إمكانية للمصالحة في المستقبل ، فهو لا يحارب الخصم لقهره و إهانته ، إنما يحاربه للدفاع عن نفسه و كرامة شعبه و القيم الإنسانية التي يتمسك بها . و هذا يبين فكر عبدالكريم و شخصيته و تمييزه بين معنى الشجاعة و التهور ، فالشجاعة الحقيقية عنده تعني الشجاعة الأدبية و التمسك بالحق مقرونا بالحكمة و حسن الخلق . و لما كانت الأخلاق كلا لا يتجزأ اتبع عبدالكريم هذا السلوك في التعامل مع مواطنيه و سائر الناس ، و هو الذي أصدر قانونا يحاكم بموجبه كل من يمس اليهود المغاربة أو يحط من قدرهم ، المبادئ عنده كما قلنا لا تتجزأ . فعبد الكريم الخطابي طبقية الأبطال كان يبحث عن السلام الحقيقي و التعاون بين الأمم و الشعوب مع الحفاظ على هوية كل شعب بعيدا عن التسلط و فرض قيم و نظم غريبة لا تتلاءم مع ثقافته و طموحاته . و نرى اليوم جليا ما خلفه الاستعمار الذي كان يواجهه الخطابي ، من تخبط دول جنوب البحر المتوسط في التخلف ، بسبب محاولة تطبيق نماذج غريبة عن تراثها ، مما جعل الأمن غير مستتب و العدالة مفقودة ، فضلا عما تعانيه تلك الشعوب من انفصام في الشخصية بسبب ما فرض عليها من عادات و تقاليد غريبة لم تستطع التأقلم مهما . و إذا ما اتخذنا عبدالكريم كنموذج للمسلم الحقيقي ، لوجدنا المسلمين في عصرنا الحالي ، بعيدين كل البعد عن رسالة الإسلام ، و السؤال الملح الذي يطرح نفسه بشدة هو لماذا أغفل العالم العربي و الإسلامي تسليط الأضواء على هذه الشحصية الفذة التي أقر بمصداقيتها و فضيلتها زعماء و كتاب و مفكرون عالميون بارزون ، من أجل تحسين صورة المسلم المعاصر ، فضلا عن واجب الاقتداء به ، فعندما نتحدث عن هؤلاء الأبطال فليس القصد تمجيدهم لأنهم دخلوا التاريخ من أوسع أبوابه ، إنما المقصود هو إحياء ذاكرة جميع الشعوب المستضعفة ، و لكنني لم أجد بعد جوابا شافيا لهذا السؤال ، و أرجو أن يوفق غيري في معرفة سبب هذا الإغفال . ترقبوا الحلقة 2/2 :