حوالي 84 عام من رحيل البطل التحرري العالمي محمد بن عبد الكريم الخطابي عن موطنه الأصلي –الريف- وأزيد من 50 سنة على استشهاده بالقاهرة-مصر وذلك صبيحة 6 فبراير 1963 بعيدا عن الوطن الذي قدم له الغالي والنفيس لتشاء به الأقدار إن لم أقل شاءت مواقفه ومبادئه أن يدفن بعيدا عن وطنه ليواصل نضاله إلى يومنا هذا من قبره بما تركه لنا من موروث فكري،تنوري،تحرري ومن مبادئ ومواقف سياسية شجاعة على هذا الشعب وهذا الوطن الذي سرقت (بضم السين) رغبته في الحرية وصدرت أحلامه في التحرر والذي لم يكتب له تحقيق الكرامة والعدالة لأبنائه من خلال ما دافع عنه وما آمن به الأمير الخطابي من مبادئ ومواقف التي نضال وعبر عنها بكل بسالة ولم يقبل أبدا بالتناول عليها أو المساومة بها أمام أعدائه الاستعماريين وخصومه السياسيين الموالين لهذا العدو الاستعماري الغاشم. نقف اليوم إلى هذا الموضوع من جديد وذلك بمناسبة اقتراب محطة 6 فبراير التي فقدنا وفقد فيها العالم رائد الفكر التحرري العالمي محمد بن عبد الكريم الخطابي، حيث مع توالي هذا الموعد تحاول بعض الكتابات أن تقف في تناولها لشخصية الأمير الخطابي من زوايا سياسية ضيقة لا تنسجم بتاتا ومواقف الرجل وتطورها، وتجد هذه الكتابات تذهب إلى البحث في فكر الرجل عن ما يناسب إيديولوجياتها السياسية حتى يتم تصدير مواقفه وتقريب فكره إلى مواقفهم السياسية الضيقة ويقولوا أن مولاي موحند كان هكذا ولم يكن هكذا، وهذه من بين الأخطاء التي يسقط فيها مجموعة من الباحثين في التاريخ الرجل كما يسقط في ذلك حتى المثقفين والسياسيين في تعامل مع مواقف هذا البطل التحرري العالمي، وهذا يعود طبعا إلى جهل إن لن أقل تجاهل هؤلاء لمواقف الأمير وتطورها من اليوم الذي قرر فيه حمل السلاح في وجه المستعمر إلى اليوم الذي أنزل (بضم الألف) فيه بالقاهرة ليستشهد ويدفن فيها إلى حد اليوم، وأصحاب هذا التجاهل هم الذين يحاولون تصدير وتحوير وتشويه وتجزيء إن لم أقل طمس في بعض الأحيان لمواقف الرجل ولمشروعه الفكري التنويري التحرري والسياسي الحداثي وذلك خوفا من بروز هذا الفكر التحرري من جديد بكل ما يحمله في شموليته من مبادئ ومواقف والذي يضرب (الفكر مولاي موحند) ضمنيا شرعية ومشروعية النظام السياسي القائم وكل ما يدور في فلكه من الدكاكين السياسية عرض الحائط، لهذا سنحاول من خلال هذه المقالة المتواضعة (المتواضعة نسبة إلى الشخصية التي نتناولها فيها التي مهما قلتا في حقها سيكون الشيء القليل مما يجب أن يقال) الوقوف إلى فكر مولاي موحند ومشروعه السياسي التحرري وما أطرته من المواقف السياسية الشجاعة والمبادئ الراسخة. تحاول بعض الكتابات أن تقدم مقاومة مولاي موحند للاستعمار كأنها "صرخة في واد" كما يقال وأنها مجرد "تسيبا سياسيا" وهذا يعتبر جهلا بشخصية الرجل وتاريخ مقاومته وبمشروعه السياسي التحرري، لأن الخطابي لم يكن جاهلا للتحولات الفكرية والسياسية والاقتصادية التي يشهدها التاريخ المعاصر لأوربا وباقي الدول العالم المتقدم في علاقتها بالدول العالم الثالث، بل كان عارفا وملما إن لم أقل مطلعا على المؤامرات التي تحاك من الطرف الاستعمار الاسباني ضد الريف ومن طرف القوى الامبريالية ضد الشعوب المستضعفة عامة، وبالتالي تصديه للاسبان لم تكن ممارسة عفوية بل كانت فعلا منظما معبرا عنه من خلال إستراتيجية وتخطيط واضح وذلك عن طريق ممارسة مبنية على المبدأ أولا الذي آمن به الأمير الذي هو محاربة الاستعمار دفاعا عن الريف وأرضه ثم من خلال الموقف الواضح الذي بني عليه هذه المقاومة للاستعمار ثم الهدف الذي يسعى الوصول إليه من خلال هذه المقاومة الذي هو تحرير الريف والمغرب عامة، وأي ممارسة غير مبنية على هذه العناصر الثلاث (المبدأ،الموقف،الهدف) تبقى ممارسة مكرية وخداعية ونصبا للفخاخ وتحايلا على التاريخ وتكالبا عليه ولهذا كانت تجربته في مقاومة الاستعمار تجربة فريدة من نوعها ليس فقط في نجاحاتها العسكرية التي أبهرت العالم بل أيضا من حيث الفكر التحرري السياسي والتنظيمي الذي كان يرمي من خلاله تدشين مشروعه تحرري حضاري وتحرير منطقة الريف أولا والمغرب ثانيا، في أفق تحرير جميع تراب شمال إفريقيا، وبالتالي انكب على إرساء دعائم جمهوريته القادرة على تحديث الريف، فخلق إطارا سياسيا ينظم المقاومين ويوحد صفوفهم، وأسس نظاما قضائيا وإدارياً لتنظيم القبائل وحفظ الأمن والاستقرار من خلال دستور تشرعي، وهكذا أسس جمهورية الريف كتكتيك لحظي من أجل تحصين المكتسبات الميدانية والسياسية في أفق تمهيد لإنطاق العمليات العسكرية لطرد المستعمر من كل تراب المغربي ومن كل دول شمال إفريقيا، لأنه لو كان هدف مولاي موحند هو تأسيس جمهورية الريف وفقط لما فتح جبهة ثانية للقتال مع فرنسا حينما حرر الريف، فالرجل كان يعي جيدا أنه حتى وإن طرد الاسبان من الريف ممكن أن يعودوا الاستعمار من جهة أخرى، لأن معاهدة الحماية التي وقعت بين فرنسا والمخزن تستدعي من فرنسا وحلفائها القضاء على كل التمردات القبلية وإخضاعها للسلطة المخزن، وبالتالي مولاي موحند لم يكن يغفل هذا عندما قال "حتى وإن طردنا المستعمر من الباب سيدخلنا من النافذة" إذن لا يجب أن نقزم شخصية الأمير فيما هو ضيق ومع ما لا ينسجم ومواقفه الواضحة. وتذهب بعض الكتابات المشبوهة كذلك إلى القول أن مولاي موحند كان "شوفيني" و"انفصالي" وهذه الأقاويل الجاهزة لا أساس لها من الصحة ولا علاقة لها بمواقف الأمير ومبادئه لا من قريب ولا من بعيد ومن يذهب إلى ذلك هدفه تشويه صورة هذا البطل الذي تحتدا به كل الحركات التحررية في العالم ومن أجل تشتيت مشروعه الفكري التحرري، فالإنسان في حجم الأمير الخطابي لا يمكن أن يكون "انفصاليا" ولا "شوفينيا" متعصبا للقبيلة أو الدين أو العرق أو اللغة والذي تخطى فكره حدود القبيلة والوطن ليعانق هموم وقضايا الإنسان في كل مكان، حتى ولو أخذنا قول أن مولاي موحند كان "انفصالي" فعن ما كان سينفصل في تلك الفترة التي قاوم فيه المستعمر وبنا فيها جمهورية الريف؟ هل عن السياسة الفرنسية التي كان يقودها مقيمها العام "اليوطي"؟ فإذا كان الأمر كذلك فالأمير بالفعل كان انفصاليا لأنه لم يقبل ولن يرضخ للسياسة الاستعمارية في المغرب وعمل على تصدي لها وطردها، أما القول بأن الأمير كان يريد "الانفصال" من خلال جمهوريته عن المركز أي عن "السلطان" فهذه مجرد أكاذيب لأن مولاي موحند لم يعترف بصلاحيات السلطان في تلك الفترة أصلا، إذ كيف له أن يتعرف بسلطان قابعا في القصر كدمية بين أيادي الاستعمار الفرنسي يمضي على وثائقه ويستجيب ويلبي لمطالبه وسياسته؟ فالسلطان هنا لم يكن يتوفر على أي سلطة ولم يكن يحكم حتى نقول أن مولاي موحند كان ينازع السلطان في حكمه أو يريد أن "ينفصل" عنه بل كانت فرنسا الاستعمارية هي التي تحكم في المغرب والخطابي كانت مواقفه واضحة من الاستعمار، إذن هذا الادعاء لا أساس له من الصحة ومن يذهب عكس ذلك فهو يريد تشويه الرجل الوطني الحقيقي الذي قدم أزيد من عمر حياته وهو يدافع عن الوطن ميدانيا وسياسيا، لأن مولاي موحند لم يكن مخزني في فكره ولم يرتدي "طربوش المخزن" بل كان بطل تحريري يدافع عن وطنه لا متعاون مع من يغتصب الوطن وأكثر من ذلك فالمخزن وبيادقه هم من حطموا مشروعه الفكري والسياسي الذي كان يدافع عنه بالتعاون مع القوى الاستعمارية، وكل ما كان يجري في المغرب آنذاك كان بمباركة المخزن وبموافقة منه لأن هذا الأخير هو الذي بصم بالعشرة على "معاهدة الحماية" وكل ما حدث في الفترة الاستعمارية في المغرب يتحمل فيها المخزن المسؤولية الكبرى، إذن لا مجال للاقتران فكر الأمير ومشروعه بمشروع المخزن، ومن يذهب عكس ذلك فهو يريد مصادرة فكره، وبالتالي نقول بأن المخزن شيء والمشروع الخطابي شيء آخر، لا نستطيع أبدا أن نجمع بين هذا وذاك، فالأول كان انبطاحي تبعي والثاني تحرري وطني. نفس المنطلقات الضيقة يذهب إليها "الاسلامويين" في قراءتهم لمحمد بن عبد الكريم الخطابي في حربه ضد الاستعمار بقولهم أن مولاي موحند حارب "الغزاة الصليبيين" و"جاهد في سبيل الدفاع عن راية الإسلام" وبهذا يردون أن يجعلوا منه مجرد "مجاهدا وهب نفسه للجهاد ضد الكفار الصليبيين" فهذا الكلام لا أساس له من الصحة ولا علاقة له بموافق الخطابي كما سنبين، فلا ينكر أحدا أن مولاي موحند كان مسلما، لكنه لم يكن إسلامويا (أي حامل لمشروع ديني سياسي يسعى إلى تطبيقه) وأن حربه مع الاستعمار لم تكن "حرب دينية" ولا "حربا صليبية" حيث يذكر الباحث العربي المساري أن مولاي إعترف بهذا بقوله "إن حربنا وطنية ولا دينية، وهم يقولون إن مرادنا هو أن نطرد من المغرب جميع الإفرنج، وهذا كذب، نحن نريد الريف ولا نريد غير الريف... أنا ممن يرون إطلاق الحرية الدينية للمسيحيين في بلادنا.. الأديان كلها صالحة، ديانتكم صالحة لكم وديانتا صالحة لنا، ويكفي للاتفاق على هذه النقطة وغيرها صدق النية وحسن الإرادة من الجانبين" (كتاب محمد بن عبد الكريم الخطابي من القبيلة إلى الدول، الطبعة الأولى. ص:158) كما أن مواقف الخطابي كانت ضد استغلال الشعور الديني وقال "أن الإسلام الذي يقدم في المغرب والجزائر لا علاقة له بالإسلام الحقيقي" ويشير بكلامه هذا إلى "الزوايا الدينية" التي تحالفت في الأخير مع المستعمر ضده وساهمت في تحطيم مشروعه، لهذا يعترف ويقول أن "التعصب الديني هو من بين أبرز أسباب هزيمتي" (كتاب عبد الكريم ملحمة الذهب والدم. ص: 158 للباحثة زكية داوود) إضافة إلى دفاعه عن التعايش الديني والعرقي وعن الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة لكل الأفراد بغض النظر عن دينهم وعرقهم ولغتهم، وكذا موقفه الحداثي من المرأة وذلك "بتشجيعها على القتال وفي محاربة المستعمر إلى جانب الرجل" (المساري نفس المرجع ص:160) وقال أن "الدول الإسلامية لن تستطيع أن تستقل إن لم تتحرر من التعصب الديني" إذن قول حرب الخطابي "حربا دينية" كما يعتقد الإسلامويين في المغرب ومن بينهم "جماعة العدل والإحسان" لا أساس له من الصحة، لأن مولاي موحند لم يكن يؤمن "بإسلام الكسكس" ولا "بإسلام الإرهاب" كما ذكره الظواهري زعيم تنظيم القاعدة في شريطه الأخير، بل كان مسلما يعترف بحرية التدين وينظر إلى الأديان ومعتنقيها بالتساوي فالرجل آمن بالإسلام الذي يضمن للإنسان كرامته وحقوقه وحريته لا إسلام القتل والتكفير والترهيب في الناس، وأكثر من ذلك فعبد الكريم أعلنها في أكثر من موقف أنه متأثر بالسياسة الزعيم "مصطفي كمال أتاتورك" والكل يعرف من يكون هذا الأخير وكيف كان يفهم الإسلام ومواقفه تجاه استغلال الشعور الديني وكيف قاد تركيا لتصبح اليوم من الدول الكبرى وذلك بفضل سياسته العلمانية، وبالتالي لا "لخوجنة" أو "لأسلمة" أو "لأرهبة" فكر الأمير أو تصدير مواقفه وتحوير فكره التحرري وحصره في أيديولوجيات فئوية ودينية ضيقة، فهذا لا ينسجم لا من قريب ولا من بعيد ومواقف الأمير وفكره التنويري العقلاني الحداثي. ونفس النهج الذي تخطوه بعض الكتابات "اليسارية" في المغرب بقولها أن الخطابي كان "يساريا" أو كان "اشتراكيا" بدليل أنه كان متشبع بالفكر الحداثي التنويري وسعى إلى تطبيق العدالة الاجتماعية وبتوزيعه الأرض على الريفيين وخيراتها من الثروات وأنه كان ضد التحالف الإمبريالي وغيرها من القراءات الضيقة، وهذا لا أساس له من الصحة كذلك لأنها فراءات غير مقنعة بتاتا، فأن تكون تنويريا وحداثيا لا يعني أنك يساريا كما أن الفكر ألأنواري والحداثي ليس من مبدعي المعسكر الشيوعي ولا من الكتابات الماركسية بل الفكر المتنور أو ما يعرف بالأنوار برز في الغرب وليس في الشرق والحداثة كذلك فكر غربي وليست بضاعة شرقية، كما أن مولاي موحند لم تكون تجمعه مع الكتابات اليسارية شيء، كما أن العدالة الاجتماعية ليس مفهوما ماركسيا ولا ممارسة اشتراكية ولا شيوعية بل هو مفهوم برز وتطور في الغرب، أما القول مولاي موحند اشتراكيا لأنه قام بتوزيع الخيرات والأرض على الريفيين أثناء انتهاء الحرب الريفية فهذا هو الشيء الغريب، لأن الدولة الاشتراكية لا تقوم على الملكيات الخاصة ولا تعترف بها بل هي تقوم بنزع الملكية الخاصة من الفرد لترجها إلى الملكية العامة التابعة للدولة الاشتراكية وكل يصبح عاملا لديها، إن توزيع الأراضي من مولاي موحند يجب أن ينظر فيها من خلال ثقافة المجتمع الريفي خاصة والأمازيغي عامة وما تشكل الأرض بالنسبة للفرد من داخل هذه الثقافة، فمولاي موحند وزع الأرض على الذين لا يمتلكون أرضا من الريفيين حتى يحسوا أنهم ينتمون إلى الريف وحتى لا ينظر إليهم على أنهم مجرد أجراء أو ما يعرف في ثقافة الريفيين ب "إخماسن" (التي تعني الآجر في اللغة العربية) كما أن هؤلاء الذين منح لهم الأرض دافعوا وحاربوا عنها المستعمر وماتوا أقرباءهم في هذه الحرب دفاعا عن أرض الريف، وبالتالي أعطيه لهم الأرض حتى يحسوا بالانتماء إلى الريف وحتى يستقروا فيه ويشتغلوا في الأرض من أجل تلبية حاجاتهم اليومية، كما أن مولاي موحند ناهض القوى الامبريالية باعتبارها غازية للريف وللوطن ومقاومته لها كانت دفاعا عن الوطن لا دفاعا عن إيديولوجية نقيضة لها، وبالتالي هذه القراءات الإيديولوجية الضيقة لا تليق بقراءة تاريخ مقاومة الريفية قراءة علمية وموضوعية لأنها دائما ما تقزم مواقف الأمير فيما هو سياسي ضيق من أجل تقريب وتصدير مواقفه وفكره إليها، وهذا يعتبر تحايلا وتكالبا على شخصية الرجل وتاريخه ومشروعة الفكري التحرري ومواقفه السياسية ومبادئه الإنسانية العالمية. وعلى سبيل الختم، نقول أن الحديث عن شخصية تاريخية عالمية مثل الأمير لا يمكن أن ننصفها من خلال حصرها فيما هو سياسي إيديولوجي ضيق لأن هذا لا ينسجم مع فكره الذي تخطى حدود القبيلة والوطن ليعانق هموم وقضايا الإنسان في كل مكان في العالم، فالإنسان في حجم مولاي موحند لا يمكن أن يكون أبدا "انفصاليا" ولا "شوفينيا" ولا "إرهابيا" متعصبا للقبيلة أو للدين وللعرق وللغة، لذلك فمهما حاولنا أن نقول في حق هذا الرجل سيبقى قليلا جدا مقارنة بما يجب أن يقال في حقه، لأنه في البداية مفكرا تنويرا قام بثورة ثقافية في المجتمع الريفي قبل أن يقوم بثورة مسلحة والذي مارس الفكر قبل أن يمارس السياسة ثم بكونه رجل جمهورية ودولة وليس بفقيه أو بمجاهد ناهض للغزاة الصليبيين كما تحاول أن تصفه بعض الكتابات التقليدية والذي سعى إلى تأسيس مشروع سياسي ديمقراطي حداثي وإقرار دولة تعترف بالحرية والعدالة والكرامة للشعب المغربي.