السياق العام انشغل ولا يزال العديد من المفكرين والدارسين ومعهم الممارسون للشأن السياسي، على مر العصور، بالبحث والتحليل والدرس حول ثنائية «السياسة والأخلاق»، محاولين فهم وتفسير «الظاهرة السياسية» في مختلف أبعادها النظرية، والمؤسسية والعملية من جهة، ومجتهدين في تفكيك السياقات التاريخية والشروط السوسيوثقافية والسيكولوجية المتحكمة في فكر وممارسات الفاعلين السياسيين أنفسهم، وذلك سعيا منهم لرصد حدود التداخل والتباعد بين الحقلين السياسي والأخلاقي أولا، ولتقديم المسوغات النظرية القائلة بالتكامل والاتصال بين هذين المجالين، أو تلك المبررة لفرضية التنافر والانفصال بينهما ثانيا. (...) بداية سنتناول «ثنائية السياسة والأخلاق» وفقا لمنهجية الاستقراء الثلاثية الأبعاد، حيث سنقوم بجولة تفقدية لمحاورة ثلة من الفلاسفة والمفكرين والدارسين لهذه الموضوعة، المؤسسين منهم، ثم المجددين، فالمحدثين. كما سنلزم الفرضيات المعلنة بأدوات المناظرة بين مجمل الأطروحات الفلسفية والفقهية والقانونية المعروضة. ثم سنحاول استخراج الأسئلة الابستمولوجية والإشكالات النظرية البارزة في ثنايا هذه الأطروحات، لنعيد صياغتها استجلاء لنقط التلاقي والافتراق بينها، سواء القائلة منها بالتناقض بين المجالين السياسي والأخلاقي، أو تلك الدافعة في تجاه تلازم الحقلين. بعد ذلك، سندلي ببعض الأفكار للتأمل حول إشكالية يعتقد الكثيرون أنها محسومة بفعل التقادم، أونتيجة لهيمنة الفاعل السياسي على مجمل آليات وحقول إنتاج الخطاب والمفاهيم، في مقابل ضمور صناع الرأي والقيم من أهل الفكر والقلم. وكخلاصة للمقال، وتبعا لما ستسفر عنه هذه «الرحلة المغامرة» من نتائج واستنتاجات، سنقترح بعضا منها كفرضيات قابلة للزرع والإنبات، كإسهام نظري متواضع، وكدعوة مواطنة لكل من يهمهم الأمر للتداول والحوار بشأن ما يتعرض له مجتمعنا عموما، ومشهدنا السياسي تخصيصا، من تداعيات خسوف منظومة القيم المشكلة لوعينا الجمعي وشخصيتنا المغربية . مدخل لتفكيك الإشكالية لقد ساد الاعتقاد لدى فئات واسعة من المجتمع لكثرة ما تم الترويج له عن قصد أو عن جهل، بأن التعاطي مع الشأن السياسي عموما والاشتغال به من أي مستوى كان، يستوجب بالضرورة التخلي عن التقيد بالقيم الأخلاقية للمجتمع، وبالتالي فان الحصول على صفة المناضل السياسي، أو الفاعل السياسي، أو رجل السياسة (الفعل يخص المرأة والرجل طبعا)، يخوله اللجوء إلى أساليب يختص بها دون غيره من المواطنين، تجعله بحكم «ضرورات الاشتغال بالسياسة» في حل من كل الضوابط والقواعد والقيم المتوافق عليها داخل النسق القيمي والاجتماعي الذي ينتمي إليه. وانطلاقا من هذا المعطى الأولي، الشائع في أوساط الكثير من الناس، يصعب التمييز بين الفاعل السياسي وغيره ممن هم موضوع اشتغال للسياسة من جهة، وكذالك يستعصي إعطاء تعريف محدد ومضبوط حول المواصفات الواجب توفرها في شخص بعينه كي يوصف «بالسياسي» ، وأمام تعقيد وضبابية التمثلات والتعريف والأدوار المنوطة بممتهن أو متعاطي السياسة بمعناها العام أو بالمعنى الحزبي الفئوي داخل المجتمع، يصبح رجل السياسة، تبعا لذلك، في نظر عامة الناس كائنا متميزا وخارقا وغريبا عن سياق مجتمعه. وفي هذا الباب، ستجد الكثير من المتحدثين بكل ألوان الطيف «الحداثيين» منهم و»المحافظين»، و أصحاب «المنزلة بين المنزلتين»، يترافعون بإيمان راسخ وعقيدة لا تلين، بكون السياسة لا علاقة لها بالأخلاق لا من قريب ولا من بعيد، فهما مجالان منفصلان تماما عن بعضهما بالدليل والبرهان. وسوف تجد في الضفة الأخرى كذلك، فريقا من المعارضين لا يقلون عزما ولا عددا أو شكيمة، ينتصرون لتلازم الأخلاق بالسياسة، بل ويؤكد البعض منهم على أن السياسة قد «توازي الحكمة»، في شمولية معارفها، ونبل مقاصدها، لكونها أنيطت عبر التاريخ برجال ونساء شيمتهم حسن التدبير في السراء، أشداء البأس في الضراء، وأهل فكر وذوي رؤية وأصحاب قضية وفضيلة. كما ستجد فئة ثالثة تتوسط الطرفين، تقول بالوسطية والاعتدال، وتعتبر السياسة في كنهها أسلوبا راقيا ومنظما لتدبير شؤون الناس وفقا لقواعد وقوانين وأعراف مرعية من لدن أهل المدينة ( بمعنى الدولة ). من هنا تأتي ملحاحية تقديم تعريف لكلمتي «السياسة « و «الأخلاق» لوضعهما في سياقهما اللغوي الاصطلاحي من ناحية، ولكي نحدد ونؤطر المضامين الفلسفية والحمولة الدلالية لكليهما من ناحية أخرى. 1 - الأخلاق /»الإيتيقا» ética / Moral لغويا، كلا الكلمتين «الأخلاق» و»الإيتيقا»، تحيلان على نفس الحقل الدلالي عند استعمالهما في السياق العام، وهو الحقل الدال على مجموع قواعد السلوك الإنساني. واشتقاقيا، فإنهما «Moral وEtica»، تحيلان على التوالي إلى «Mores أو Ethos»، إلى مجمل سلوكيات الناس المقيدة بعادات وتقاليد وأعراف مجتمعهم. من ذلك تواضع المجتمع على اعتبار هذا السلوك، أو ذاك، أخلاقيا أو غير أخلاقي، إيتيقي أو العكس، بمعنى أنه مستحسن أو مستهجن، مقبول أو مرفوض، متوافق مع مجموع معايير السلوك المشتركة بين جماعة من الناس بغض النظر عن اختلافاتهم الثقافية المفترضة. 2 - السياسة: Política السياسة لغة: مصدر ساس يسوس سياسة، من ساس الفرس، إذا قام على أمرها من العَلَف والسقي والترويض والرعاية. واصطلاحا: تعرِّفها موسوعة العلوم السياسية الصادرة عن جامعة الكويت -نقلا عن معجم (روبير- Robert)- بأنها: فن إدارة المجتمعات الإنسانية. فهي الإجراءات والطرق المعتمدة لاتخاذ قرارات في شأن المجموعات والمجتمعات البشرية، ومع أن هذه الكلمة ترتبط بسياسات الدول وأمور الحكومات، فإن كلمة سياسة قد تستخدم أيضا للدلالة على تسيير أمور أي جماعة وقيادتها ومعرفة كيفية التوفيق بين التوجهات الإنسانية المختلفة، والتفاعلات بين أفراد المجتمع الواحد، بما فيها التجمعات الدينية والأكاديميات والمنظمات الحزبية والنقابية وغيرها . كما تعرف السياسة أيضا بكيفية توزيع القوة والنفوذ وفنون إدارة شؤون المدينة حسب الشروط التاريخية ونمط الإنتاج الاجتماعي ووفقا لنظام حكم معين. 3. الأخلاق والسياسة: Política et Etica بعد تحديد المعاني اللغوية والدلالات الاصطلاحية للكلمتين موضوع المقال، نخلص إلى الإمساك بأولى خيوط الإشكالية المعروضة للدرس والنظر، حيث يظهر أن الرابط الدلالي متين بينهما بالرغم من التباعد الاصطلاحي للثنائية المذكورة. وعليه، فإذا اعتبرنا بأن السياسة في كنهها تعني فن قيادة الجماعة البشرية، وأشكال تدبير شؤونها لما يعتقد أنه خيرها ومنفعتها، فالأخلاق هي مجمل القيم والمثل الموجهة للسلوك البشري نحو ما يعتقد أيضاً أنه خير للجماعة، وتجنب ما ينظر إليه على أنه شر من لدن نفس الجماعة. وهكذا فان كليهما (السياسة والأخلاق) يستهدفان تحقيق المنفعة العامة للمواطنين، وجعلهم يسعون لتدبير شؤونهم المشتركة وفقا لضوابط ومحددات ومرجعيات متوافق عليها، وبالتالي فإنهما يلتقيان في نقطة ارتكاز واضحة قوامها تحقيق المصالح الفردية والجماعية في العيش الكريم وبناء صرح متين للعلاقات الإنسانية تستجيب للمتطلبات المادية المشروعة للأفراد والمجموعات في إطار من التقيد بالأعراف والقيم والقوانين التي يعتبرها الجميع أخلاقيات الفعل والسلوك السياسي المحقق للمصالح العامة والخاصة على السواء. I ) التأصيل التاريخي للقول بثنائية الأخلاق والسياسة أ?- المنطلقات الفلسفية لدى المفكرين المؤسسين إن الغوص في التاريخ القديم والوسيط والمعاصر بحثا عن تلمس مجمل الأفكار والمقولات والأطروحات التي أسست، أو مهدت وبالتالي وضعت المنطلقات النظرية المؤطرة للحقلين السياسي والأخلاقي في تكاملهما أو تنافرهما، يقودنا بالضرورة نحو بدايات التشكل النظري للمفهومين السالفي الذكر. وهكذا، تنقشع أمامنا الإشراقات الأولى للفيلسوف اليوناني أفلاطون، الذي جمع في «مدينته الفاضلة» (كتاب الجمهورية) بين السياسية والأخلاق، معتبرا أن مثال الحكم السديد يرتسي على أربع فضائل ينبغي توفرها في الحاكم: أولها الحكمة بما تمثله من فهم وتمثل للفكر والمعارف والتأمل، وثانيها الشجاعة بما تقتضيه من طبائع الإقدام والجلد والعزيمة، وثالثها العفة، بما تمثله من ذكاء ونخوة ومروءة، ورابعها العدالة، وهي مواصفات الإنصاف وحسن التدبير وقوة الشكيمة عند تحمل المهام الكبيرة. هكذا تمثل كبير مفكري اليونان مواصفات «الكائن السياسي» المنوط به تدبير شؤون المدينة والقيام على أمور ساكنيها، ومن لا تتوفر فيه هذه الفضائل فليبتعد عن حكم الناس. وعلى هديه سار تلميذه النجيب أرسطو معتبرا أن السياسة بما هي فن وعلم وقواعد محددة لإدارة شؤون البلاد والعباد، إنما هي تصريف اجتماعي منظم لقواعد السلوك المقيد بالأخلاق. ومع ظهور الإسلام (مرحلة التأسيس) وعلى عهد الخلافة لاحقا، تشبعت الممارسات السياسة للدولة الإسلامية الصاعدة بحمولة معتبرة من القيم الدينية المستوحاة من القران والسنة النبوية، حيث عرفت الجزيرة العربية والأقطار المتاخمة لها أو تلك الواقعة ضمن مجال النفوذ الإسلامي، بروز مفاهيم ومقاربات واجتهادات فكرية تروم تقييد العمل السياسي للحكام والولاة بالضوابط الأخلاقية، وذلك من منطلق المزاوجة بين العقيدة والقول والعمل. ومن هنا تميز «فقه السياسة» إن صح القول (الآداب السلطانية) لدى مفكري الإسلام، بالنظر والاجتهاد الفلسفي الموصولين بمقاصد الشريعة، وبتفاسير الكتاب والسنة، وبمختلف التقاليد والأعراف السائدة آنذاك، وإن ظل التأثير اليوناني حاضرا من خلال العديد من المقولات والمفاهيم المؤسسة لهذه «الممارسة السياسية الخليقة». ونذكر من جملة أولائك المؤسسين، الفيلسوف الأخلاقي ابن مسكويه، حين يؤكد في كتابه «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق»، الذي يشكل عن حق، أحد أهم المؤلفات في فلسفة الأخلاق، بأن سياسة الحاكم (الوالي) وسلوكه ومبررات وأسلوب تدبيره للحكم ينبغي أن يكون «استمرارا لأوامر ونواهي» ولقيم الشريعة الإسلامية، وبالتالي فهو يضفي على السياسة لباس المشروعية من وحي الشريعة، فنجده يقول» (والقائم بحفظ هذه السنة وغيرها من وظائف الشرع حتى لا تزول عن أوضاعها هو الإمام، وصناعته هي صناعة المُلك، والأوائل لا يسمون بالملك إلا من حرس الدِّين وقام بحفظ مراتبه وأوامره ونواهيه. وأما من أعرض عن ذلك فيسمونه متغلبًا، ولا يؤهلونه لاسم الملك». وقال حكيم الفرس ومَلِكهم أزدشير: «إن الدِّين والمُلْك أخوان توأمان، لا يتم أحدهما إلا بالآخر، فالدِّين أسّ والمُلك حارس، وكل ما لا أسّ له فمهدوم، وكل ما لا حارس له فضائع» . وأضاف الإمام الحسن بن محمد الأصفهاني صاحب كتاب (الذريعة إلى مكارم الشريعة) وهو يتحدث عن السياسة بقوله : «والسياسة ضربان: أحدهما: سياسة الإنسان نفسه وبدنه وما يختص به. والثاني: سياسة غيره من ذويه وأهل بلده، ولا يصلح لسياسة غيره مَن لا يصلح لسياسة نفسه». ب- ثنائية الأخلاق والسياسة عند الفلاسفة المجددين بتنامي الفتوحات الإسلامية وتحول ثقل الإشعاع الثقافي والفلسفي من المشرق وبلاد الرافدين إلى شمال أفريقيا والأندلس، انطلقت حركة التجديد الحضاري والفكري في العديد من المستويات الفقهية، الفلسفية ، القانونية ، العلمية والأدبية وغيرها من فنون النحت والعمارة والموسيقى والصناعة...، وفي خضم هذه النقلة الحضارية البارزة في التاريخ الإسلامي، سطع نجم العالم الفقيه ابن خلدون، »مؤسس علم الاجتماع»، الذي اهتم بالتأمل والاشتغال بالسياسة العملية، فنجده قد جمع بين الفكر والاجتهاد والممارسة على أرض الواقع للشأن السياسي. لقد أبدع ابن خلدون أسلوبا مبتكرا للتحليل الواقعي للأحداث والمعطيات وسلوكيات الحاكمين في عصره، الشيء الذي مكنه من تجاوز المقاربات المثالية كجمهورية أفلاطون أو نظيرتها مدينة الفارابي. والأهم من ذلك، أنه اكتشف مسالك جديدة للبحث في القوانين الطبيعية التي تحكم تطور الأمم والدول والمجتمعات من خلال ما توصل إليه من خلاصات علمية مبتكرة في شرح «طبائع العمران»، وبذلك كان له السبق في وضع الأسس النظرية والمنهجية لعلم الاجتماع بمعناه الواسع. وللتذكير، فقد أفاد الشيخ رفاعة الطهطاوي في كتابه «تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز»، حين إقامته بفرنسا خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر بأن الغربيين يصفون ابن خلدون بمنتسكيو الشرق أو الإسلام، ويسمون منتسكيو ابن خلدون الغرب. الحديث عن تيمة «الأخلاق والسياسة» من منظور رائد علم الاجتماع السياسي الحديث، عبد الرحمن بن خلدون (808ه)، يتأسس على رؤية وقراءة متجددة للفكر الإسلامي بكل حمولته القيمية ومرتكزاته الفقهية مضاف إليها تشبعه بسالف المعارف الفلسفية والعلمية والأدبية التي أنتجها الإغريق والرومان وغيرها، ويتضح عمق نظرته ونفاذ رؤيته من خلال ما جاء به من قراءات وتحاليل لواقع المجتمع في عصره، في مؤلفه الموسوعي المعروف ب»مقدمة ابن خلدون»، وهو أثر الدِّين عند العرب في إقامة المُلك وتثبيته، بالرغم من كونه وسم طباع أهل السياسة ومريديهم في الحكم بالغلظة والتعصب والقهر، حيث يشير إلى هؤلاء الناس من أهل «الحل والعقد» ممن حكموا الأمصار العربية بالقوة والبأس بأنهم أقرب إلى التَّوحش منهم إلى العمران والحضارة، ومع هذا قرَّر: أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصفة دينية، من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدِّين، أو مكارم الأخلاق على الحكم والقيام على أمور الناس. وإذا عبرنا نحو الضفة الشمالية للمتوسط نحو أوربا، نجد ما يقابل «مقدمة ابن خلدون» في مجال التنظير الفلسفي لعلاقة «السياسة بالأخلاق» من منظور أكثر برغماتية عند المفكر الايطالي نيكولا ماكيافيلي، (1419-1527م)، حيث نجد هذا الأخير ينادي بالفصل بين السياسة و الأخلاق، وهو يدعو في كتابه الشهير «الأمير» (الحاكم) إلى استعمال كل الوسائل المتاحة، غير آبه بالمضامين الأخلاقية لسلوكه السياسي، بالقدر الذي يتوجب عليه الانكباب على تحقيق الأهداف المسطرة بما يضمن تثبيت حكمه ودوام سلطانه، طبقا لشعاره المأثور «الغاية تبرر الوسيلة «. وهكذا ، قدم ميكيافيلي مفهوما جديدا أحدث القطيعة مع كل التصورات التي عاصرته أو التي أسست لظهوره. والمستفاد من خلال هذه الإطلالة المقتضبة على مجمل التمثلات المرجعية حول العلاقات الملتبسة بين السياسة والأخلاق منذ القدم، لا نهدف من ورائه إلى تبيان فرضية بعينها، ولا التركيز على أيهما يوجه الآخر: السياسة تحدد السلوك والأخلاق أم بالعكس، بل ما يشغلنا بالأساس هو استشكال المسائل النظرية المتداولة على سبيل التبسيط والاستسهال، وكذا محاولة خلخلتها فلسفيا لكي نعيد طرح الأسئلة المنهجية والابستمولوجية المحتملة في هذا النطاق. أو ليس طرح السؤال يعد نصف الطريق إلى المعرفة؟ II) جدلية الأخلاق والسياسة عند المتنورين ودعاة الإصلاح أ- فلسفة ابن رشد وبدايات التنوير بضفتي المتوسط إن المتأمل لبدايات التنوير الفكري من الأندلس كنقطة ارتكاز لما ستعرفه باقي أمصار المتوسط بشمالها الأوربي وجنوبها العربي_الامازيغي والإفريقي، وخصوصا بالرجوع إلى بعض المقولات والمفاهيم التي جاءت بها النظريات التي تبناها «الرشدانيون» الفلاسفة، لاسيما تلك الاجتهادات الفكرية حول مواضيع لم تلق من قبلهم العناية اللائقة في التحليل والتدقيق، تتصل بقيمة العقل والمادة والخلق، أفضت في مجملها إلى بزوغ فجر متجدد بالاكتشافات ومحمل بالآمال في مجالات العلوم الحقة والطب والهندسة والآداب والفنون والفلسفة وفقه الرسالات السماوية، بالإضافة إلى وضع أصول وتطبيقات فنون الحرب والسياسة. ومع تنامي موجات التفكير المنطقي والتأويل العقلي للنصوص الدينية حينذاك، وما لقيه روادها المتنورون من قمع وتنكيل من الكنيسة بأوربا (دار الحرب)، ومن لدن بعض الجماعات الدينية المتطرفة بالأندلس وبعض الأمصار الإسلامية (دار السلم)، وقد وتوزع القمع والبطش والعدوان على أعلام الفلسفة «الرشدانية» ما بين القتل والنفي والاعتقال والتهميش والتكفير والاتهام بالزندقة. ويمكن القول بأن ابن رشد ومن تبعه من مناصرين لفكره العقلاني ساهموا بقوة في إحداث نقلة نوعية مست مختلف جوانب حياة المجتمع، و أحدثت رجة عميقة في الجانب السياسي، فقد كانوا «ثوارا بلا جيوش» يقودون التغيير من فوق، وقد أعطت ثورتهم الفكرية ثمارها في ما بعد القرون الوسطى بأفول الهيمنة الكنسية وتسلط رجال الدين والمتعصبين من ساحة العمل السياسي. وذلك راجع لكون الحياة السياسية القروسطية بأوروبا كانت تتسم بالصراع بين السلطة الدينية متمثلة في البابا، والإمبراطور أو الملك بما هو سلطة دنيوية. وقبل ظهور الرشدانية السياسية كانت التيوقراطية تشغل كل مساحات الساحة السياسية. وتأسيسا على ذالك، فقد اندلعت معارك شرسة بين الفلاسفة والمفكرين والكتاب والمتكلمين،حيث عرفت أوربا نقاشات سياسية ودينية فارقة انطلقت شرارتها الأولى من الفلسفة والمناظرات الفقهية بين أهل النقل (الملتزمين بالنص الديني) ورواد العقل (أنصار الاجتهاد)، حول مكمن المنطق والحقيقة والبينة، هل هو الوحي المقدس أو التأمل العقلي أو هما معاً. من هنا جاءت أطروحة ترجيح الأخذ بالعقل ثم النقل، وكذالك تكامل الفكر بالسلوك عند ابن رشد ، لتؤسس منظومة جديدة من المفاهيم والمقاربات في تناول الشؤون العامة والخاصة للناس في عصره، بالتالي فقد أعاد ترتيب الأولويات فيما يخص السياسة وعلاقتها بالقيم والمعتقدات. ب - تكامل الأخلاق والسياسة من منظور الماوردي ومعاصريه يعتبر أبو الحسن الماوردي (450 ه) أحد العلماء المسلمين البارزين، المشهود لهم بالرصانة الفكرية وعمق التأمل وموضوعية النقد وعقلانية التحليل، ولقد كتب الماوردي في الفقه والتفسير والأدب والسياسة والاقتصاد. وعلاقة بموضوع المقال، نجده في كتابه المعنون « درر السلوك في سياسية الملوك»، يدعو إلى ضرورة أن يتمثل السياسي خصال الصدق في مقاله، وأن يعطي المثال في سلوكه واشتغاله بالسلطة، وألا يفتري أو يكذب على الناس إلا على وجه التورية وضرورات حفظ وصيانة أسرار الدولة في خداع الحروب. ويقول في ذلك « فإن رخص لنفسه فيه على غير هذا الوجه، صار به موسوماً، لأن الإنسان بقدر ما يسبق إليه يعرف. وبما يظهر من أخلاقه يوصف، وبذلك جرت عادة الخلق : أنهم يُعدلون العادل بالغالب من أفعاله، وربما أساء، ويفسقون الفاسق بالغالب من أفعاله، وربما أحسن». ويستشهد الماوردي بما كتبه أبو بكر الصديق إلى عكرمة بن أبي جهل عامله بعُمان: «إياك أن توعد على قضيتين بأكثر من عقوبتهما، فإنك إن فعلت أثمت، وإن تركت كذبت. كما يحذر الماوردي الساسة وكل من يشتغلون في مجال رعاية وإدارة شؤون الناس، من تسخير مهاراتهم الخطابية لأغراض شخصية أو عصبية أو مذهبية، منتقداً لهم بقوله « يزوقون كلاماً مموهاً، ويزخرفون مذهباً مشوهاً، ويخلبون به قلوب الأغمار، ويعتضدون على نصرته بالسفلة الأشرار، فيصب الناس إليهم وينعطفوا عليهم، بخلابة كلامهم، وحسن ألطافهم...» ويستشهد بالحديث النبوي « إن أخوف ما أخاف على أمتي، منافق عليم اللسان». أما القاضي أبو عبد الله ابن الأزرق الأندلسي (832ه - 1427م)، فيؤكد في كتابه «بدائع السلك في طبائع الملك»، أن « تنزيه مقام السلطان عن إخلاف الوعد من أوجب ما يطالب به «، ويزيد التأكيد أيضاً إلى وجوب التزام السياسي بالصدق « لما في الكذب من المفاسد المخلة، لمصالح الدين والدنيا»، كما أن « خراب البلاد وفساد العباد مقرون بإبطال الوعد والوعيد «. ويروي عن ابن العربي قوله : « إن الإمام الكذاب شر الخلق عند الله تعالى؛ لأن الكذاب إنما يكذب حيلة لما يعجز عنه، وليس فوق الإمام يد، ولا دونه شيء مما يعتاد دركه، فإذا صادره بالكذب نزل عن الكرامة إلى الخسة وعن الطاعة إلى المعصية». ويرى أبو بكر المرادي أن السياسي الناجح هو ذلك الذي يتصف بالدهاء، فيسعى إلى تحقيق أهدافه بألطف الوجوه ويبدو « كأنه أبله، وهو متباله، يحصي دقائق الأمور، ويدبر لطيفات الحيل، فلا ينطق حتى يجد جواباً مسكتاً أو خطاباً معجزاً، ولا يفعل حتى يرى فرصة حاضرة، ومضرة غائبة، فعدوه مغتر بعداوته، ومقدر عليه الغفلة والبله بغوايته، وهو مثل النار الكامنة في الرماد، والصوارم المكنونة في الأغماد. وقد قال عمر رضي الله عنه « لن يقيم أمر الناس إلا امرؤ حصيف العقدة، بعيد الغور، لا يطّلع الناس منه على عورة، ولا يخاف في الله لومة لائم». بالرجوع إلى تلخيص ما سلف ذكره، نجد أن القول بتلازم السياسة والأخلاق أمر مطلوب ومؤكد في الممارسة والقول، لكن ذلك لايعني البتة، إدغام السياسة قولا في بوثقة السجايا، ولا إدماجها سلوكا في خانة العمل الدعوي أو التصوف. لذلك، فإن أعلام النهضة، يقترحون إحداث تكامل منطقي يؤلف بين العمل السياسي بما هو تدبير لشؤون ومصالح العموم، وما هو أسلوب ومنهج وسلوك يعكس المنفعة الخاصة ضمن الصالح العام، من خلال تمثل القائمين على حكم المجموعة البشرية، في أدائهم وعلاقاتهم بالمحكومين، مجمل القيم الخلقية التي تعتقد غالبية الناس أنها خيرة وفيها صلاح ومنفعة للجميع. كل ذلك لا يلغي، إمكانية إعمال العقل والذكاء والمهارة الخطابية وحس الدعابة وحسن الكلام، وأحيانا إعمال الدهاء والتحفظ في القول وعدم إفشاء ما قد يعوق خطط الحرب، أو يعيق تحقيق منفعة عامة. ومن مسوغات الدهاء المطلوب في العمل السياسي ? في نظر ابن الأزرق الأندلسي- التغافل، فالسياسي الحاذق هو الذي يهتدي بقوله تعالى: (عرّف بعضه وأعرض عن بعض) ويأخذ بقول العرب: « الشرف التغافل» و»ما استقصى كريم حقه قط». كما أن الحس السياسي النبيل يقتضي» ترك البحث عن باطن الغيوب، والإمساك عن ذكر العيوب.. والصفح عن التوبيخ، وإكرام الكريم، والبشر في اللقاء، ورد التحية، والتغافل عن خطأ الجاهل...فمن تشدد نفر، ومن تراخى تألف». III) ثنائية الأخلاق والسياسة في عصر التنوير أ- انبثاق البرجوازية الليبرالية إن بزوغ »فلسفة الأنوار« قد اقترن بانبثاق البرجوازية الليبرالية كحركة مجددة للمفاهيم والقيم التحررية وكقوة اجتماعية جديدة عكست في ديناميتها الثقافية والعقدية تطلعات ومصالح اقتصادية وتمثلات سياسية غير مسبوقة في مجال الحريات والحقوق المدنية والسياسية والمساواة بين المرأة والرجل كمرتكزات فلسفية لمجتمع تنتظم فيه العلاقة بين الحاكم والمحكوم عبر مؤسسات خاضعة لمنظومة القانون. هكذا تمكنت صفوة من المثقفين والفلاسفة والمبدعين وبعض السياسيين مدعومين بفئات عريضة من المواطنين في معظم بلدان أوربا الغربية من تقويض الأسس الفكرية والاقتصادية للفيودالية والإقطاع اللذين عمرا بأوربا لقرون. لقد لعب الفلاسفة والأدباء والفنانون وجمهور المتعلمين دورا محوريا في إحداث التغيير الاجتماعي في كل مستوياته وبنياته الفوقية والتحتية، وهي الشروط الموضوعية التي مهدت لقيام الثورة الفرنسية فأحدثت الرجة التاريخية الكبرى من قلب باريس، التي تجاوزت ارتداداتها الفكرية والقيمية الجارفة طموحاتها الذاتية، المحلية نحو الكونية. إن هذه الثورة الفرنسية المولد، بعنفوان العالمية، ما كان لها أن تتحقق دونما تحرير المؤسسات والعقول، من القيود والذهنيات القورسطية والتمثلات التي صمدت لقرون طويلة على شكل ثوابت راسخة، ومقدسة في أحيان كثيرة. بالمقابل، لا ينبغي تحجيم حقبة الأنوار في المسافة الزمنية الممتدة ما بين 1670 وقيام الثورة الفرنسية في 1789، واعتبارها مجرد حركة فكرية واجتماعية واقتصادية، أو محض غطاء إيديولوجي لفئة أو نخبة أو فصيل سياسي بعينه. إنها حركة فكرية وسياسية وعلمية وعقدية وقيمية للإنسانية جمعاء. ولابد كذلك من الاعتراف ببعدها الابستمولوجي، ذلك المحفز الوجداني والعقلي، الذي شكل الوقود وقوة التغيير الهائلة التي أنجزت وثبتت الثورة الفرنسية ومنحتها الإشعاع والجاذبية على امتداد القارات. لقد أثرت الثورة الفرنسية التجربة الأوربية والإنسانية بما أثمرته من انجازات واكتشافات وتطورات في مجالات العلوم الإنسانية والطب والرياضيات وعلوم الأحياء بشكل لا يقاس. الأهم من ذلك أنها أحدثت قطيعة ابستمولوجية في الفكر الأوربي بين »القديم« و»الحديث« على صعيد منظومة القيم والممارسات السياسية والبناء المؤسسي للدولة و الحياة الثقافية والمعرفية. باختصار، تمكنت الثورة الفرنسية وروادها البارزون في الفكر والفلسفة والفنون والعلوم والآداب من إحلال العقل محل النقل، والاستفهام محل الإيمان، والحرية والتسامح محل العبودية والتعصب، كما أبرزت »فلسفة الأنوار« قيم المساواة والاحتكام إلى القانون والمؤسسات ، وقوضت مزاعم الكنائس وحراس المعابد والطابو والمحرم والوضعي المقدس، لتعبر بالفرد والمجتمع إلى عوالم أرحب للفكر والإبداع والحرية والكونية والحقيقة. ب - العقل الأخلاقي في مقابل البرغماتية السياسية لقد ظلت معادلتا الجمع أو الطرح بين الأخلاق والسياسة تؤرق وتسائل المفكرين والدارسين والممارسين للشأن السياسي على مر العصور، وبالرغم من تمترس البعض خلف جدار حصين من الممانعة في رفض أي تلازم بين المجالين السياسي والأخلاقي، إلا أن غالبية المفكرين والدارسين من المؤسسين، مرورا بالمجددين ثم المحدثين، قد أكدوا على تكامل وتناغم الفعل السياسي مع قواعد السلوك العام للمجتمع. وإذا كان الفريق الأول يعتقد أن غاية السياسة تكمن بالأساس في تدبير السلطة وبناء صرح الدولة والسهر على فرض النظام والأمن في المجتمع، فمن البديهي أن يتحلل الفاعل السياسي من كل القيود الأخلاقية، بالتالي يسمح له باستخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة من اجل صيانة الدولة. ويذهب ميكافيلي الى حد القول أن الغاية السياسية تمر عبر تجاوز المبادئ والقيم، فالأخلاق تشكل عائقا أمام تطور الدولة بل وتضعفها وتقوض أركان هيبتها وسلطانها. ونظرة ميكافيلي هذه نابعة من اعتباره الإنسان شريرا في نظره، ولا يمكن الحد من أنانيته وطبيعته الشريرة إلا عبر إخضاعه بالقوة القهرية للسلطة السياسية وبقوة القانون كذلك وشعاره في ذلك «الغاية تبرر الوسيلة». بالمقابل يرى أنصار التكامل بين السياسة والأخلاق أن النظرة التي تدين طبيعة الإنسان وتصفه بالشرير لا تعبر عن طبيعة الإنسان تعبيرا صادقا، وبذلك فان النظرية القائمة على هذه النظرة التحقيرية للإنسان تتعارض تماما مع غاية المجتمع الذي يريد الفاعل السياسي، بمواصفات ميكافيلية، التبشير به وتحقيق أمنه وتلبية حاجاته و بالتالي ضمان ولائه لدولته وسلطانه، ويتساءلون كيف يمكن تحقيق هذا الخير العام في مجتمع يسوده المكر والقهر والمكيدة، وتغيب فيه الثقة والاحترام بين الحكام والمحكومين وفي انعدام الإحساس بالعدل والحرية والكرامة. من جهته، يرى عمانويل كانط أن غاية السياسة هي الحفاظ على الإنسان، لأنه كائن أخلاقي جدير بالتكريم والاحترام، لذلك ينبغي أن تبنى الممارسة السياسية على أسس أخلاقية حتى تحظى باحترام واحتكام الناس إلى ممارسيها والموكول لهم رعاية وخدمة مصالح المجتمع بكل مكوناته وفئاته. وإذا كانت الحرية ضرورة أخلاقية، فان السياسة أيضا مجموعة شروط ومعايير وأهداف أخلاقية تروم صيانة الحقوق وفرض الواجبات وتحمي كرامة وحرية الأفراد والمجموعات. أما برتراند راسل فينبه إلى أن الحوادث التاريخية في نظره نتاج لسياسات معينة، وحتى يكون المستقبل أكثر أمنا واستقرارا على السياسة أن تقوم على المبادئ الأخلاقية المبنية على العدل والكرامة والمساواة والحرية والاحتكام إلى القانون في كل مجالات الحياة العامة. من هنا نبه راسل الممارسين للسياسة والقائمين عليها سواء كانوا أفرادا، أو أحزابا أو تجمعات إلى ضرورة أن يدركوا بأن مصير البشرية مرتبط بالسياسة وبالأخلاق. خاتمة: بناء على كل ما تقدم ، يتضح من خلال مجمل المحطات التاريخية التي مرت منها البشرية، بدءا باكتشاف ضرورة العيش كمجموعة، والاهتداء إلى بناء الدولة مرورا بالعشيرة والقبيلة، أن الصراع بين الفكر السياسي والفكر الأخلاقي يتمثل في الصراع بين الوسيلة والغاية. إن إرساء الاستقرار الاجتماعي المتمثل في قيام الدولة بمؤسساتها وهياكلها المستمدة لشرعيتها ومشروعيتها من الإرادة العامة للمواطنين، والمنتظمة أركانها ووظائفها والمهام الموكولة لها، يعد مكسبا هاما لأي مجتمع يعيش حياة سياسية سوية ومعبرة عن تطلعاته وحاجياته. كما أن تحضره ونماءه يقاس بنضج وكفاءة نخبه السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية باعتبارها مجتمعة مصادر السلطة الحقيقية الساهرة على تحقيق العدالة والأمن والطمأنينة داخل المجتمع. وبناء عليه، نستخلص بأن الدولة نفسها تصبح مجرد وسيلة لهذه المعاني الأخلاقية. هكذا، نستخلص أن تقييد السياسة بالأخلاق لدى غالبية الفلاسفة المؤسسين، والمجددين ودعاة النهضة والإصلاح، يدخل في باب العمل بالمقاصد ووفقا لقواعد السلوك المتوافق على نفعه لدى مجموع الأمة. ولذلك، نجد تمايزا ملحوظا، ومنذ القدم، بين حجة القائلين بتقييد السياسة بالأخلاق، خصوصا ببلاد المشرق، وبين ضرورة تطويع قواعد الأخلاق العامة بالمرونة اللازمة لتصريف اللعبة السياسية بما يحقق الغايات المرسومة لها، عند نظرائهم في بلاد الغرب. وعليه، يجب ألا يعتبر التشديد هنا على أهمية المعايير الأخلاقية والإنسانية في العمل السياسي ضرباً من السذاجة أو تغريداً خارج السرب، بل هو تأكيد وتحديد منهجي متكامل البناء والمعالم بين حقلين يبدوان في ظاهرهما متعارضين كليا، إلا أنهما يتآلفان كليا من منطلق سعيهما إلى تحقيق سعادة الناس. فهل السياسة الأخلاقية إذاً فن ممكن؟ أم أن حديث الأخلاق يبدو نشازاً في عالم يتحكم فيه حديث القوة والمصلحة فقط ؟ ومن هذا المنطلق تنجلي أمامنا بعض الاستنتاجات الأولية كمسالك محتملة للتأمل ومنها مثلا: * ما هي حدود التكامل والتعارض بين حقلي السياسة والأخلاق من الناحيتين النظرية والعملية؟ * هل يمكن الحديث عن فعل سياسي متخلق، وآخر خارج عن الأخلاق؟ * هل المقصود من ذلك أن الفاعل السياسي ينبغي له بالضرورة أن يعكس في قوله وسلوكه ما يفيد تمثله لقيم النزاهة الفكرية والصدق والوفاء والشجاعة وخدمة الناس بالقدر الذي يسعى لخدمة مصالحه الخاصة؟ * ما هي المؤثرات والمعايير الأخلاقية التي تحدد فهم وممارسة الفاعلين للسياسة، وما هي المنطلقات المتحكمة في اختياراتهم لأسلوب معين في التعامل مع الناس الغير ممتهني السياسة؟ * هل توجد آليات ومعايير متفق عليها كونيا يمكن من خلالها تحديد ما إذا كانت هذه الممارسة السياسية أو تلك أخلاقية أو العكس؟ * وما معنى أن تكون السياسة مقيدة بقواعد السلوك الأخلاقي المتعارف عليه عند مجموعة بشرية ما لكي تجلب المنفعة العامة، وبالأحرى كيف يكون للسياسة مضمون قيمي ونزعة لخدمة الصالح العام بالارتكاز على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة ؟!. كلها تساؤلات واستنتاجات ذات أهمية في تجاه محاولة استشكال الثنائية موضوع المقال، «لتأزيم القول المبني على المسلمات القطعية بشأنها»، في أفق اقتراح طرح يروم إحداث نوع من التوازن بين «السياسة والأخلاق» بما يفسح المجال لإعادة الانشغال بالشأن السياسي من جهة، والمساءلة العلمية وتسليط الضوء على الزوايا المعتمة في سلوك وممارسات الفاعل السياسي بما يزيح الغموض والضبابية المحيطة به من جهة أخرى. (مقاطع من دراسة طويلة) إن المذكرات التى أملاها مبارك على المرحوم الإذاعي القدير محمد الشناوى، وحرر نسختها الأولى فى 1978، ثم عثر عليها وحققها وحرر نسختها الجديدة وكتب مقدمتها فى 2013 الكاتب السياسى عبدالله كمال، لا تذهب مباشرة إلى انتصار 6 أكتوبر، وحقيقة الضربة الجوية التى قادها مبارك؛ دون أن تمر على عملية إعادة البناء التى تمت خلال ست سنوات.. بدءاً من اللحظة التالية لهزيمة 5 يونيو. يقول مبارك فى مذكراته: »فى هذا اليوم، الأشد حزناً فى مراحل حياتى، وقعت أعظم هزائمى الوطنية والشخصية، فقدتُ سلاحي أمام عيني، وخسرت بلادي سلاحها الجوى ومُنيت بهزيمة عسكرية كبرى.. فى هذا اليوم أيضاً تحقق أهم مكاسبنا وواحد من أكبر انتصاراتنا على أنفسنا . يعود صاحب المذكرات إلى هذا اليوم، بينما يسجل مذكراته بعد تسع سنوات من حرب يونيو إلى ما حدث حقاً يوم الهزيمة: الوقت: الساعة السادسة من صباح الاثنين، الذي قُدّر له أن يحمل فيما بعد ولبضع سنوات، على امتداد الوطن العربى كله، صفة «يوم الاثنين الحزين». المكان: قاعدة بنى سويف الجوية. كانت حتى ذلك التاريخ، مقر لواء القاذفات الثقيلة المكونة من طائرات «ت ى 16». الجندي المصري تجاوز آثار النكسة بعد ليلة من النوم المتقطع، هاجمنى خلالها أرق غريب، لم أدرك سببه على وجه التحديد. لقد أرجعت هذا الأرق إلى إحساس بتوتر الموقف العسكرى بيننا وبين العدو، وما قد يؤدى إليه من تتابعات محتملة. كنت أشك أننا حسبنا بدقة ما سوف يُؤمّن قواتنا المسلحة عموماً، وقواتنا الجوية بالذات إذا ما وقعت مفاجأة مؤسفة. لقد تحول هذا الشك فيما بعد إلى يقين، أيّدته الأحداث والوقائع. كنت منذ عودتى من بعثتى الدراسية إلى الاتحاد السوفيتى، أتولى قيادة لواء قاذفات ثقيلة، وهو منصب كان يجرّ علىّ الكثير من المتاعب التى تخلقها »الشللية«، التى كانت منتشرة بشكل مرَضى على مستوى القيادة قبل 5 يونيو 1967. كان سلاحى الوحيد فى مواجهة هذا الوباء (الشللية) هو الانهماك فى العمل إلى الحد الذى لا يسمح لى أنا شخصياً بالوقت الكافى للتفكير فى تصرفات الشلل المحدقة بى، أو محاولة الرد على »المكائد« التى تُحاك ضدى، طمعاً فى الموقع القيادى الذى أتولاه. إيجابياً، كان هذا الانهماك فى العمل من جانبى يؤدى بالضرورة إلى تحقيق نتائج عسكرية، لا يستطيع أشد الطامعين أن ينكر أثرها على الارتفاع بمستوى القدرة القتالية للواء الذي أتولى قيادته. أذكر، بينما أستعيد شريط الأحداث التى عبرتها فى تلك الفترة المؤلمة، أننى أمضيت على سبيل المثال، ستة أشهر كاملة فى بدء تشكيل اللواء وإعداده، لا أغادر مقر قيادتى على الإطلاق، ولا أذهب إلى بيتى ولو لحظات عابرة.. وكنت أقضى ساعات النهار وجزءاً كبيراً من الليل فى عمل متواصل، لا أسمح خلاله لنفسى إلا بوقت محدود من النوم الخاطف، الذى يهيئ لى متابعة العمل من جديد. رغم هذا الجهد المتواصل, فإننى كنت أفاجأ مع بالغ أسفى بأن حالة الشلل التى تحاصرنى فى كل مكان أوجد فيه، كانت تنتهز أى فرصة يتصورون خلالها بأننى غفلت لحظة واحدة عن ألاعيبهم المعرقلة. فى مثل هذا المناخ المؤسف، كنت أتابع بقلق بالغ، أخبار التطور السريع فى الموقف العسكرى، وبجهد كبير كنت أسيطر على القلق الذى لو استسلمت له فإنه يؤدى بالمقاتل إلى أوخم العواقب، خصوصاً إذا كان يتولى موقعاً قيادياً له أهمية خاصة. وبمواصلة العمل، لا أعتقد أن أحداً قد فوجئ فى مقر قيادة اللواء، عندما رأونى أباشر مهمتى بمكتبى فى تلك الساعة المبكرة جداً من صباح الاثنين 5 يونيو عام 1967. ويتكلم مبارك عن طبيعة المهام التى كان يكلف بها نفسه فى هذا المناخ: كانت أمامى يومياً مهمة قد يعتبرها غيرى من الزملاء قادة الألوية الجوية، مهمة عادية، بل ودون مستوى اهتمام قائد اللواء شخصياً، وهى مصاحبة مجموعة من الطيارين فى طلعة تدريب عادية. فى منهجى كان الأمر مختلفاً تمام الاختلاف: إن القائد الذى لا يُعنَى بالتدريب المستمر، الذى يحفظ لرجاله مستوى دائم الارتفاع والتجديد من القدرة القتالية، ولا يُشرف بنفسه على هذه المسؤولية، ويتولى متابعتها شخصياً، قائد مقصر فى أداء واجبه.. أو هو لا يعرف حدوده ومسؤولياته القيادية. هكذا كنت فى غاية السعادة، وأنا أستقبل خمسة من طيارى القاعدة فى بنى سويف جاؤوا يعلنون رغبتهم فى الطيران، لأنه مضى عليهم وقت طويل لم يطيروا. استجبت على الفوز لرغبة المقاتلين الخمسة، ووعدتهم بالاشتراك معهم، وتحددت بالفعل الساعة 9:5 (التاسعة وخمس دقائق) من صباح الاثنين 5 يونيو موعد الطلعة التدريبية المرتقبة. كان كل شىء يبدو هادئاً وعادياً فى هذا اليوم. ولم يلُح فى الأفق العسكرى على الأقل ما ينذر أو يشير مجرد إشارة إلى احتمال وقوع الكارثة أو ما هو قريب منها.. ولم يرد للقاعدة من القيادة الجوية فى القاهرة، أى توجيه بمهام غير عادية، لهذا مضت الأمور فى مجراها الطبيعى بالنسبة لنا. أقلعت الطائرة الأولى فى الموعد المحدد تماماً ودون تأخير أو تقديم ثانية واحدة. كان بعض الزملاء يعتقدون أن تلك الدقة نوع من »الحذلقة أو الحنبلية«.. لم يكن الأمر كذلك. وهذه الدقة الزائدة فى احترام الجداول الزمنية للعمليات الجوية يعود إلى أن الحرب الحديثة، أثبتت، بتجاربها المتعددة، أن احترام الطيار المقاتل للجدول الزمنى المحدد لتفاصيل مهمته القتالية أمر لا فكاك منه، بل إن هذا الالتزام الحرفى هو الضمان الوحيد لنجاح المهمة التى عُهد للطيار بإتمامها.. وربما كان احترام الطيار المقاتل لهذا الجدول الزمنى، هو مفتاح النجاة، لا بالنسبة له وحده، بل بالنسبة لقواته الجوية بأسرها. لا أبالغ حين أقول إن تأخر الطيار دقيقة واحدة أو تقدمه عن الموعد المحدد له، قد يتسبب فى حدوث كارثة على المستوى الاستراتيجى للشعب الذى سلم للطيار أمانة الدفاع عن سمائه ضد العدو الجوى. فى الساعة 9:15 كنا نصعد بطائراتنا الخمس، فوق سحاب منخفض لم يتجاوز ارتفاعه ثلاثمائة متر.. بعد خمس دقائق اهتزت أجهزة اللاسلكى فى طائرتى، بخبر وقع علىّ كالصاعقة. تم إبلاغى بأن القاعدة الجوية التى أقلعت منها منذ لحظات قد هوجمت. فعلتها إسرائيل إذن. قاعدتى الجوية تُضرب وأنا معلق فى الجو، عاجز عن صنع أى شىء، وقاذفاتنا الثقيلة التى يعرف العدو جيداً قدرتها التدريبية الرهيبة، تُدمر الآن وهى جاثمة على الأرض لا حول لها. وأبشع من هذا.. تلك الصفوة من خيرة الرجال، الذين أجهدت نفسى، وأجهدوا أنفسهم معى فى تدريبهم تدريباً متواصلاً للارتفاع بمستوى قدراتهم القتالية، استعداداً للحظة اللقاء بالعدو.. وها هى اللحظة قد حلت.. ولكن فى غير وقتها المناسب، وفى الظروف التى اختارها العدو، ورتب لها.. تُرى ما مصير هؤلاء المقاتلين الشجعان، الذين فاجأتهم طائرات العدو، وهم على الأرض؟ كان هذا بعد وقوع أول ضربة جوية معادية بخمس وثلاثين دقيقة كاملة. تساءلت: كيف ولماذا أضاع مركز العمليات الرئيسى هذا الوقت الثمين، دون أن ينذر باقى المطارات التى لم تكن قد تعرضت للقصف، فى أولى موجات الضربة الإسرائيلية التى بدأت فى التاسعة إلا الربع؟ خمس وثلاثون دقيقة بالكمال والتمام، كانت كافية لإنقاذ جزء لا يستهان به من قواتنا الجوية، بل كانت كافية مع حسن القيادة وسلامة التخطيط والتوجيه لتغيير نتيجة الضربة الجوية القاصمة، وبالتالى تغيير سير المعارك كلها، سواء فى الجو أو على مسرح العمليات البرى. يأكلنى الغيظ والكمد، وأستغيث بجهاز اللاسلكى فى طائرتى، ولكن الجهاز لا ينطق. لا أحد يسمعنى. لا أحد يسعفنى حتى ولو بأطيب التمنيات. إن مركز العمليات صامت تماماً، وبرج المراقبة فى قاعدتى الجوية التى غادرتها مع رجالى الخمسة كان هو الوحيد الذى يرد علىّ محذراً من الهبوط بسبب تدمير الممرات معلناً عجزه عن إعطائى أية تعليمات بالاتجاه إلى مطار آخر يكون ما زال صالحاً للهبوط. مرت بنا لحظات من الصمت الكئيب، ونحن نطير بلا هدف.. إلى أين نذهب؟ وفى أى مطار يستقر بنا المطاف؟ لم نكن نعرف، ولم يكن أمامنا وقتها إلا أن نطير ونطير حتى يفرغ الوقود من طائراتنا فتقع كارثة أو معجزة.. وفجأة دبت الحياة فى جهاز اللاسلكى.. اتصال من مركز العمليات، وكان يطلب طلباً غريباً، بدا لى وقتها، وكأنه نوع من السخرية المرة، ونحن معلّقون فى الجو، بلا هدف نسعى إليه، وبلا مطار نثق فى بقاء ممراته سليمة وصالحة. كان مركز العمليات قد ظن أنه بدأ يستجمع شتات »قدرته« على السيطرة، أو لعله فقدها نهائياً، فإذا به يطلب منا تنفيذ الخطة »فهد«. كدت ألعن محدثى. أى »فهد« هذا الذى يطلبون منى تنفيذه بعد أن ضُربت قاعدتى الجوية، وطائراتها على الأرض، وأنا معلق فى الجو مع زملائى؟! ولم أجد فى هذا الطلب الهازل ما يستحق عناء التفكير فى مجرد الرد عليه حتى بالرفض. كان غضبى ساعتها هائلاً من هذه القيادة التى تذكرتْ فجأة، ولكن بعد فوات الأوان، أن هناك خطة اسمها »فهد« وأن هذه الخطة يُمكن تنفيذها، ويُمكن عن طريقها أن نلقّن العدو درساً قاسياً.. ولكن متى.. وكيف؟ لقد ضاع الوقت. مجدداً، سيطرت على الغضب، وبتفكير فورى، حسمت أمرى.. هؤلاء الرجال الخمسة يجب الحفاظ على سلامتهم، والاحتفاظ بطائراتهم إن أمكن. إن الضربة التى دمرت قاعدتنا الجوية فى بنى سويف تعنى كذلك أن المطارات المتقدمة فى القاهرة والدلتا وسيناء قد دُمرت تماماً.. ولكن لا مجال لليأس، فلنسرع بالصعود إلى مصر العليا. وأغلب الظن أن مطار الأقصر لا يزال سليماً، فليكن هو محطة الوصول التى نلجأ إليها مؤقتاً لكى نتزود بالوقود والذخيرة اللازمة، ثم نعاود الطيران، أملاً فى الإسهام بجهد فى المعركة بهذه الطائرات الخمس. أصدرت أمرى بالاتجاه إلى الأقصر، لأفاجأ بعد هبوطنا بتعذّر إمدادنا بالوقود لعدم وجود المعدات اللازمة للتموين واستحالة إمدادنا بالذخيرة اللازمة، لأنه لا توجد بالمطار ذخيرة. وضاع الوقت فى محاولة استخدام وسائل بدائية لتزويد الطائرات بالوقود، وفى الاستعانة بمركز العمليات للبحث عن وسيلة لإمدادنا بالذخيرة اللازمة لاشتراكنا فى المعركة، إن كانت لا تزال هناك فرصة للاشتراك فيها. وبينما نحن فى هذا الوضع المزرى أقبلت الطائرات الإسرائيلية، وبدأت عملية قصف المطار. كان هناك عدد من الطائرات المدنية التابعة لشركة مصر للطيران وبعض طائرات النقل الثقيلة التابعة للقوات الجوية.. وقد بدأت الطائرات المعادية بتدمير طائراتنا الخمس القاذفة الثقيلة لكى تُفرّغ من قدرتها التدميرية، ثم تحولوا إلى باقى الطائرات ومنشآت المطار لقصفها. إن الحرب عمل مرير، مختلفة فى واقعها عما يمكن أن يقرأه عنها إنسان فى كتاب، أو يشاهدها فى فيلم سينمائى. لقد عشت الحرب فى تلك الساعة الكئيبة من صباح 5 يونيو الحزين بطريقة سلبية بشعة على نفسى كطيار مقاتل.. رأيت بعينى طائراتى الخمس، وهى سلاحى فى الحرب، تُدمر أمامى على الأرض وأنا عاجز عن استعمالها، عاجز عن حمايتها من الدمار.. كانت لحظة رهيبة لا تُنسى. وأحسست ساعتها أن فؤادى يتمزق تماماً، مثل الطائرات الخمس التى تمزقت أشلاء على أرض المطار.. إن الحزن الذى شملنى أنا ورجالى الخمسة لا يقدر على وصفه أو الإحساس به سوى طيار مقاتل فقد سلاحه مثلنا، دون أن يتمكن من استعماله. فى صباح 5 يونيو تلقيت إشارة على اللاسلكى من مركز العمليات يأمرنى بتنفيذ الخطة »فهد« بإرادة البقاء وحدها تحول الحزن الذى اجتاحنى إلى غضب لا حدود له.. ثم إلى قسم على الأخذ بالثأر. كان احتراق طائراتنا أمام أعيننا إهانة لا يغفرها إلا الجبان، ولا يمحوها الثأر.. لا بد أن نسقى إسرائيل من نفس الكأس، ولا بد لنا مهما طال المدى، أن نجرد طياريها من سلاحهم قبل أن يتمكنوا من استعماله.. ولا بد أن تذوق على أيدينا مرارة تدمير طائراتها وهى جاثمة على الأرض فى ضربة جوية قاصمة، لا تعرف الرحمة ولا تسمح للخصم بالإفلات من مصيره المحتوم. بينما تؤلمنى هذه الذكرى، قد يكون مدهشاً أن أقول إن تلك الضربة المدمرة قد سببت لنا نحن الطيارين المصريين عكس ما اعتقدت إسرائيل. تصور العدو أن هذه الضربة القاصمة ستؤدى إلى حالة من اليأس يعجز المقاتل المصرى عن احتمالها، وتؤدى به فى النهاية إلى الإقلاع نهائياً، أو مرحلياً، ولفترة طويلة، عن التفكير فى خوض مواجهة جوية مع هذا الشبح المخيف الذى تطلقه إسرائيل فى الجو على هيئة شياطين لا يعرف أحد من أين تأتى، ولكنه يتعذب من وقع ضرباتها الملتهبة القاصمة. هذا الحلم الإسرائيلى الكبير تحول إلى وهم أكبر تبدد فى نفس اللحظة التى تمت فيها الضربة المفاجئة للطيران المصرى فى جميع المطارات المصرية التى تلقت الضربة الجوية، كان جميع الطيارين الذين شاهدوا بأعينهم طائراتهم تحترق أمامهم وهى جاثمة على الأرض يرددون نفس القسم الذى تعاهدتُ عليه مع رجالى الخمسة فى مطار الأقصر: الثأر.. ولا شىء غير الثأر يمحو الإهانة التى تلقاها نسور مصر الذين حُرموا من أجنحتهم فى ذلك اليوم. لم يكن الذى احترق يوم 5يونيو هو الجزء الأكبر من سلاحنا الجوى وحده، ولكن الذى احترق بالفعل، وكما أثبتت عمليات أكتوبر المجيدة، هو الأسلوب القديم فى قيادة الطيران المصرى، تخطيطاً وتنفيذاً على جميع المستويات التكتيكية والاستراتيجية. محمد أنور السادات لقد نسفت قنابل الطائرات الإسرائيلية، التى تساقطت فوق مطاراتنا يوم 5 يونيو »الشللية«، والأخطاء الكبيرة، والتستر على تلك الأخطاء.. كما أنها حرقت الجهل بفنون القتال الحديث لكى تفسح الطريق، دون قصد منها طبعاً، لجيل جديد من الرجال يملك العلم والقدرة المرتفعة على التخطيط والتنفيذ على أعلى مستوى قتالى معاصر، ويملك قبل كل شىء الرغبة فى الانتقام. ورب ضارة نافعة. وصدق الله عز وجل حين قال فى كتابة العزيز »وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم«. فى مذكراته »كلمة السر« يعود مبارك إلى الأسباب التى دعته إلى كتابة يوميات سلاح الجو بين عامى 1967 و1973.. ويفسر لماذا قرر ذلك فى عام 1978: أكتب هذه المذكرات انطلاقاً من شعورى بالمسؤولية تجاه المواطن المصرى، والقوات الجوية، والقوات المسلحة المصرية كلها، واستجابة لمسؤوليتى تجاه التاريخ والحقائق التى يجب أن يطلع عليها الجميع. وأشعر بفداحة تلك المسؤولية منذ نبتت فكرة هذا الكتاب الذى يحكى ملحمة الطيران المصرى كاملة، بدءاً من ضربة الخامس من يونيو عام 1967، حتى ضربة »صدام« التى استعاد بها الطيار المصرى سمعته كمقاتل جرىء ومقتدر، فى الثانية من بعد ظهر السادس من أكتوبر عام 1973. إن المرجع الأساسى لذلك الإحساس هو ذلك الرصيد الهائل من الإعلام الإسرائيلى، الذى امتزج فيه قدر محدود من الحقائق بقدر لا محدود من الأكاذيب والخيالات التى صيغت بذكاء شديد. وفى أغلب فصول مذكراته يبدو مبارك مهتماً للغاية بالتأثيرات النفسية والمعنوية لهزيمة 5 يونيو كما لو أن الضربة الجوية التى جهز لها فى يوم 6 أكتوبر كانت تستهدف تحقيق الانتصار المعنوى والنفسى قبل أن تحقق الانتصار العسكرى.. يقول: لقد نجح الإعلام الإسرائيلى فى تحويل ضربة إسرائيل للطيران المصرى صباح 5 يونيو 1967 من مجرد خطة عادية -إذا قيست بالمقاييس العسكرية المحايدة والموضوعية- فى إطار الظروف التى تمت خلالها الضربة على جانبى الصراع، إلى أسطورة خيالية تروى أمجاداً خرافية لواضع الخطة »مردخاى هود« وهيئة عملياته العسكرية. لقد عُرفت تلك الضربة فى الملفات السرية لوزارة الدفاع الإسرائيلية باسم »طوق الحمامة«، ويعود القدر الأكبر من النجاح الذى حققته إلى هذه الصدمة النفسية التى أصابت جماهير شعبنا المصرى، وأمتنا العربية كلها، وهى ترى »أكبر قوة جوية ضاربة فى الشرق الأوسط« -كما كانت القيادات العسكرية المصرية السابقة تُصرح دائماً- تتحطم وهى جاثمة على الأرض، فى ضربة سريعة لم تتجاوز منذ بدايتها فى الساعة 8:45 صباحاً إلى نهايتها نحو الساعة العاشرة، ساعتين فقط. عامل آخر ساعد على إشاعة الجو الأسطورى حول ضربة إسرائيل للطيران المصرى، وهو الأقاصيص والحكايات المبالغ فيها كثيراً، والتى رواها الجنود العائدون -على أقدامهم- عبر سيناء، تنفيذاً لقرار الانسحاب الذى أصدرته القيادة العسكرية للقوات البرية فى الوقت الذى فقدت فيه هذه القوات أى حماية جوية، فأصبحت خلال عمليات الانسحاب المتسرع غير المنظم مكشوفة تماماً للعدو الجوى، ومعرضة لطيرانه الذى أسكرته نشوة النصر المذهل -حتى بالنسبة لأكبر المتفائلين فى قيادة الطيران الإسرائيلى- فمضى الطيارون الإسرائيليون يعربدون فى سماء سيناء، ويعبثون بالقوات البرية المصرية العائدة، وهم فى مأمن من أى حساب أو عقاب رادع. ويُضاف إلى ذلك عامل أخير، لعله فى تقديرى أخطر هذه العوامل جميعاً، وهو تلك الأعداد الهائلة من أبناء مصر -سكان مدن القناة- الذين تحولوا مع تصاعد العمليات القتالية على جبهة السويس إلى مُهجّرين، موزعين فى معظم مدن مصر وقراها، وما حمله معهم هؤلاء الإخوة من قصص العدوان الإسرائيلى المتغطرس، والذى كان طيران إسرائيل يمثل رأس الحربة فى كل عملياته. إن رؤية المواطن المستقر فى داره وعمله، وسط أهله وأصحابه الذين عاش عمره بينهم، لأخ له فى الوطن، وقد أُرغم على ترك مسقط رأسه ومسرح حياته العملية والاجتماعية، ثم تحول رغماً عنه -وتحت وطأة عمليات عسكرية عدوانية- إلى مُهجّر يعيش فى معسكر أو مخيم، ويعيش على إعانة مهما تعاظم قدرها، فهى بالقياس إلى دخله الأصلى محدودة، ودون ما اعتاد أن ينفق على نفسه وذويه؛ هذه الصورة القاسية، حين يشاهدها المواطن المصرى -ويسمع بها أو يراها الإنسان العربى- بعد 5 يونيو 1967، كان لها فعل السحر الأسود فى نفسه، وربما بعثت إلى ذهنه ووجدانه على الفور، بصورة مماثلة طالما قرأ عنها أو سمع بها عام 1948، حين نجحت إسرائيل عشية إعلان قيامها كدولة، فى طرد الملايين من عرب فلسطين وأصحابها الشرعيين، وتحويلهم إلى لاجئين يعيشون فى المخيمات، على صدقات المجتمع الدولى. وقد تضافرت مع هذه العوامل فى تحقيق الهدف النهائى، الذى سعى الإعلام الإسرائيلى عقب 5 يونيو إلى تحقيقه فى نفسية الإنسان العربى، وهو التهويل لهذه العملية العسكرية التى لا تخرج فى التحليل العلمى عن منهج من الفكر العسكرى الألمانى والإنجليزى -مع بعض الإضافات اليسيرة التى تتفق مع طبيعة وتكوين العقلية العدوانية المسيطرة على قادة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية- وحصيلة كل هذا أن تحول الطيران الإسرائيلى إلى خرافة وتحول الطيار الإسرائيلى إلى شبح، تنسج مخابرات العدو حوله الأساطير، وتشيعها عبر أجهزة الإعلام العالمى. وإذا كنا -نحن العرب بوجه عام والمصريين بوجه خاص- نعيب على الإسرائيليين، عسكريين وساسة، تلك المستويات الرهيبة من الغرور والغطرسة التى لا تطاق، والتى استولت عليهم فكراً وسلوكاً، عقب انتصارهم المفاجئ والمذهل، الذى حققوه بأبخس الأثمان، فإننا لا نرضى لأنفسنا -نحن المصريين بالذات- أن يؤخذ علينا ما عبناه على خصمنا، فنستسلم لنشوة النصر الذى حققته قواتنا المسلحة -بجميع أفرعها- يوم 6 أكتوبر، بحيث قضت فى ست ساعات على أسطورة الجيش الإسرائيلى الذى لا يُقهر، فإذا به، بشهادة العدو قبل الصديق، وبعد ست ساعات فقط يترنح من هول الضربات التى كالها له المقاتل المصرى جواً وبراً وبحراً. ومع يقظتنا الكاملة لهذا المنزلق العاطفى الخطر، الذى يمكن أن يجرنا إليه الإحساس القوى بالنصر الساحق الذى زلزل كيان العسكرية الإسرائيلية.. فإننا -مع كل التواضع الذى تمليه الثقة الكاملة بالنفس، والإيمان الراسخ بالقدرة القتالية الهائلة للجندى المصرى- لا يسعنا إلا أن نشير إلى حقيقة مهمة، وهى أن إسرائيل تؤمن إيماناً راسخاً، بأن عدوها الأول، وخصمها الأخطر شأناً، والأثقل وزناً، هو مصر، وشعبها الأمين.. ذلك الشعب الذى ظل ثابتاً على أرضه كالطود الراسخ يحمى حضارته التى زرعها فى وادى النيل، وحماها ضد موجات الغزو الأجنبى، التى تكسرت على شاطئ صلابة المصريين طوال عصور التاريخ القديم والوسيط والحديث. فى مذكراته المهمة تلك يؤصل مبارك، نائب الرئيس الأسبق وقت كتابتها، للأسباب التى يعتقد أنها أدت إلى تعامل إسرائيل مع مصر باعتبارها الخصم الأخطر.. يقول: السبب الأول عسكرى بحت، تمثل فى تكثيف الضربة الموجهة إلى جيش مصر وطيرانها، بحيث أدى هذا التكثيف فى حجم الضربة والعناصر التى استُخدمت فيها -حيث ألقت إسرائيل بكل ثقلها العسكرى تقريباً جواً وبراً على الجبهة المصرية- إلى إحداث شلل مفاجئ فى القيادة المصرية. إن هذا أدى، مع عنصر المفاجأة، إلى ما أدى إليه من هزيمة ساحقة، وغير طبيعية فى نفس الوقت، خرجت بها مصر مهزومة من معركة لم تقم فى الواقع. وكانت النتيجة الحتمية، بعد أن خلا مسرح العمليات من الوجود المصرى الذى تحسب له إسرائيل ألف حساب، أن تفرغت العسكرية الإسرائيلية لباقى أطراف الصراع، على الجبهتين السورية والأردنية، وهى واثقة تماماً من تحقيق النصر، بعد أن فرغت من خصمها الألدّ، وعدوها الأخطر: مصر وجيشها. المنطق الثانى أخذ شكل الحرب النفسية المسعورة، التى شنّها الإعلام الإسرائيلى بلا هوادة أو رحمة، واستهدف بها تحطيم معنويات الإنسان المصرى -باعتباره الركيزة الأولى فى الصراع العربى- الإسرائيلى، فإذا نجح هذا الإعلام فى زعزعة هذا الإنسان المصرى، وخلخلة بنائه النفسى الصلب، فإنه يفقد ثقته بنفسه وثقته بقواته المسلحة، وبقدرة هذه القوات على شن هجوم مضاد، لتحرير أرضه المحتلة، وبالتالى ينهزم نفسياً حتى النخاع، بعد هزيمة عسكرية لا مجال للتشكيك فيها، ومن ثم سينطوى على نفسه، ثم تتجه حركته -إذا قُدر له أن يتحرك- فى اتجاهين مدمرين، أولهما: فقدان الثقة فى قيادته السياسية التى انتهت به إلى هزيمة ساحقة، وما يتبع فقدان الثقة من تمزق وانفجارات تؤدى فى النهاية إلى انهيار الجبهة الداخلية التى أذهلت كل الخبراء والمحللين العالميين بصلابتها الأسطورية عام 1967 وما تلاها من سنوات الصمود. إن الخطر الأكثر تدميراً هو موقف الإنسان المصرى فى قضية الصراع العربى- الإسرائيلى كان يكمن فى احتمال عاشت إسرائيل، ولعلها لا تزال تحلم به، بأن تؤدى الخسائر التى مُنى بها الشعب المصرى كنتيجة حتمية لضربة 5 يونيو، إلى وقوفه موقف المتشكك المرتاب فى القضية كلها، وأن ينتهى به هذا الموقف المتردد إلى رفض كامل فى النهاية، يعقبه انعزال مصر عن القضية برمتها. وتلك أعذب أمنيات الفكر الإسرائيلى؛ أن تنجح فى الوقيعة بين الإنسان المصرى وبين أمته العربية جمعاء، وقيعة تنتهى إلى انعزال مصر وخروجها من حلبة الصراع نهائياً، لكى يخلو الجو لإسرائيل، تعربد فيه كما تشاء، وتصنع بالمنطقة ما تريد، وتعيد رسم خريطة المشرق العربى على هواها. لعل هذا يفسر لنا ضراوة الإعلام الإسرائيلى فى هجومه المخطط المدروس بإحكام ودقة بالغين، على عقل الإنسان المصرى وعاطفته معاً، هجوماً استخدمت فيه كل وسائل الإعلام الحديث، وجندت له كل أساليب الحرب النفسية الحديثة.عشرات الكتب والمؤلفات التى تتحدث عن »حرب الأيام الستة« قدمت لها وزارات الدفاع والخارجية والإعلام الإسرائيلى كل الإمكانيات والتسهيلات الوثائقية والمادية، وعشرات الأفلام (التسجيلية والروائية) التى تم إنتاجها ببذخ خرافى، وبحرفية سينمائية بالغة الدقة والذكاء، تصور كلها بطولات جيش الدفاع الإسرائيلى، وتتغنى بأمجاد »طيران إسرائيل«؛ ذراعها الطويلة ذات المخالب الجهنمية القادرة على سحق أى هدف فى أعمق أعماق الوطن العربى، وخاصة فى ربوع خصمها اللدود الخطير؛ مصر. مئات -ولا نبالغ إذا قلنا آلاف- المقالات والأبحاث العلمية والندوات التى تنشرها أو تذيعها وتعرضها وسائل الإعلام يتغنى كتّابها ومذيعوها »المحايدون« -كما يسمون أنفسهم- بأمجاد العسكرية الإسرائيلية، من ناحية، ويسخرون بهزال العرب وضعفهم وتخلفهم من ناحية أخرى. أى «فهد» هذا الذى يطلبون منى تنفيذه بعد أن ضُربت قاعدتى وطائراتها وأنا معلق فى الجو؟ ثم.. أخيراً وليس آخراً؛ هذا السيل الرهيب من الأقاصيص المصنوعة -داخل مكاتب المخابرات الإسرائيلية- عن بطولات رهيبة، وقدرات أسطورية لجيش »الدفاع« الإسرائيلى وطيرانه الرهيب. ولعل هذا اللون الأخير من ألوان الحرب النفسية التى شنّها العدو ضدنا، عقب 5 يونيو، كان أخبث وسائلها على الإطلاق، لأنه كان يسعى إلى تحقيق هدفين واضحين منذ البداية: غرس الفزع فى نفس الإنسان المصرى -مدنياً كان أو عسكرياً- من هذه المقولة الخرافية »الذى لا يُهزم أبداً«، ثم قتل الثقة والاحترام اللذين يكنّهما المواطن المصرى لجيشه، عن طريق سيل متلاحق من النكت المرّة التى تسخر من المقاتل المصرى ومن قدرته على الصمود فى الميدان وعجزه عن مواجهة المقاتل الإسرائيلى، سواء تمت هذه المواجهة على الأرض أو فى السماء. من الحقائق المسلم بها -فى الفكر العسكرى قديمه وحديثه- أن العدو الذى ينجح، عن طريق الحرب النفسية، فى نشر الفزع فى صفوف المدنيين على الجهة المعادية، ثم تصعيد هذا الفزع إلى احتقار للجيش الوطنى والسخرية منه وعدم الثقة به؛ يضمن فى النهاية النصر الكامل والساحق لقواته عند أول مواجهة له مع الخصم الذى نجح فى تدمير معنويات شعبه. هذه الحقيقة التى جرت الآن مجرى البديهيات فى الفكر العسكرى، كانت نقطة البداية -كما سيتضح فى تلك المذكرات- عندما تحركت العسكرية المصرية بقيادتها الجديدة -بعد 5 يونيو مباشرة- لتحقيق الصمود النفسى أولاً للمقاتل والإنسان المصرى، قبل أى خطوة على الطريق الشاق الطويل الذى انتهى إلى معارك السادس من أكتوبر المجيدة. عن «الوطن»