لقد عرف المغرب بروز العديد من الوجوه النسائية التي عرفت بالشدة والشهرة والقوة والبطش، وقد كان لها من الصبغة الأسطورية أكثر من الواقع المعاش المفترض، وفي هذا الإطار جرنا البحث العميق للتراث المغربي الشمالي للحديث عن شخصية غمارية مشهورة، كانت من أخطر نساء هذه المنطقة وأشدهم تأثيرا في المجتمع الغماري في تلك الفترة، هذه الشخصية التي اكتسبت زخما كبيرا لارتباط اسمها بالمتنبي الشهير، الذي سمي بحاميم المتنبي، الذي سمي الجبل جبل حاميم على اسمه، والذي شغل المؤرخين بدعوته وتنبئه. حيث سنحاول الإجابة على عدة فرضيات تنطلق من مكانة المرأة الغمارية في المجتمع الغماري، ومرورا بالتأثير الذي عكسته المرأة الغمارية على الجوانب الحضارية والثقافية للمجتمع الغماري، مرورا بأهم ما تركته لنا المصادر التاريخية من قصص هؤلاء، وانتهاء بواجب المؤرخين اتجاه التعريف بالأدب الغماري الغائبة خصائصه، وجوانب كثيرة من لمحاته الموغلة في القدم. أولا: المرأة المغربية التاريخ المزهر: * خصوصية المرأة المغربية بالعموم والغمارية بالخصوص: لقدكان للمرأة المغربية دور مهم في المجتمع المغربي، سواء ارتبط الأمر بداخل المجتمع الراقي أو في إطار المجتمع البسيط، وقد عرف المجتمع المغربي قيام نماذج من هؤلاء اللذين أثروا بشكل كبير في مجريات السياسة العامة والخاصة للبد، ومن أبرز هؤلاء اللذين أنار نجمهم في سماء الوطن نذكر على سبيل المثال لا الحصر، السيدة فاطمة الفهرية بانية المسجد الأعظم بفاس، واخناثة بكار، زيجة المولى إسماعيل بمكناس، وأميرة الإمارة الراشدية بشمال المغرب السيدة الحرة، وغيرهم من النماذج الأفذاذ اللذين أثروا في الكثير من مجريات الأحداث العامة والخاصة، وأسهموا بشكل جلي في التأثير فيها، سواء من وراء ستار دهاليز الحريم، أو عن طريق الحكم المباشر. وقد كانت المرأة في الشمال المغربي أكثر تأثيرا وأكثر حرصا على تهييئ الأجيال والنهوض بكل ما يتعلق بمجتمعها، كما كان لها دور أساس في الحفاظ على بنية الأسرة الاجتماعية والاقتصادية وكذا التعليمية، ويشهد الكثير من علماء هذه المنطقة على هذا الدور المحوري من جهة، وعلى الأهمية الي يوليها الرجل الغماري لها من جهة أخرى. وقد برز دور المرأة الغمارية وتقوى دورها المحوري مع ظهور الدولة الراشدية، حيث حكمت السيدة الحرة منطقة الشمال في أغلبها، وبسطت سيطرتها على جميع بساط المنطقة ومرتفعاتها، وقادة الجهاد البري والبحري على المستعمر الإسباني والبرتغالي، وسطرت البطولات الخالدات، في الكثير من ساحات الحرب، وأيضا دونت الكثير من بطولاتها في مخطوطات المكتبات الغربية وغريمتها المشرقية، وتحدث عنها الكثير من الأقلام الحديثة، التي جعلت منها المرأة الحديدية التي لم تخضع للكثير من مؤامرات وتغرير الأعداء. * تأثير المرأة الغمارية على الجوانب الحضارية للقبيلة: لقد لعبت المرأة الغمارية دورا مهما في التأثير في الكثير من خصوصيات القبيلة ومفاصلها، التي غيرت الكثير من الخصوصيات المجتمعاتية والثقافية والاقتصادية للقبيلة، وتركت بصماتها على تاريخ القبيلة وخصوصياتها، بل وتجاوزت الأمر لتكون قائدة القبيلة، ونفسها الروحي، وقدوة رجالاتها ونسائها، وكانت ترياقا لمآسي أبنائها، ومحفزا للاستمرار في كثير من فترات انهيار أجزاء من حضارة كيانها. 1: على المستوى الثقافي: إن من أهم القضايا التي شغلت المؤرخين في قضية التأريخ لمنطقة الشمال ومجتمعها المنغلق في الكثير من خصوصياته، هو نزوع أهله إلى الشعودة والسحر، وهذا جلي من خلال المرويات التي جاءت على لسان هؤلاء، إلا أن الحقيقة تعكس أمورا متغيرة، حيث أن هذه القبيلة كانت تعرف حركة علمية متقدمة، في جبالها المنيعة. وظهور العديد من نساء المنطقة اللذين تمكنوا من العلوم ومن الكثير من أبجدياتها، لخير مثال على هذا الأمر، ونبوغ نساء المنطقة في الميادين العلمية والثقافية لأكبر دليلا على هذا الأمر، ورغم أن وصف نسوة المنطقة بامتهانهن لصناعة السمياء والكيمياء بغرض القدح والتقليل من الأهمية، إلا أنه كان برهانا جليا على نبوغ المرأة الغمارية وتفوقها الكبير في طلب العلم، وأيضا في تدريسه. 2: على المستوى الاقتصادي: لقد أسهمت المرأة الغمارية بشكل فعال في إثراء الاقتصاد الغماري، وتطوير إنتاجياته عبر التاريخ الإنساني، وذلك لاعتبارات عديدة ومختلفة، بداية من الدور الذي تلعبه داخل الأسرة، وانتهاء بالدور التسويقي للمنتج داخل المجتمع، ولهذا كانت المرأة الغمارية نقطة ارتكاز تتراكم عليها جل الوظائف، من اعتناء بالحقول والماشية، وانتهاء بتسويق المنتجات الطبيعية والحيوانية. 3: على المستوى السياسي: كما أن للمرأة الغمارية أدوار طلائعية في الكثير من جوانب الأسرة والمجتمع، فإن أدوارها امتدت لتصل إلى ميادين حساسة في المجتمع، من قبيل التحكم في السياسة الداخلية والخارجية، وأيضا التحكم في القضاء والتحكيم والأحكام، وكانت المرأة عبر مراحل مختلفة مضطلعة ومحيطة بخصوصيات كل هذه الأمور، وذلك بسبب العادات التي كانت تحبذ تعليم المرأة، وتحررها من الكثير من القيود التي كانت يفرضها العرف والتقاليد والدين، في باقي مناطق القبيلة الأخيرة. وقد برزت عدة وجوه نسوية في هذه المنطقة، حيث كان لها دور مهم في بلورت المناخ السياسي في المنطقة، وعملت على ترسيخ مبادئ السياسة العامة والخاصة، ولما لا قلبها في كثير من اللحظات الحاسمة، وساهمت بشكل جلي في تدبير المناخ العام السياسي للمنطقة، وإعدادها لكل ما قد يخل بموازين السياسة فيها. ثانيا: دابو الشخصية الغمارية المبهمة: * دابوا المرأة المقدسة: إن الحديث عن هذه الشخصية المأثرة في التاريخ الغماري من جهة، والمبهمة في كثير من تفاصيل الحياة التاريخية من جهة كبرى، لهو من أبرز الأمور التي حثتنا على وجوب تعرية الكثير من تفاصيل تاريخ لم يبقى من مصادره سوى القليل الناذر، والذي شوه الكثير من تفاصيله، وقلبت الكثير من حقائقه. وفي هذا الإطار صادفتنا شخصية مهمة كانت لها أثر بليغ على الساكنة الغمارية، حيث كانت مقدسة إلى درجة العبادة، وهي شخصية دابو الغمارية، التي تركت بصمة غريبة على التاريخ الغماري، لارتباطها بأخيها حميم المتنبي، الذي اتخذ من جبال غمارة معقلا له ولدعوته المثيرة التي سطرت كثير من مضامينها، على شكل قالب هزلي بعيد كل البعد عن النقد البناء التاريخي. وحسب الروايات التاريخية التي سطرت هذه الحكاية، فإن هذه الشخصية العجيبة كانت تتمتع بقدرات خاصة، لاستمالتها للقوى العليا، ولاشتغالها بالسحر والشعودة، ولإتقانها لعلوم السيماء والكيمياء، وغيرها من العلوم التي أهلتها للقيادة والتأثير في المجتمع الغماري بشكل غريب، حيث أرجع المؤرخون هذا التأثير إلا تحكمها بقوى الطبيعة، وبتسخيرها لهذه القوى من أجل التأثير في ميكانزمات القدر، وتسخير المجرياتالحياتية لهم. وحسب المصادر التاريخية التي لم تذكر سوى نبذة صغيرة عن هذه الشخصية التي يحوم حولها الكثير من الغموض، فإن هذه الشخصية اختلف في تسميتها، فقد ذكرها البكري في كتابه على أساس اسم داجو، وعند ابن خلدون على أساس دابو، إلا أن استنساخ نفس المروية يجعل من وجود الشخصية أمرا غير مستبعد، إلا أننا لا نجد في هذه المرويات الكثير عنها. إلا أن الواقع يخفي أكثر مما يقال، وكل ما لدينا من معلومات تثبت أنها شخصية متعلمة ومقدسة، لها تأثير على مجتمعها، ويستعين بها في كل الحروب، وأيضا في فترات الجفاف والقحط، وكذلك أيضا كانت ذات جمال عجيب باهر تسحر الجميع، وأيضا كانت ساحرة كباقي سحرة مجتمعها، الذي لم يكونوا يتقنون سوى السحر، كما أشار أحد المؤرخين حينما وصف نساء هذه المناطق بأصحاب السحر، واغلب اللذين ينتحلونه هم النساء العواتق. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الأهمية البالغة للمرأة في المجتمع الغماري،حيث أصبحت هذه الشخصية بمثابة إلاه في قناعة المجتمع الغماري، الذي عرف بتعاطيه للعلم الشرعي من جهة، والعلوم المصاحبة له من جهة أخرى. * جدلية الوجود الفعلي لهذه الشخصيات: إن الحديث عن الوجود الفعلي لهذه الشخصيات يرتبط أساسا بالنظرة التي كان يوليها المؤرخون لهذه المناطق المنيعة التي عرفت تاريخيا بالنزعة الاستقلالية، والثورة الدائمة ضد كل ما هو أت. هذه النزعة التي تجعلنا نشك في الكثير من المسلمات التاريخية، التي دأب المؤرخون على إلصاقها لهذه القبائل التي كانت تشهد حركة علمية متطورة في جميع المجالات وبشهادة الجميع، وهذا ما يدحض فرضية انتشار الجهالة والتحجر والتخلف في هذه الجبال، فكيف يا ترى تنتشر الجهالة في هذا المجتمع وأغلب نساءه يتقنون علوما تعتبر من أصعب العلوم، كالسيماء والكيمياء، التي هي من مبادئ الطب القديم، ومن أهم علوم ذاك العصر. إن نبوغ أهل المنطقة في الطب لأكبر دليل على سقوط فرضية الجهل والتخلف المنسوبة من طرف بعض المؤرخين اللذين حقدوا على هذه المناطق بعمد أو بغير عمد، وإنها أيضا لأكبر دليل على وجود حركة علمية وثقافية كبيرة في هذه المناطق قبل وبعد الإسلام، وتشهد حواضر سبتة وغيرها على هذه الأمور، وتؤكدها الوجود الكثيف للعلم والعلماء المتخرجين منها. وما التناقض الحاصل في وصف القبيلة ورجالاتها إلا خير دليل على هذا الأمر، فمن وصفها للحجر الأساس لاستقرار الإسلام في المغرب وفتح بلاد الأندلس، ونبوغ رجالتها وأقطابها، إلى وصفها بمعقل الخوارج والثورة والفتن والاضطرابات، إلا أن هذا التناقض الواضح في أراء المؤرخين لا يقلل من قيمتها بل يجعل من مرويات المؤرخين مجرد ترهات لا غير، بل ويؤكد عدم حيادية هؤلاء وخاصة حينما يصفونها بوكر الجهالة والتخلف وبمعقل السحر والكهانة. إن عدم حيادية المؤرخين يجعلنا نؤمن بفقدان الكثير من خصوصيات هذه القبيلة وتاريخها المجيد، بل يجعلنا أيضا نميط اللثام عن واقعها المخفي، وإذا كانت هذه المرويات حقا لها صبغة أصلية واقعية، فملما يا ترى هذا القدح المتعمد والغريب لرجالات القبيلة، ولما هذا الوصف الغريب لكل من ثار فيها، فهل ياترى كان إلصاق قضية ادعاء النبوة بهم كانت من أجل تشويه الشخصيات التي كان لها أثر مجيد في تاريخ الأمة المغربية، أمر متعمدا من أجل محو التاريخ وتزيف الحقائق، وتغيير الوقائع التي كانت مستتبة بتلك المنطقة المنعزلة، كما حدث مع المرابطين والموحدين وغيرهم، ممن عمدوا إلى تلويث تاريخ من سبقوهم، ومحاولة طمس الكثير من معالمه المؤثرة، والتي مازالت مبهمة إلى هذا الوقت، لقلة المصادر، ولكثرة المرويات الغير صحيحة عن تلك الفترة. * البعد الأسطوري والتاريخي لبعض هذه الشخصيات: إن ما يجعلنا نؤمن بالبعد الأسطوري لهذه الشخصيات التي كان لها حضور مهم ومميز في تلك الفترة، هو ما يحوم حولها من شكوك عديدة، من مسامياتها إلى التهم الموجهة إليها، إلى قدراتها الغير طبيعية، وانتهاء بالتقديس الغريب لها. إن هذه الشكوك التي تعتري هذه الشخصيات، تجعلنا نفترض أن القضية ترتبط بما هو أقدم من هذه الفترة، ولما لا أقدم من فترة الدخول الإسلامي، حيث كانت الديانات الوثنية مستتبة في تلك المناطق وبشكل جلي، وبالتالي فإن فرضية تمازج الثقافة الإسلامية والثقافة الوثنية أمر واقع ولابد منه، بل ويجعل من فرضية البعد الوثني للمرويات التاريخية أمرا أكثر واقعا، ولما لا أكبر دليلا على فقدان الخصوصية الثقافية لهذه المناطق، التي اختزنتها مثل هذه المرويات في كثير من حيثياتها. إن فرضية انتماء هذه الأسماء للثقافة الوثنية أصبح أمرا واقعا، وإن النبش في خصوصيات هذه المرويات أصبح ملحا، وإن التأكيد على نسبية الكثير من المرويات التاريخية أصبح من مسلمات البحث التاريخي، وإلا فلما هذا الخلط الشديد بين خصوصيات الثقافة القبلية، وبين ثوابتها التاريخية، وإذا كان هذا التضمين ملحا، فهل يا ترى يكون ملأ للفراغات التاريخية التي لا يعرف عنها الكثير، أم أن الأمر مجرد محاولة لطمس ما قد يعتبر في تلك الفترة تهديدا لوجود الدول وشرعيتها. وإن مما لاشك فيه أن البعد الأسطوري طغى على كثير من ملامح هذا التضمين التاريخي، هذا التضمين الذي ترك شرخا واسعا في ما يخص الانتقال السلسل للإنسان الأمازيغي، من ثقافة الوثنية إلى ثقافة الإسلام، وبالضبط من ثقافة تقديس قوى الطبيعة، إلى ثقافة تقديس الإله الواحد، هذا الانتقال الذي ترك بصمات عديدة عن شكل الثقافة الوثنية القديمة، التي لا نملك الكثير من التفاصيل عنها، ولعل هذه الشخصية جزء من هذا التاريخ المجهول، الذي يختزل تاريخا عميقا مختلفا، تركزت بعض مظاهره في تقديس الأماكن والشخصيات والحامات والغابات. فهل ياترى نحن أمام أجزاء مبعثرة من التاريخ القديم الذي عجز الإنسان العربي الوافد على لملمت الكثير من تفاصيله، وعمد إلى نسج بعض المرويات من خياله تارة، وإلى تدوين المرويات المتواترة عن المجتمع، وتضمينها ضمن قالب إسلامي معين تارة أخرى. كل هذه المعطيات تفتح الباب أمام الباحثين من أجل إعادة الاعتبار لهذه الأدبيات من جهة، وإلى إعادة فهم الكثير من تفاصيلها الموجودة بين السطور من جهة أخرى، من أجل فهم أدق لمضامينها، واستجلابا للفهم الدقيق لواقعها:
إن مما لا شك فيه أن تأثير المرأة الغمارية في مجتمعها تجاوز كل حدود الفهم العادي لدور المرأة المغربية، وإن محاولة إزالة بعض من خبايا هذه الخصوصية التي غطت تفاصيل عدة من تراثنا المنسي، قادت ومازالت تقود الوجوه إلى فهم بنيوي لبنية المجتمع الغماري في الفترات التاريخية السابقة، وكذا تأويل صحيح لنصوص التأريخ السابقة، التي ما زلت في كثير مضامينها عاجزة عن الإحاطة وبشكل سليم بكل الخبايا الصحيحة لهذا المجتمع. وإنه لمن الواجب على كل فرد له غيرة على تاريخ بلاده ومجتمعه، أن يسهم ولو بشكل جزئي في إماطة اللثام عن خبايا هذه الخصوصية وكنوزها، ولما المشاركة الفعلية في إعادة بناء هذا الصرح العظيم من الخصوصية الغائبة.