بعد 30 عاماً من الجمود.. وزارة الصحة تقرر الزيادة في أجور المساعدين الطبيين    مجلس النواب يعقد الاثنين المقبل جلسة عمومية مخصصة لرئيس الحكومة    الجديدة…زوج يق.تل زوجته بعد رفضها الموافقة على التعدّد    المغرب يتألق في اليونسكو خلال مشاركته باليوم العالمي للثقافة الإفريقية    وثائق مشبوهة ومبالغ مالية تقود إلى توقيف "محام مزور" في فاس    مصرع طفل مغربي في هجوم نفذه أفغاني بألمانيا    هناء الإدريسي تطرح "مكملة بالنية" من ألحان رضوان الديري -فيديو-    لحجمري: عطاء الراحل عباس الجراري واضح في العلم والتأصيل الثقافي    الدوحة..انطلاق النسخة الرابعة لمهرجان (كتارا) لآلة العود بمشاركة مغربية    تفشي فيروس الحصبة يطلق مطالبة بإعلان "الطوارئ الصحية" في المغرب    هل فبركت المخابرات الجزائرية عملية اختطاف السائح الإسباني؟    مانشستر سيتي يتعاقد مع المصري عمر مرموش حتى 2029    أغلبها بالشمال.. السلطات تنشر حصيلة إحباط عمليات الهجرة نحو أوروبا    حموشي يؤشر على تعيين مسؤولين جدد بشفشاون    المغرب يستلم 36 شخصا من الجزائر عبر المعبر الحدودي زوج بغال    مدارس طنجة تتعافى من بوحمرون وسط دعوات بالإقبال على التلقيح    كأس أمم إفريقيا- المغرب 2025.. إجراء عملية سحب القرعة بالمسرح الوطني محمد الخامس بالرباط    المغرب يلغي الساعة الإضافية في هذا التاريخ    المغرب الفاسي يعين أكرم الروماني مدرباً للفريق خلفا للإيطالي أرينا    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    حادث سير يخلف 3 قتلى في تنغير    المغرب وموريتانيا يعززان التعاون الطاقي في ظل التوتر الإقليمي مع الجزائر: مشروع الربط الكهربائي ينفتح على آفاق جديدة    تعرف على فيروس داء الحصبة "بوحمرون" الذي ينتشر في المغرب    ريال مدريد يجني 1,5 ملايير يورو    ترامب يعيد تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية أجنبية    مؤشر "مازي" يسجل تقدما في تداولات بورصة الدار البيضاء    المغرب يقترب من إتمام طريق استراتيجي يربط السمارة بموريتانيا: ممر جديد يعزز التعاون الأمني والاقتصادي    تجديد ‬التأكيد ‬على ‬ثوابت ‬حزب ‬الاستقلال ‬وتشبثه ‬بالقيم ‬الدينية    أبطال أوروبا.. فوز مثير ل"PSG" واستعراض الريال وانهيار البايرن وعبور الإنتر    دوري لبنان لكرة القدم يحاول التخلص من مخلفات الحرب    أخطار صحية بالجملة تتربص بالمشتغلين في الفترة الليلية    إوجين يُونيسكُو ومسرح اللاّمَعقُول هل كان كاتباً عبثيّاً حقّاً ؟    الدار البيضاء ضمن أكثر المدن أمانا في إفريقيا لعام 2025    مشروع الميناء الجاف "Agadir Atlantic Hub" بجماعة الدراركة يعزز التنمية الاقتصادية في جهة سوس ماسة    بوروسيا دورتموند يتخلى عن خدمات مدربه نوري شاهين    مؤسسة بلجيكية تطالب السلطات الإسبانية باعتقال ضابط إسرائيلي متهم بارتكاب جرائم حرب    إحالة قضية الرئيس يول إلى النيابة العامة بكوريا الجنوبية    هذا ما تتميز به غرينلاند التي يرغب ترامب في شرائها    احتجاجات تحجب التواصل الاجتماعي في جنوب السودان    إسرائيل تقتل فلسطينيين غرب جنين    نقابات الصحة ترفع شعار التصعيد في وجه "التهراوي"    باريس سان جيرمان ينعش آماله في أبطال أوروبا بعد ريمونتدا مثيرة في شباك مانشستر سيتي    دعوة وزيرة السياحة البنمية لزيارة الداخلة: خطوة نحو شراكة سياحية قوية    الأشعري يدعو إلى "المصالحة اللغوية" عند التنصيب عضواً بالأكاديمية    منظمة التجارة العالمية تسلط الضوء على تطور صناعة الطيران في المغرب    طنجة المتوسط يعزز ريادته في البحر الأبيض المتوسط ويتخطى حاجز 10 ملايين حاوية خلال سنة 2024    عامل نظافة يتعرض لاعتداء عنيف في طنجة    فوضى حراس السيارات في طنجة: الأمن مطالب بتدخل عاجل بعد تعليمات والي الجهة    حادثة مروعة بمسنانة: مصرع شاب وإيقاف سائق سيارة حاول الفرار    في الحاجة إلى ثورة ثقافية تقوم على حب الوطن وخدمته    نحن وترامب: (2) تبادل التاريخ ووثائق اعتماد …المستقبل    الإفراط في تناول اللحوم الحمراء يزيد من مخاطر تدهور الوظائف العقلية ب16 في المائة    الشاي.. كيف تجاوز كونه مشروبًا ليصبح رمزًا ثقافيًا عميقًا يعكس قيم الضيافة، والتواصل، والوحدة في المغرب    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجربة البعثة العلمية ميشو بلير وروبير مونتاني
نشر في المساء يوم 03 - 09 - 2008

لعل أبرز محطة في تجربة البعثة العلمية هي تلك التي دشنها ميشو بلير Edouard Michaux-Bellaire (1857-1930), الذي تحمل مسؤولية إدارة البعثة سنة 1907، حيث كانت جهوده الشخصية ذات قيمة جوهرية في المشروع الكولونيالي خصوصا على مستوى إعداد المونوغرافيات. وقد عرفت البعثة تحت إدارته غزارة في الإنتاج، ويتعلق الأمر هنا بإعداد جملة من المصنفات والمحفوظات من قبيل:
مدن وقبائل المغرب
الأرشيفات المغربية
الأرشيفات البربرية
مجلة العالم الإسلامي، التي أسسها Le chatelier سنة 1906.
بالإضافة إلى ذلك لا شك في أهمية الدور الكبير لميشو بلير في رسم السياسات الأهلية للحماية والتي سيتم اعتمادها حتى ما بعد مرحلة الحرب العالمية الثانية. لقد كانت مقاربة ميشو بلير عبارة عن رصد إثنولوجي دقيق يعتني بجينيالوجيا الساكنة وتنقلاتها، وتنوع عاداتها وأعرافها وسلوكها الاقتصادي، وخاصة ما يتعلق بالتدبير الضريبي والعقاري، كما اعتنت أبحاثه بما يسمى الممرات السرية في التاريخ والذاكرة المغربية للعناصر ما قبل إسلامية، وخصوصا الممارسات الوثنية التي يعتقد أن الإسلام عجز عن تدميرها والقضاء عليها كلية. بالإضافة إلى ذلك عمدت بحوث ميشو بلير إلى صياغة المبررات الأخلاقية لتواجد الاحتلال الفرنسي كالتزام حضاري على عاتق فرنسا إزاء المغرب، لأنها ستجلب له الحضارة والتمدين والتقدم والحداثة.
عمدت البعثة العلمية إلى التعرف عن قرب على التنظيم السوسيوسياسي المغربي، وتمكين الاحتلال الفرنسي من معلومات ووثائق على درجة عالية من الأهمية والدقة. ويذكر عبد الكبير الخطيبي أن كما كبيرا من تلك الوثائق والأرشيفات تم ترحيلها قبيل خروج الفرنسيين من المغرب ما يحرم المؤرخ المغربي من كتابة تاريخ حقيقي عن بلده. لم تسع هذه الأبحاث في واقع الأمر سوى إلى تعبيد الطريق لاحتلال المغرب.
في مقال ل: ميشو بلير تحت عنوان «السوسيولوجيا المغربية» يتحدث عن ثلاثة تصنيفات للسوسيولوجيا الخاصة بالمغرب، منها سوسيولوجيا المخزن والتي تهتم بدراسة مناطق سيطرة المخزن (التي تسمى بلاد الشرع)، والسوسيولوجيا الإسلامية وهي خاصة بالبحث في التعبيرات والأشكال الدينية الرسمية، ثم أخيرا السوسيولوجيا المغربية، والتي تأخذ على عاتقها مهمة الاعتناء بالقبائل البربرية مع رصد البقايا التعبدية الوثنية في الممارسة الدينية.
لقد كان ميشو بلير إضافة لذلك، أول من انتبه ودعا إلى توظيف الثنائية: العرب/البربر، وهي الثنائية التي استندت عليها الحماية لدعم تغلغلها، وتلك الأطروحة عرفت أوج تبلورها مع صدور الظهير البربري سنة 1930، كوسيلة للهيمنة الكولونيالية. هذه الثنائية ذات البعد العرقي ستأخذ أبعادا أخرى في أبحاث ميشو بلير وغيره من الباحثين الكولونياليين عندما بدأ الحديث عن بلاد السيبا وبلاد المخزن، والدعوة إلى المحافظة على هذه الثنائية في السياسية الكولونيالية لما لها من نتائج عميقة ومؤثرة في عمليات السيطرة الفرنسية على المجتمع وإضعاف الدولة وإنهاك قواها. وقد لعبت هذه السياسة دور كبيرا في اختراق الدولة المغربية أفقيا وتدريجيا عبر إعادة صياغة هياكلها وأجهزتها ونمط اشتغالها (سياسة المخزن)، فيما تعتني «سياسة القبيلة» بالرهان على تناقضات القوى المحلية لخلق قوى ورموز ترتبط مصالحهم بسلطة الاحتلال الفرنسي مباشرة، وفي الوقت نفسه تتناقض مع السلطة المركزية للدولة المغربية.
ساد تصور عرقي في مقاربة الاحتلال الفرنسي للمجتمع المغربي بناء على رؤية مثلت سلفا إيديولوجيا البعثة العلمية مقتضى هذا التصور، كما يبين ذلك تقرير تم تحريره سنة 1914، أنه ينبغي تفادي أسلمة وتعريب البربر وعلى السياسة الكولونيالية أن تعمل على إلحاقهم بالحضارة الغربية، وألا تسمح بتعزيز روابطهم بالثقافة الإسلامية (من ذلك ادعاء الخصوصية البربرية على مستوى ارتباط تشريعات القبائل البربرية بالقانون الروماني، كما تدعي ذلك أطروحة هانوطو ولوتورنو).
بناء على هذه الثنائيات التي تتحكم بالنظام الاجتماعي والسياسي المغربي سوف ينطلق عمل روبير مونتانيي Robert Montagne (1893-1954)، والذي كان مشرفا على القسم السابع المتخصص في الإثنولوجيا والسوسيولوجيا المغربية التابع ل»معهد الدراسات العليا المغربية».
كلف مونتانيي (الذي كان ضابطا في المخابرات السياسية بالبحرية) من طرف ليوطي بدراسة أصول السلطة عند القياد الكبار ودراسة القبائل المتمردة في الجنوب المغربي، وهي قبائل معروفة بتنظيماتها المميزة والمحكمة، لقد كان روبير مونتانيي على دراية بوسائل الإخضاع التي طبقها على القبائل عن طريق فكرة التهدئة التي أثمرت نتائج تؤكد خبرة مونتانيي، كما كان له دور في محاربة ثورة الريف بزعامة محمد بن عبد الكريم الخطابي، وذلك من خلال مهامه الاستخباراتية.
يعد كتاب روبير مونتانيي «البربر والمخزن» أول دراسة سوسيولوجية ظهرت حول المغرب، وهي دراسة جاءت على خلفية سياسة الاحتلال الفرنسي لتقسيم المغرب في إطار ما عرف ب»الظهير البربري»، وعلى العموم فهو في هذه الدراسة يجمع بين التفاصيل الأنتربولوجية والتعميمات التاريخية Robert Montagne ; Les Berbères et le Makhzen dans le sud du Maroc : essai sur la transformation politique des Berbères sédentaires, groupe chleuhe. Paris : Librairie Félix Alcan 1930، لذلك نلاحظ تزامنا كرونولوجيا بين الكتاب والظهير (1930). لقد كانت تلك السياسة تسعى إلى تقسيم المغرب بناء على معطيات اجتماعية انطلقت من اعتبار المناطق الخاضعة للشرع مناطق تابعة للمخزن، فيما المناطق الخاضعة للعرف، وهي مناطق بربرية، تابعة للمقيم العام الفرنسي.
في كتابه «البربر والمخزن» اهتم روبير مونتانيي بدراسة القبائل البربرية في منطقة سوس بالجنوب المغربي، ويمكن أن نسجل بخصوص هذه الدراسة استعمال الباحث في وصفه لواقع المنطقة لمفاهيم ذات وقع خاص كاستخدامه ل»الجمهوريات البربرية» أو «الدولة البربرية الصغيرة»، كتعبير عن نمط المؤسسات السياسية والاجتماعية القائمة. كما اهتمت الدراسة بمسألة تداول السلطة داخل القبائل وسبل الهيمنة للحصول على الحظوة داخل المنطق القبلي التي تقود بدورها إلى التمثيل المزدوج لأمغار كزعيم للقبيلة وك»قايد يحوز على ثقة المخزن. لعل امتلاك ال»أمغار» لسلطة ذات بعدين قبلية ومخزنية سيساهم في منح القائد موقعا تفاوضيا يجعل منه معادلة أساسية في كل من سياسة المخزن وسياسة الاحتلال الفرنسي، لذلك عملت السوسيولوجيا الكولونيالية على بلورة استراتيجيات الاختراق من خلال استخدام فرضية التعارض بين البربر والمخزن، والتي عكسها الظهير البربري كإيديولوجيا تتجاوز ذلك التعارض لتجعل منه تعارضا اجتماعيا وعرقيا وحضاريا بين العرب والبربر. لقد انخرطت السوسيولوجيا بحكم هذا الدور في مشروع عنصري يبرر تفكيك المقومات الحضارية للاستقرار الاجتماعي باستخدام المعرفة. ولذلك سوف تظهر فيما بعد دراسات «تطهرية» «ترد وتنتقد» هذا النوع من السوسيولوجيا، كما سنرى ذلك لاحقا مع جاك بيرك في دراسته «البنيات الاجتماعية في الأطلس الكبير».
برأي أرنست كلنرفإن، روبير مونتاني بدين في دراسته «البربر والمخزن» بشكل أساسي لماسكراي، كما يدين إيفانس بريتشارد لإميل دركايم، وسنعود إلى توضيح ذلك في سياق تناولنا للنظرية الانقسامية. اهتم روبير مونتانيي بآليات حفظ وصيانة النظام القبلي والدور الحاسم للوساطات، ثم زاد على ذلك بإثارته لمسألة تأرجح المجتمعات القبلية بين نمطين: نمط قائم على المساواة والمشاركة، وآخر يعتمد البروز المستمر لزعامات قوية، كما اعتنى بالقدر نفسه بعلاقة القبائل بالدولة وأدوار الأمغار، ويشير إرنست كلنر في هذا الخصوص بتأثر مونتانيي (وكذا ماسكراي) بابن خلدون، بل يدعي أنه امتداد فكري له، ويضيف أن مونتانيي بدوره أثر في عالم الأنتربولوجيا الأمريكي كارلتون كون الذي أثر بدوره في ديفيد هارت.
امتدت خبرة مونتانيي إلى مجالات أخرى، منها إشرافه على البحث الواسع الذي تناول نشأة البروليتاريا المغربية بين 1948 و1950، Montagne R. Naissance du prolétariat marocaine : Enquête collective, 1948-1950 (Paris : Peyronnet 1951)، وهو البحث الذي أبرز تصاعد مد الهجرة القروية باتجاه المدن والذي واكبه اتساع رقعة المجال الحضري الذي يعتقد مونتانيي أنه الآلية الفعالة لتجدر وتعميم النظام الكولونيالي ضدا على النخب المثقفة والبورجوازية التقليدية، وكان المستهدف من ذلك إعاقة نمو الحركة الوطنية المغربية.
مثل روبير مونتانيي قمة الإثنوغرافيا الكولونيالية الفرنسية وكذلك قمة السوسيولوجيا في المغرب، واختلطت أفكاره بموقفه السياسي. ففي كتابه «الثورة في المغرب» الذي أنجزه قبيل وفاته توقع مونتانيي نكوص النزعة القومية المغربية، غير أن الأحداث المتوالية جعلت توقعاته في غير محلها. لكن بالرغم من ذلك لا يمكن أن ننكر، برأي أرنست كلنر، صحة تحاليله، حيث إنه استعمل العوامل الصحيحة ليستنتج خلاصات خاطئة. ف: مونتانيي يعتبر أن القوميين المغاربة المؤدلجين فشلوا لأنهم تجاهلوا الواقع الاجتماعي للبادية المغربية. ويقول كلنر بهذا الخصوص إن إعادة صياغة سؤال مونتانيي بطريقة أخرى ستجعلنا نقول: لماذا كانت السلطة المركزية التقليدية قادرة على السيطرة على الراديكاليين اليساريين؟ يوجد في كتاب مونتانيي الكثير للجواب عن هذا السؤال.
تندرج الأبحاث السوسيولوجية الكولونيالية ضمن نمطين رئيسيين:
اتجاه الدراسات السوسيولوجية العرقية.
اتجاه الدراسات السوسيولوجية للتحولات الاجتماعية في المدن المغربية (دراسة الطبقات والنخب).
الاتجاه الأول كان أيسر ونتائجه شبه مضمونة، لأن أرضيته جاهزة للاستعمال والتوظيف، فيما الاتجاه الثاني كان يتطلب جهودا إضافية على مستوى نشر التعليم والدفع بعجلة التصنيع، وهي التكاليف التي لم يكن الاحتلال الفرنسي على استعداد لتحمل أعبائها.
* باحث في السوسيولوجيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.