ما نعيشه مؤخراً من ردة و نكوص حقيقي سياسيا و حقوقيا ، يزكي فعلاً الطرح القائل بوجود "استثناء مغربي " ، لكنه استثناء محكوم بتناقضات بنيوية تجعله يعيش مأزقا حقيقياً يتمثل في تبني خطاب رسمي يدعي السعي لطي صفحة سنوات الرصاص و كل ما رافقها من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ، و ذلك في مرحلة أطلق عليها "عهدا جديدا " كان عنوانها الأبرز " الإنصاف و المصالحة" .. لكن الواقع و هو بطبيعته لا يرتفع و لا يجامل ، أنكر كل هذه الشعارات و كشف عن وجود بنية سلطوية تقليدية لازالت تتحرك وفق منطق الأحكام السلطانية العتيقة في تناقض صارخ مع شعار الدمقرطة و المواطنة و الكرامة.. الاستثناءات التي تؤكد هذه القاعدة كثيرة يمكن رصدها من خلال اقواس و نوافذ تفتح حين تشتد الأزمة و يكبر الاحتقان لكنها سرعان ما تغلق لتفتح من جديد صفحات و "كنانيش" هذه البنية التحتية المتحكمة في البلد ، ما يؤكد افتقادها لإرادة سياسية حقيقة في التغيير و لنقل أنها لا يمكن أن تتعايش مع واقع آخر غير الاستبداد و التفرد بالسلطة.. حتى الأقواس التي تم فتحها في التاريخ المعاصر مثلاً، لم تكن استجابة لقناعة حقيقية في ضرورة الدمقرطة و إنما كانت مجرد تكتيكات مرحلية لتجاوز بعض العواصف منها مثلاً حالة السكتة القلبية و الانسداد في الافق السياسي و الحاجة لتأمين انتقال العرش من الحسن الثاني إلى ولي عهده، لكن سرعان ما تم التراجع عن كل مكتسبات تلك المرحلة بالانقلاب على اليوسفي و اختراق الاتحاد كبنية حزبية وطنية مستقلة، نفس الأمر تكرر مع هبوب رياح الربيع الدمقراطي و استبشار الجميع بالدستور الجديد و ما حمله من امل في امكانية بداية صفحة جديدة ، لكن الحقيقة هي أن كل شعارات تلك المرحلة ظلت كسابقاتها مجرد ذر للرماد في العيون حتى تنجلي الغمة و يسكن الشارع لتعود الآلة المتحكمة في إعادة الضبط و مواجهة كافة الأحزاب الوطنية المستقلة التي تنازعها السلطة و الشرعية.. و يكفي ملاحظة قيامة أكتوبر و ما رافقها من ممارسات عادت بنا إلى ممارسات كشفت زيف شعارات الدولة في القطيعة مع أساليب الماضي البائد… المأزق الحقيقي الذي تنطوي عليه هذه التناقضات الواضحة هو كون هذه البنية السلطوية أو لنقل "المخزن" بتعبير ادق يعتبر "سلطويا و مركزياً بالولادة و النشأة" كما يصفه المؤرخ العروي الذي درس تاريخ المغرب وتاريخ المخزن وميكانيزمات تحركه، وعرف مأزق هذا المخزن التاريخي، صاحب "خواطر الصباح" يزيد قائلاً "إن هذا المخزن حين يمسك بخناق المجتمع فإنه يعيق تطوره و يتسبب في هشاشة الدولة كلها و من تم يصبح استقرار البلاد على المحك." اعتقال شباب و متابعتهم تحت طائلة قانون الارهاب… الإعفاءات المنهجية الغير مبررة في صفوف تيار سياسي معارض له تصوراته الخاصة… حرمان الأساتذة المتدربين من حقهم الكوني كمواطنين في الوظيفة العمومية ظلما و في تعسف غير مسبوق في مشهد يزكي الاستثناء المغربي الذي تكون فيه وزارة التربية ماخورا في يد أم الوزارات وزارة الداخلية.. كلها مشاهد تعكس عودة السلطوية و الاستبداد بأشكال أكثر سماجة و قبحا من ما مضى و لا يمكن أن يقابلها أي وطني صادق غيور على مستقبل هذا الوطن إلا بكثير من الاستهجان و الإدانة و التنديد كونها ممارسات تنتمي لعهد لابد له أن يقبر .. التناقض الحقيقي هو أن هناك من يحاول إقناع الداخل و الخارج أن المغرب نموذج بدأ اول خطواته في نادي الدول الدمقراطية، و الحقيقية المرة هي كون المغرب يعيش نوعاً فريداً من السلطوية يمكن وصفها "بالاستبداد الناعم " ، ربما يرتبط هذا التناقض الذي نعيشه بهذا الوصف للدكتورة هبة رؤوف عزت حين تقول " الخلط في كل مناسبة بين مخاطبة الداخل.. و الخارج، و مغازلة الناخب و مصارحة المواطن، يعكس عدم التمييز بين التنظيمي والسياسي والسيادي .وهذا خطر جدا ؛ مشكلة أن تستعين بأهل الثقة وليس الكفاءة أن غيرك يستعين بالكفاءة. وأنك تستطيع أن تخدع بعض الناس بعض الوقت وليس كل الوقت فتنتهي بفشل وفضيحة-معا"، الخوف اذن كامن في ما لآلت هذه التناقضات التي تنطوي على تحديات خطيرة منذرة بفشل و فضيحة و تهدد مستقبل الاستقرار الذي طالما كانت العملة الرائجة التي جعلت كثيرا من أصحاب الحقوق و المظلومين عن حقوقهم يترفعون و يصطبرون ،غير أن النوق ان صرمت لن سيعدم لبنها، فللصبر كما لكل شيء في هذا الوجود حدود ، و لا يمكن معاكسة هذه السنن الكونية و الحتميات التاريخية و بالتالي لابد أن يكون لهذا الارتداد و النكوص حد، و إلا فمطلب الحرية و الكرامة و العدالة الاجتماعية حتمية تاريخية سارية لم تقف أعتى الأنظمة فتكاً أمامها مهما استطال الزمن الاستبداد ناعماً كان أو خشنا ،مادامت هناك قوى وطنية صادقة مناضلة تحمل هذا الهم في أعماقها و تعتبر الكرامة و الحرية و العدالة رسائل إنسانية و قيما وجودية يحقق بها المرء وجوده الفعلي أخلاقيا في حياة زائلة لا تبقي بعدها إلا تلك القيم الأخلاقية الأصيلة التي تتربع عليها قيمة تحرير رقاب الشعب من الاستبداد والفساد .. كتبه /ابراهيم فنزاوي