ليس هناك أدنى شك أن المتتبعين بيقظة و قلق متبصر و عقل ناقد ليوميات المجتمع المغربي ستصيبهم كل يوم و مع كل واقعة جديدة حالة من المرارة الشديدة و الوجع الكبير و الحزن العميق و الاستفهام المطلق لتناقضاته الفاحشة التي تعجز اعتي العقول صلابة عن فك طلاسمها و اكبر الأمخاخ عن فك شفراتها و أقوى القرائح عن إيجاد نسق منطقي يفسر به هذه الفوضى المجتمعية الخفية التي تثير زوابع صامتة لا يكاد يشعر بها حتى تصل الى مستويات اللاعودة فالانفجار مثل ذاك الورم السرطاني الذي ينتشر ببطء و في صمت و الذي لا يتم التنبه اليه و كشف الستارة عنه حتى يكون قد فتك بالعضو المصاب و هلك جسم حامله و أصبح الأمل في التخلص منه و استئصاله ضئيلة جدا أن لم يكن قد فات الأوان ... لعل آخر هذه المشاهد المرة و الموجعة ;ما شاهدناه في الأيام الأخيرة من مشاهد مخزية تجلب العار على المواطن المغربي الحقيقي : لقد تابع الجميع الاستقبال الجماهيري الكبير و البهيج الذي حظيت به العالمة النووية و الخبيرة الكونية و الأستاذة المرموقة المخترعة الفضائية و الفيلسوفة المتألقة ... هل صدقتموني ... و مند متى تحظى المثقفة و العالمة و المخترعة في هذا المجتمع بمثل هذه الاستقبالات الجماهيرية المشهودة و الغفيرة ... إن الذي وقع هو أن الراقصة الماجنة و المغنية العارية المعروفة على امتداد الوطن العربي التي يعرفها القاصي و الداني حظيت باستقبال جماهيري بل تجاوز الأمر هذا إلى حملها على الأكتاف و التغني بها كما يفعل بالإبطال القومين أو على الأقل كما يفعل مع الأزواج في ليلة عمرهم حين يحملون على "العمارية" للدلالة على التقدير و التبجيل و الابتهاج و الفرح بهما ... نعم هكذا فعل مشهد استقبال هيفاء وهبي في وطني ... المشهد الثاني و الذي لا يقل دراماتيكية عن الأول و يوضح بجلاء عمق البؤس و التناقض في هذا الوطن الحبيب مشهد يجسد صورة أخرى و لكن هذه المرة في الاتجاه المعاكس صورة سوداء قاتمة من الوجه الأخر للمغرب ; لقد تابع الجميع الصور المخجلة التي التقطت في جل ميادين هذا الوطن من طبنجة العالية مرورا بعروس الاظلنتي أسفي فمراكش المرابطين و قلاع أخرى وصولا إلى العيون حاضرة صحراءنا حين كان الأساتذة و مربوا الأجيال يعبرون عن حقهم الكوني الدستوري التاريخي العرفي الوطني في الاحتجاج التعبير عن رفضهم لقرارات ارتجالية هشة هضمت حقوقهم المشروعة و جعلتهم يخرجون للشارع للتعبير عن تذمرهم و رفضهم و احتجاجهم على قلب رجل واحد ليقولوا "لا" و الف "لا" على الإجهاز الممنهج من الوزير التقنوقراط المعين الذي لا تستند قراراته إلى مشروعية شعبية ديمقراطية و الذي بلغ من العمر عتيا و الذي لم يتفاعل مع مطالبهم فقابلهم تارة بادعاءات باطلة بأنهم طلبة دمغتها وثائق سلمتها وزارته ثتبث أنهم أساتذة فلزم الزاوية و اكتفى بالسكوت و الإحجام و عدم المبالاة و تارة أخرى و بالاستهزاء و التهكم على نوابهم نواب الأمة في القبة . الصور التي تحكي واقعا غير مشرف و ويكذب كل التافهات و التي يحترف الساسة تنميقها عن حقوق الإنسان و الحرية و الكرامة و العهد الجديد و الدستور الجديد لكن الواقع لم يكشف عن إي جديد سوى إعادة إنتاج ممارسات ماضوية بائدة غير مشرفة ; لقد تابع الجميع كيف تم الاعتداء بتلك الطرق المقيتة و تعنيف الأساتذة المحتجين سلميا بالضرب و التنكيل و الرفس و شتى أنواع الاهانات ... لقد شاهد الجميع صور أساتذة الغد و مربوا الأجيال و هم يعنفون و يرفسون و تنال من كرامتهم و أجسامهم صيات و هراوات " المخازنية" و "السيمي" لتمنعهم من حقهم في التعبير في الاحتجاج في الرفض بسلمية و حرية و كرامة ... هي إذن صورتان من مجتمع مغربي تختلج فيه و تختمر في دهاليزه تناقضات فاحشة تثير الذهول لذي ذوي العقول المتبصرة الناقدة و الحسرة و الكائبة لدوى دوي النفوس الغيورة و الطامحة لمغرب افضل مغرب الحرية و الكرامة و العدالة الاجتماعية لقد بصم الأساتذة المتدربون على مواقف تاريخية ستسجل في سجلهم إذ لم يثنهم القمع المتواصل و التهديدات الكثيرة التي يتلقونها في كل حين و لحظة عن الصمود و الثبات و الوحدة ليقينهم و اعتقادهم التام بعدالة قضيتهم و نبل نضالهم و حجم ثأتيرهم في المجتمع إذ ظلوا و لازالوا صامدين في مواجهة قرارات ارتجالية غير مدروسة غلب عليها الهاجس المادي التقنوي الضيق لا تؤطرها رؤية واضحة لإصلاح شمولي بنيوي يعيد الاعتبار للبنية المتهالكة المتهرئة للتربية و التكوين في هذا المغرب منذ عقود و التي تعبر عنها المراتب الأخيرة التي تحتلها بالمقارنة مع نظيراتها في دول افريقية اسياوية كانت إلى وقت قريب تعاني ويلات الحروب الأهلية و وويلات المجاعات . و لعل إحدى المحطات الفارقة التي تعرفها المعركة النضالية المشروعة للأساتذة الغد هي المسيرة البيضاء الثانية بعد الأولى الناجحة مسيرة الصمود التي يعتزمون القيام بها في العاصمة الرباط مدينة المكاتب الفخمة و الأرائك الجلدية و مطبخ القرارات الهامة للتعبير عن نضالهم المستمر و رفضهم القاطع للمراسيم الوزارية التي هضمت حقهم بصوت سيهتز على إيقاعاته مكتب بالمختار و الكراسي المنزكشة في المؤسسة بعد ان لجأ الى نهج سياسية الاذن الصماء و الاكتفاء بالتهديد و الوعيد في غياب اي بوادر حوار مسؤول لمناقشة القضية العادلة المطروحة بقوة في الساحة التربوية المغربية و التي تحظى باهتمام و تضامن شريحة واسعة من رجال و نساء القطاع التربوي المغربي و تضامن شعبي كبير . المسيرة المنتظرة في الخميس المقبل السابع عشر من دجنبر ينتظر أن تزيد الضغط على وزارة بالمختار المرتبكة و تزيد من إشعاع القضية العادلة للأساتذة الغد كما أنها فرصة للتنديد بالمضايقات و التعنيف الذي تعرض له الجسم الاستاذي في جل المدن المغربية كما أنها فرصة للتأكيد على نضج و لحمة و صمود و استمرار اساتدة الغد قدما الذين وصلوا إلى مرحلة اللاعودة إلى غاية تحقيق مطالبهم و إسقاط المراسيم الجائرة في حقهم . هي في النهاية كلها مشاهد تختزل و تعكس بعمق بؤس هذه الدولة و هذا المجتمع و تناقضاته الفاحشة ورسالة واضحة لمن يهم الأمر ...حين تعنف تلك الشابة درست و تفوقت فنجحت لتصبح أستاذة و مربية للأجيال بجدارة و استحقاق بتلك الطريقة الهمجية الصهيونية الحيوانية بصفتها أستاذة الغد التي ستربي الأجيال بينما في الضفة المقابلة ترفع المغنية الراقصة الماجنة على الرقاب و يحتفي بها على شاكلة الإبطال القومين الخالدين و توشح أخرى بأوسمة مضاعفة يصبح السؤال حينها محرقا وواجبا كونيا وجوديا : ما نموذج الإنسان المواطن المغربي الذي نصنعه من حيث ندري او لا ندري في هذا الوطن !!! أي قيمة معنوية أصبحت للمهنة التي كاذ أصحابها أن يكونوا رسلا منزلين أي صورة تعطى لهولاء الأطفال الذين يرون الوزرة البيضاء الناصعة التي تشعل نور الأمل في صدورهم و عقولهم تمرغها أيادي الظلم و الطغيان في التراب !! أي صورة تعطى لهولاء الشباب المجتهدين المجدين المتفوقين حين يرون أقرانهم درسوا حتى سقط الشعر من رؤوسهم لتتلقفهم هراوات "المخازنية" تهشم عظامهم !! أي صورة تعطى لتلك الشابة المحترمة الوقورة المثقفة الملتزمة بتلك الأخلاق العطرة حين ترى قرينتها تفرسها الإقدام و الراقصة الماجنة تحمل على الأكتاف و يحتفي بها في المحافل و الإعلام !! أي صورة تعطى لذاك الأب المكافح و تلك إلام الحنون و هما يزرعان و يرعيان و يربيان و يسقيان بدمهما بذرة أبنائهما حتى إذا ما تفتحت زهورهما مزقتها بيادات الظالمين و انتشلتها من روضهما الغناء هراوات الجائرين !! إن الرسالة في نهاية المطاف واضحة : ما شأنكم و العلم و الأخلاق و الاجتهاد و التفوق فلتتغنوا و لترقصوا فما فاز في هذا الوطن إلا المغنون و الراقصون .... ثم عجبا ببلادة و برودة مثيرة للغضب حينا و مثيرة للغثيان أحيانا كثيرة يسألونك ما بال تعليمنا في الدركات !!? قل أستاذة مهانة في كل الطرقات تنهال على رأسها الهراوات و هيفاء تحمل فوق "العماريات" و تكرم من على المنصات ... إنها معالم صناعة جيل جديد " هجين "عن أصالة و قيم و تاريخ هذا الشعب !