لم تكن وديتي المنتخب الوطني لشهر مارس الجاري أمام كل من أنغولا وموريتانيا مجرد وديتين عاديتين لأسود الأطلس، ولا كان شكل المنتخب وآداءه فيهما يدخل في إطار التجريب والوقوف على النواقص استعدادا للاستحقاقات المقبلة، بل كانت المبارتين أشبه باستحقاقين رسميين، وامتحانا حقيقيا للمدرب وليد الركراكي لإثبات ذاته وطمأنة الجمهور الرياضي المغربي أن ما حدث بالكوت ديفوار في الكان الأخير، كان مجرد كبوة جواد، وأن المنتخب سيعود لسكة النجاحات كما كان الحال في المونديال. لكن ما تابعه الجماهير الرياضية المغربية في هذا التوقف لم يبعث بإشارات إيجابية كثيرة بأن القادم سيكون أفضل، بل بلعكس زكى تخوفات الشارع الرياضي بأن وليد الركراكي لم يعد له ما يقدمه للمنتخب في الفترة المقبلة، كما أن الركراكي خسر فئة جديدة من الجمهور الرياضي الذي ساندته بعد إخفاق الكان ودافعت عنه، بعد خسارته لفئة من الجمهور بعد ذاك الإخفاق. لا شك أن تجربة المونديال والنتيجة التاريخية التي حققها المنتخب الوطني تحت قيادة الركراكي، والتي دخلت به تاريخ كرة القدم الوطنية والإفريقية والعربية من أوسع أبوابها، ومنحت للرجل شعبية غير مسبوقة ستظل راسخة في الأذهان لسنوات وعقود طويلة، لكن الإشارات السلبية التي بدأ يقدمها أسود الأطلس منذ العودة من المونديال، وضبابية المشهد في الأفق الذي يحمل استحقاقات هامة أبرزها كأس إفريقيا بالمغرب، ومونديال أمريكا-كندا-المكسيك، يجعل الجمهور المغربي يطرح سؤالا هاما، هل وليد الركراكي هو رجل المرحلة المقبلة، وقبله يُطرح سؤال، كيف تراكمت المشاكل مع المنتخب الوطني؟ وكيف أصبحت بشكلها الحالي؟ من بعد مونديال قطر إلى ما قبل الكان .. داء بلا أعراض لم تكن الفترة التي تلت مونديال قطر، والنتائج المتباينة التي بصم عليها المنتخب الوطني خلال سنة 2023 بالنتائج التي ضقت ناقوس الخطر حول وضع المنتخب، فوليد الذي عاد من قطر بإنجاز كبير تُركت له مساحة اشتغال واسعة، وحصانة منيعة لتجريب الأفكار التي يريد، واختيار الأسماء التي يحب. لكن تلك المباريات حملت إشارتين كانتا تُنبئان بأن هناك مجموعة من المشاكل التي ينبغي العمل عليها، والتي ينبغي إصلاحها قبل الوصول للكان: 1 – رسم خططي واحد دون تغيير: لم ينتبه الكثيرون إلى أن خطة وليد الركراكي الوحيدة المتمثلة في 4-1-4-1، بقدر ما كانت نعمة له في المونديال، وحققت المعجزات، بقدر ما ستصبح نقمة عليه، فقد ظل الرجل مرتهنا لهذه الخطة دون تغيير، وأصبح منتخبه كتابا مفتوحا لخصومه كما أشار بعبارات مشابهة مدرب جنوب إفريقيا هوغو بروس بعد إقصاءه المغرب في ثمن نهائي "الكان". وبالفعل فقد أصبح السلاح الذي استعمله المنتخب الوطني أمام المنتخبات العالمية في المونديال هو نفسه السلاح الذي استُعمل ضده من طرف المنتخبات الإفريقية التي ركنت للدفاع بنفس خطة الرجل، وتمكن العديد منها من النجاح في تعطيل مفاتيح لعب المنتخب الوطني، وهو ما يقودنا للفكرة الثانية. 2 – عدم القدرة على التنشيط الهجومي الجيد: كان واضحا أن المنتخب الوطني يفتقد للقدرة على التنشيط الهجومي الجيد، لتفكيك دفاعات الخصوم، إذ بمجرد أن تعود المنتخبات المنافسة للخلف، حتى تبدأ المشاكل في الظهور، وتنعدم الحلول الهجومية. ومع الركراكي افتقد المنتخب للسرعة في بناء العمليات، إذ كان المنتخب بطيئا في محاولة خلق الفرص وإحداث الثغرات في دفاعات المنافسين وكسر خط دفاعهم، والتي كانت قليلا ما تظهر، كما أن حماس المونديال والحيوية في المنتخب الوطني قد انطفأت جذوتهما. المنتخب خلال الكان.. داء بأعراض واضحة في مراحلها الأولى مع حلول كأس إفريقيا، دخل المنتخب الوطني المنافسات كمرشح فوق العادة للفوز باللقب، خصوصا بعد النجاح الكبير في المونديال، وفي الوقت الذي حضرت فيه المنتخبات المنافسة نفسها جيدا لمواجهة المنتخب الوطني، ظهر خلال البطولة أن هناك مشاكل عميقة تطغى على المنتخب الوطني. 1 – استمر وليد الركراكي في نفس خطته المتمثله في 4-1-4-1، لكن هذه المرة، ركز في بعض المباريات على التنشيط الدفاعي أكثر من التنشيط الهجومي، وفضل استقبال اللعب وعدم الاندفاع نحو بناء اللعب. وإذا ما كان لوليد العذر في مباراته أمام الكونغو الديمقراطية، في تفضيل اللعب الدفاعي على الهجومي، حيث أجريت تحت درجة حرارة ورطوبة قاسية، فإنه في مباراة جنوب إفريقيا وعلى عكس المتوقع لم يبادر بالشكل الكبير للضغط على مرمى جنوب إفريقيا وفضل ترك الكرة لها لبناء اللعب، وهو ما استغله البافانا بافانا الذين درس مدربه بشكل كبير نقاط قوة وضعف أسود الأطلس، وكان المنتخب الوطني كتابا مفتوحا لهم. 2 – الاعتماد على نفس الأسماء: من بين العيوب التي ظهرت جلية عند الركراكي هي تفضيله للتشكيلة الأساسية للمونديال، بغض النظر عن مستويات بعض أفرادها، وعدم ملاءمة أخرى لمتطلبات هذه البطولة. وسيتذكر الجمهور أن الركراكي فضل إشراك كل من بوفال ومزراوي أساسيين في بعض المباريات المهمة رغم عودتهما من إصابتين صعبتين، وافتقادهما للجاهزية، وتفضيلهما ومعهما الزلزولي على عنصرين آخرين هما يحيى عطية الله وأمين عدلي، حيث يقدم الأول مستويات متميزة مع أسود الأطلس كلما سنحت له الفرصة للمشاركة، فيما يقدم الثاني مستويات كبيرة مع فريقه بايرن ليفركوزن. كما سيتذكر الجمهور إشراك كل من النصيري الذي يعيش حالة خصام واضحة مع المرمى في كل مرة يرتدي فيها قميص المنتخب، وأملاح المفتقد للعديد من الوظائف والأساسيات التي ينبغي لها أن تميز لاعب خط الوسط، مثل حيازة الكرة والتمرير الصحيح أو المراوغة والقيام بثنائيات مع زملاءه، والزيادة العددية داخل منطقة الجزاء في بعض الحالات. 3 – تصريحات الرجل وأفعاله التي أثرت على تركيز المنتخب الوطني: كان للعديد من تصريحات وليد الركراكي دور في إخراج الفريق عن تركيزه، وسيتذكر الجمهور أن وليد الركراكي أدخل المنتخب الوطني في نقاشات فارغة بسبب اعتباره أن المنتخب الوطني لا يمثل سوى نفسه ولا يمثل الجماهير العربية، وهو خلف العديد من الانتقادات لوليد، رغم أنه يتذكر جيدا الدور الذي لعبته الجماهير العربية في نجاح المنتخب الوطني في نهائيات كأس العالم. كذلك كان لمشكلته مع مبيمبا مدافع الكونغو الديمقراطية وإيقافه لمبارتين، دور هام في التأثير على تركيز أسود الأطلس، إذ فضل المدرب الانتصار لنفسه والدخول في مشاحنات مع قائد الكونغو أدخل معها جميع اللاعبين في حالة توتر واضحة. المنتخب في التوقف الدولي المنتهي.. داء بأعراض بدأت تصل لمرحلة الخطر كان هذا التوقف الدولي فرصة لوليد لمصالحة الجماهير، بل ومصالحة رئيس الجامعة الملكية لكرة القدم، لكن يبدو أن وليد فشل فشلا ذريعا في ذلك، رغم توفير كل الظروف لإنجاح هذا التوقف. فقد دخل وليد في صراع مع مدرب المنتخب الأولمبي عصام الشرعي من أجل بعض اللاعبين الأولمبيين الذين أرادهم وليد معه في المنتخب الأول للظهور بوجه إيجابي، فيما طالب الشرعي بضرورة تواجدهم معه في المنتخب الأولمبي المقبل على استحقاق الألعاب الأولمبية، وقد وجد الركراكي رئيس الجامعة في صفه الذي أقال الشرعي، ومنح الركراكي الأسبقية في اختيار اللاعبين، كما أقال غريب أمزين من منصبه كمساعد لوليد وعوضه ببوحزمة. كما قام الركراكي بتطعيم منتخبه بالعديد من الأسماء الهامة والواعدة في مقدمتها ابراهيم دياز وإلياس بنصغير وإلياس آخوماش، والتي كان يُتوقع أن تمنح الإضافة الكبيرة لأسود الأطلس وتعطي للركراكي خيارات أكبر، وتجعله في مشكل الأغنياء. وإن كان الركراكي قد أظهر بعض المرونة، وقام بتغيير أفكاره التكتيكية، بتغيير خطته الوحيدة 4-1-4-1 واعتماد 4-2-3-1 بدلا منها، إن كان أيضا قد تخلى عن العديد من الأسماء التي عاش معها ملحمة المونديال، وإن كان قد ركز على التنشيط الهجومي أكثر من التنشيط الدفاعي، فإن كل هذه التغييرات التي تبدو إيجابية، والأسماء الجديدة التي تبدو متميزة، قد فشل معها الركراكي في تبديد مخاوف الشارع الرياضي، حيث ظهر المنتخب بوجه باهت، وفشل في خلق فرص حقيقية للتسجيل. وإن كان وليد قد حضي بالحصانة بعد المونديال وأعطي حصانة واضحة ومساحة واسعة للاشتغال دون ضغط من الجمهور والجامعة الملكية، فإن إخفاق الكان جاء ليسحب منه الحصانة وليخسر معه جزءا من الجمهور الرياضي، ثم زكت مبارتي أنغولا وموريتانيا التخوفات وخسر معها جزءا آخر من الجماهير المساندة له، خصوصا وأن الجماهير شاهدت المنتخب مع وليد وهو يتحول من حالة الاشتغال الجاد والتحضير المكثف، والتميز في التواصل خلال الندوات الصحفية قبل المونديال وأثناءه، إلى حالة التراخي والبقاء داخل قوقعة نجاح المونديال، واستعمال أسلوب عاطفي وعبارات لا تتناسب مع مدرب ينبغي عليه إصلاح أخطاءه، والاشتغال الجاد. وبالعودة إلى السؤال الأول: هل آن أوان الوداع؟ فإن الإجابة قد تكون واضحة في العديد من التجارب، التي تقدم معطى واضحا، أن النجاح في محطة ما لا يعني ضرورة تكرار النجاح، وأن التركيز على فكرة الاستقرار داخل المنتخب الوطني لا يعني أن نتائجه ستكون إيجابية، ولنا في بلماضي مع الجزائر مثال، وهو الذي حقق كأس إفريقيا 2019، ثم تعرض لصدمات كبيرة بعدها في ثلاث مناسبات مهمة، تمثلت في الخروج من الدور الأول لكل من كأسي إفريقيا 2022 و2024، والإقصاء الصادم أمام الكاميرون والفشل في بلوغ نهائيات كأس العالم. كما لنا في يواكيم لوف مثال ثان وهو الذي حقق مونديال البرازيل، ثم بعده مني المانشافت بالعديد من النكسات على يديه، والتي عادت بالمنتخب الألماني سنوات للوراء.