إطلاق شراكة استراتيجية بين البريد بنك وGuichet.com    وزير الأوقاف: أكدت لوزير الداخلية الفرنسي أن المغاربة علمانيون فصدم    المحامي والمحلل السياسي الجزائري سعد جبار: الصحراء الشرقية تاريخياً مغربية والنظام الجزائري لم يشرح هوسه بالمغرب    لا شراكات على حساب الوحدة الترابية والسيادة الوطنية للمملكة المغربية    صقر الصحراء.. طائرة مغربية بدون طيار تعيد رسم ملامح الصناعة الدفاعية الوطنية    ترقب لقرار إسرائيلي حول وقف إطلاق النار مع حزب الله وبن غفير يعتبره "خطأ كبيرا"        الرباط.. انطلاق الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية    تحرير محيط مدرسة للا سلمى من الاستغلال العشوائي بحي المطار    حقوقيون مغاربيون يحملون الجزائر مسؤولية الانتهاكات في مخيمات تندوف    الجزائر و"الريف المغربي" .. عمل استفزازي إضافي أم تكتيك دفاعي؟        لفتيت يستعرض التدابير الاستباقية لمواجهة الآثار السلبية لموجات البرد    الاتحاد الأوروبي يمنح المغرب 190 مليون أورو لإعادة بناء المناطق المتضررة من زلزال الحوز    في سابقة له.. طواف المسيرة الخضراء للدراجات النارية يعبر صحراء الربع الخالي    تعزيز وتقوية التعاون الأمني يجمع الحموشي بالمديرة العامة لأمن الدولة البلجيكية    الوالي التازي يترأس لجنة تتبع إنجاز مشروع مدينة محمد السادس "طنجة تيك"    السكوري يلتقي الفرق البرلمانية بخصوص تعديلات مشروع قانون الإضراب    الرجاء والجيش يلتقيان تحت الضغط    الإنترنت.. معدل انتشار قياسي بلغ 112,7 في المائة عند متم شتنبر    ارتفاع كمية مفرغات الصيد البحري بميناء الحسيمة    لاعبتان من الجيش في تشكيل العصبة    تكريم منظمة مغربية في مؤتمر دولي    المغرب يفقد 12 مركزاً في مؤشر السياحة.. هل يحتاج إلى خارطة طريق جديدة؟    ليبيا: مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي يجدد التأكيد على أهمية مسلسلي الصخيرات وبوزنيقة    غرق مركب سياحي في مصر يحمل 45 شخصاً مع استمرار البحث عن المفقودين    "البيجيدي": الشرعي تجاوز الخطوط الحمراء بمقاله المتماهي مع الصهاينة وينبغي متابعته قانونيا    ريال مدريد يعلن غياب فينسيوس بسبب الإصابة    «الأيام الرمادية» يفوز بالجائزة الكبرى للمسابقة الوطنية بالدورة 13 لمهرجان طنجة للفيلم    في لقاء عرف تفاعلا كبيرا .. «المجتمع» محور لقاء استضافت خلاله ثانوية بدر التأهيلية بأكادير الكاتب والروائي عبد القادر الشاوي    تكريم الكاتب والاعلامي عبد الرحيم عاشر بالمهرجان الدولي للفيلم القصير بطنجة    بعد رفض المحامين الدفاع عنه.. تأجيل محاكمة "ولد الشينوية"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    العالم يخلد اليوم الأممي لمناهضة العنف ضد النساء 25 نونبر    صنصال يمثل أمام النيابة العامة بالجزائر    بورصة البيضاء تفتتح تداولات بالأخضر    أرملة محمد رحيم: وفاة زوجي طبيعية والبعض استغل الخبر من أجل "التريند"    منظمة الصحة: التعرض للضوضاء يصيب الإنسان بأمراض مزمنة    تدابير للتخلص من الرطوبة في السيارة خلال فصل الشتاء    تقرير: جرائم العنف الأسري تحصد امرأة كل عشر دقائق في العالم    إيرادات فيلمي "ويكد" و"غلادييتور 2″ تفوق 270 مليون دولار في دور العرض العالمية        "الكاف" يقرر معاقبة مولودية الجزائر باللعب بدون جمهور لأربع مباريات على خلفية أحداث مباراتها ضد الاتحاد المنستيري التونسي    استيراد الأبقار والأغنام في المغرب يتجاوز 1.5 مليون رأس خلال عامين    أونسا يوضح إجراءات استيراد الأبقار والأغنام    مهرجان الزربية الواوزكيتية يختتم دورته السابعة بتوافد قياسي بلغ 60 ألف زائر    مدرب مانشيستر يونايتد يشيد بأداء نصير مزراوي بعد التعادل أمام إيبسويتش تاون        الإمارات تلقي القبض على 3 مشتبه بهم في مقتل "حاخام" إسرائيلي    جدعون ليفي: نتنياهو وغالانت يمثلان أمام محاكمة الشعوب لأن العالم رأى مافعلوه في غزة ولم يكن بإمكانه الصمت    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة        كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الزلازل بين آي الرحمان وأهواء الإنسان .. جدل السنن الكونية والعقوبة الإلهية
نشر في شمالي يوم 29 - 09 - 2023

عقب زلزال الحوز انتشر في كثير من المواقع جدل الزلزال وعلاقته بالمعاصي وكونه عقاب من الله تعالى لعباده بسبب ابتعادهم عن الهدى، واقترافهم للآثام والمعاصي. واتخذ هذا الجدل أبعادا أكبر وأوسع بعد أن دخل حزب العدالة والتنمية على الخط، حينما أضاف بعدا آخر إلى "المخالفات"، وهو "الذنوب والمعاصي والمخالفات بالمعنى السياسي وتلك الموجودة في الحياة السياسية عامة والانتخابات والمسؤوليات والتدبير العمومي وغيرها".
وبغض النظر عن غرابة موقف الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، والتي لها "سبق" إدخال هذا الجدل لعالم السياسة والسياسيين، فإن هذا الجدل قديم، ذلك أن الانسان منذ كان، ومساره لا يخلو من منحى ربط الظواهر الكونية بالقوى "الخارقة" التي تتدخل فيما يقع من زلازل وأعاصير وبراكين وغيرها، معاقبة للإنسان على ما تقترفه يداه من ذنوب ومعاصي.
وفي تاريخنا الإسلامي عرفت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أول محاولة للربط بين الظواهر الطبيعية والمصائب البشرية، حيث "انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم فقال الناس انكسفت لموت إبراهيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي". وبذلك أخرج الرسول الكريم أصحابه من مقام "التفسير الخوارقي" للظواهر الكونية إلى مقام الاعتبار بآيات الله والاتعاظ بها، وما يستحب حينها من تشجيع على الدعاء والصلاة والتقرب إلى الله زلفى. وبذلك أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم برزخا في العقل المسلم بين سنن الله في كونه التي "لا تنكسف لأحد" مهما كان دينه وجنسه ومقامه، حتى لو كان ابن رسول الله عليه الصلاة والسلام من جهة، وبين النظر إلى آيات الله في الآفاق وفي الأنفس للاجتهاد في تعبد الله تنسكا وإعمارا قياما بواجب الاستخلاف من جهة أخرى. ورغم وضوح هذا الأمر فقد استمر هذا المنزع في تفسير الظواهر الكونية إلى يوم الناس هذا.
ولم يختص المسلمون وحدهم بهذا الأمر، فعلى سبيل المثال، عاش مسيحيو أوروبا "زلزال لشبونة الكبير" الذي وقع في 1 نوفمبر 1755م، وكان يوم عطلة وعيدا لجميع القديسين، ووقع ذلك في الساعة 9:40 صباحاً، حيث الكنائس ممتلئة عن آخرها، فتهدمت عشرات الكنائس، وقتل بين ستين ألف ومائة ألف إنسان.
وكان هذا الزلزال من أكثر الزلازل فتكا وتدميرا في التاريخ. وقد عمت أوروبا والعالم حينها موجة من التفاسير التي ربطت بين الزلزال المدمر وعقاب الله، فقال الكاثوليك أن سبب الزلزال هو انتشار الرذيلة، لكنهم عجزوا عن تفسير موت كثير من القساوسة والراهبات وعموم "المؤمنين"، بل إن فولتير تساءل مستنكرا هذا التفسير: "وهل كانت رذائل لندن أو باريس أقل من رذائل لشبونة؟". وقد اعتبر البروتستانت الزلزال عقابا إلاهيا للكاثوليك، لكن بعد أيام قليلة من زلزال لشبونة سيضرب الزلزال مدينة بوسطن الأمريكية وسيقتل خمسة عشر ألفا من البروتستانت. بل إن من المسلمون من اعتبر زلزال لشبونة الكبير عقابا إلهيا للكفار، وحدث أن كان جزء منهم في المغرب الأقصى في طنجة وفاس ومكناس ضحايا لنفس الزلزال، وتذكر بعض المصادر التاريخية مقتل ما يفوق خمسة عشر ألف مغربي في مدينتي فاس ومكناس.
إن المشترك بين هذه الأمثلة، وغيرها كثير، هو سعي كثير من الناس من أديان ومذاهب شتى إلى تفسير الظواهر الطبيعية تفسيرا غير سُنَنِي، يخرجها من مجال السنن الكونية التي لا تحابي مسلما ولا كافرا، ويدخلها إلى مجال "التأويل الديني" الذي يتحدث "باسم الله"، فيقول بعذابه لقوم دون قوم، وبلد دون بلد بسبب الذنوب والمعاصي. غير أن هذا التفسير سرعان ما تعوزه الحجة والاستدلال، ويضعفه التناقض، فتضعف قدرته التفسيرية، خاصة حينما تصيب الظواهر الطبيعية المؤمنين وعموم الناس، وتهدم صوامع وبيع ومساجد يعبد فيها الله ويذكر اسمه.
إن المخرج من هذا المأزق، من وجهة نظري، يقتضي أن يميز العقل المسلم في علاقة الظواهر الطبيعية بعذاب الله بين المقامات التالية، وهي مقامات تقتضي الفصل بينها فصلا منهجيا واضحا وصارما سواء من حيث المجال التداولي أو الخطاب أو الفاعلون.
مقام الوحي
يلجأ البعض إلى الاستدلال على عذاب الله لعباده من خلال الظواهر الطبيعية بما ورد في القرآن الكريم من آيات وقصص تحكي هلاك الأقوام السابقة بسبب انحرافاتهم وتكذيبهم أو إيذائهم لرسل الله وأنبيائه. ومن ذلك قوله تعالى: "وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا". ويدخل في هذا المجال كل القصص التي ذكرها القرآن عن الأقوام الذين أهلكهم الله بعذابه، ومنهم قوم نوح، وعاد، وثمود، وأقوام سيدنا إبراهيم، وسيدنا لوط، ونبي الله شعيب عليهم السلام، وقوم فرعون، فضلا عن أقوام آخرين تم ذكرهم في الكثير من الآيات من مثل قوم الرس وأصحاب الأيكة وقوم تبع.
وما من شك أن الله سبحانه وتعالى أخبر في قرآنه الكريم بما مس القرى الظالم أهلها من عذاب، ومن ذلك قوله تعالى: "كَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَٰهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَٰتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ"، "وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً"، "وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ"، "وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى"، "فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ"، وكل هذه الآيات وغيرها كثير، تخبرنا بما ما وقع للأقوام من عذاب الله لهم بأمر منه تعالى، وهذا الأمر ثابت بالقطع واليقين، ثبوت القرآن وصدق الوحي.
وفي مقام الوحي يكون التصديق بأخبار الأمم السابقة التي جاءت وحيا من الله إلى عباده، فلا أحد منا عاش ذلك الزمن، بل إن بعض الأقوام أبادهم الله عن بكرة أبيهم، ولذلك جاء في القرآن الكريم تذكير للرسول صلى الله عليه وسلم بأن "ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَآءِ 0لْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ". وفي مقام الوحي يكون التصديق تاما كاملا ثابتا للعلاقة السببية المباشرة بين ذنوب الأقوام الهالكة وتلك الظواهر الطبيعية التي عاقبهم بها الله سبحانه وتعالى، بدليل الوحي الوارد في القرآن القطعي ثبوتا ودلالة. لكن بعد انقطاع الوحي أصبح كل ربط مباشر بين الظواهر الطبيعية وعقاب الله ظنا لا يقين فيه، و"إِنَّ 0لظَّنَّ لَا يُغْنِى مِنَ 0لْحَقِّ شَيْئاً".
مقام السنن
وأما المقام الثاني فهو مقام السنن، والمقصود به أن الله سبحانه وتعالى يدبر كونه بسنن كونية عامة ومجردة ومضطردة ومتعالية وحاكمة، لا تحابي مسلما ولا كافرا، لا تنكسف لموت أحد ولا لحياته. ومن ذلك الزلازل التي هي نتاج حركات وتفاعلات جيولوجية، ينتج عنها اهتزاز أو سلسلة اهتزازات ارتجاجية متتالية لسطح الأرض، وتحدث في وقت لا يتعدى ثوانٍ معدودة، ثم يتبع ذلك ارتدادات هي عبارة عن أمواج زلزالية نتيجة تحرك الصفائح الأرضية.
ومن المعلوم أيضا أننا نسكن أرضا نواتها نار تلظى، تنتج يوميا اهتزازات تفوق العشرين ونحن لا نحس بأغلبها، كما أن الأرض تعرف خلال السنة الواحدة آلاف الهزات، وقليل منها ما يبلغ أربع درجات على مقياس ريختر، ومنها طبعا عدد من الهزات القوية التي يحس بها الناس، وقد يصل بعض تلك الهزات إلى درجة من القوة تقتل وتدمر، خاصة في مناطق مسارات الزلازل المعروفة حيث تلتقي الصفائح فتزيد الخسائر وتقل بحسب البعد أو القرب من هذه الأخيرة.
وفي مقام العلم ينبغي التسليم بقوانينه وعدم تأويلها على أوجه لا تستقيم، ذلك أنه من الثابت علميا وإلى حدود اليوم، أن الانسان لم يصل بعد إلى علم "الأرصاد الزلزالية"، وبالتالي فليس بمقدوره أن يتوقع حدوثها، وإن كانت اليابان قد طورت نظاما يستشعر الزلزال قبل حدوثه بثمانين ثانية، لكن من الثابت أيضا أن الانسان بإمكانه أن يحد من الآثار المدمرة للزلازل، واليابان خير دليل على ذلك، فقد استطاعت، وهي الموجودة في منطقة جد نشطة زلزاليا، أن تحد من خسائرها البشرية والمادية من خلال تمويل وتطوير كبير لمنظومة البناء المضاد للزلازل، وهي منظومة قانونية صارمة من ثلاث مستويات، كما تعمل اليابان على نشر وتعميم ثقافة التعامل مع الزلزال من خلال اعتماد عدد من "السلوكيات الآمنة" التي ينبغي اعتمادها حين وقوعه، ويتم التكوين على ذلك في المدارس والإدارات والمقاولات، وتمكنت اليابان بفضل ذلك من أن تصبح الدولة الأفضل عالميا في مقاومة الزلازل.
وفي مقام السنن يحضر العلم الذي يُفَسر الموت بسبب الزلزال، ويكون تفسير ذلك بجملة أسباب منها قوة هذا الأخير، وقرب مركزه أو بعده عن قشرة الأرض، واستهدافه لمنطقة ذات كثافة سكانية مرتفعة أو ضعيفة، وضعف المباني وهشاشتها، ومدى احترامها لمعايير البناء المتين، ولمعايير البنايات المقاومة للزلازل في المناطق التي تشهد نشاطا زلزاليا معروفا مسبقا. وفي هذا المقام سيكون طبيعيا أن يموت في زلزال ما أتقى الناس وأقربهم إلى الله إن كانت مساكنهم من تراب وطين، أو إن هي كانت بناء عشوائيا مغشوشا أو ضعيفا، ومن الطبيعي أيضا في مقام العلم أن يعيش أفسق الناس وأبعدهم عن الله إن كانت مساكنهم متينة تحترم معايير البنايات المقاومة للزلازل.
مقام الاتعاظ بسنن الله والخوف من غضبه ورجاء رحمته
وفي "حديث الزلازل" وما شابهها من ظواهر طبيعية التي قد تصيب الانسان وقد تفتك به، يكون للمسلم مقام يستفرد به عن باقي العالمين، وهو مقام الاتعاظ بسنن الله. وفي هذا المقام يلج المؤمن إلى روح الدين، بعد أن صدق بالقرآن، فيتعظ بما يقع حوله من ظواهر ومصائب، بعد أن يفرغ ذهنه من "الخرافة"، ويحمل العلمَ عدلا ينفي عنهُ تحريفَ الغالينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الجاهلينَ.
وفي هذا المقام يكون الاتعاظ بقصص القرآن وهلاك الأقوام مصداقا لقوله تعالى: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ"، فيبادر المسلم إلى التوبة الصادقة، وينكسر أمام الله تعالى تذللا له وإقرارا بقوته، وهو يرى أن بعض الثواني المعدودات كفيلة بأن تنهي حياة كثير من الناس، ويتذكر قوله تعالى: "إذا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزالَها، وأخْرَجَتِ الأرْضُ أثْقالَها، وقالَ الإنْسانُ ما لَها، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أخْبارَها، بِأنَّ رَبَّكَ أوْحى لَها، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النّاسُ أشْتاتًا لِيُرَوْا أعْمالَهُمْ، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، ومَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"، فيكون الزلزال الأصغر الذي شهده آية ودليلا على الزلزال الأكبر الآتي دون ريب، فيجدد نيته وعزيمته، ويتيقن أن الله خالق هذا الكون هو القادر المقتدر، فيكون الخوف من قوته تعالى ورجاء رحمته.
وفي هذا المقام لا يكون الحديث إلى من مسهم الزلزال تأنيبا وترهيبا بسنن الله، فالمقام وحده واعظ، فكفى بالموت واعظا، فكيف إن كان الموت زلزالا. كما لا يستقيم أن يكون الحديث في هذا المقام ربطا بين الذنوب والزلزال ربط السبب بالمسبب، فذلك علم استأثر به الله سبحانه وتعالى، وأي تحدث أو تحديث به هو تقول على الله بدون علم.
وصفوة القول في هذا المقام أن المسلم إنما يتعظ بسنن الله ليستعد إلى يوم الرحيل، لا لأجل أن يقف قاضيا أمام خلق الله متحدثا باسمه، مخبرا عنه بعذابه لهم بسبب ما كسبت أيديهم.
مقام الساسة والسياسة
آخر المقامات وأبعدها عن اليقين والجزم هي السياسة، فهي دائرة اجتهاد داخلة في مرتبة العفو، حيث نجد المبادئ العامة الموجهة، ومقاصد الشريعة المرسخة لقواعد التيسير ورفع الحرج والضيق عن المكلفين، وهي أيضا مجال واسع للظنيات حيث الترجيح والتقريب والتغليب والابتعاد عن الجزم وكبرى اليقينيات.
وهذا المقام حين وقوع الظواهر الطبيعية يقتضي الاشتغال بقواعده وأصوله، وأداء وظائفه على أكمل الوجوه الممكنة. ولا يتصور أن يتصدر المشتغل في هذا المقام الناس بالوعظ والتخويف من غضب الله، بل الأدهى من هذا أن يقوم بتحميلهم مسؤولية ما وقع لهم، والأصل أن يكون العكس هو الحاصل. فعلى سبيل المثال، فإن مخلفات زلزال الحوز تقتضي مساءلة السياسيين جميعهم عن ما كسبت أيديهم من المسؤولية فيما وقع، من حيث إهمال ساكنة تلك المناطق وعدم اتخاذ الأسباب المانعة لما ترتب عن الزلزال من ضحايا كان من الممكن أن يتم إنقاذهم من مصير الموت لو أن مناطقهم حظيت بحد معقول من التنمية.
ومما لا شك فيه أن المشتغلين والمتصدرين لمقام الساسة والسياسيين ليس من مهامهم وأدوارهم وعظ الناس، وتذكيرهم بغضب الله وسخطه، فهذا القول على ما فيه من غلظة وعدم تناسب في المقام، هو تقول على الله بغير علم. ثم في مقام السياسة لا يعقل أن يقف المرء اليوم أمام الناس واعظا لهم ومذكرا لهم بعذاب الله، ثم يأتيهم بعد ذلك إما طالبا لأصواتهم أو منافسا لبعضهم على مواقع المسؤولية العمومية.
وبناء على ما سبق فلا يعقل أن يتم الاشتغال في السياسة، وهي دائرة اجتهاد وتدافع وتنافس، بالمشترك من ثوابت الأمة، والانزياح إلى دوائر الجدل الفقهي والعقدي، وإدخال المجتمع في متاهات لا ينبني عليها عمل. كما لا يمكن للسياسي أن ينتج خطابا سياسيا مليئا بالمطلقات واليقينيات، حديثا باسم الله وتحديثا عنه، ذلك أن المطلوب من الساسة هو تدبير مشترك الناس مؤمنهم وكافرهم، من استقام منهم ومن انحرف، من هو متين الدين ومن هو رقيقه.
وفي علاقة بالزلازل، فإن المطلوب من السياسي هو أن يجتهد في إنتاج سياسات عمومية تحمي عموم الناس، برهم وفاجرهم، من آثارها المدمرة، تهيئة للمجال الترابي، وصرامة في إقرار وتنفيذ معايير البناء في المناطق المعرضة للزلازل، وتطويرا لأنظمة الوقاية، وتجويدا لأداء المصالح والفرق المتخصصة في تدبير هذا الصنف من الكوارث.
ختاما، وفي علاقة بمقام الساسة والسياسة، إن أسوأ ما انجرت إليه قيادة حزب العدالة والتنمية هي ابتعادها عن مجال عملها وواجبها، وانجرارها إلى حقل "المتشابه" المُدْخِلِ إلى الفتن، وكان الأولى بها أن تلتزم يقين السياسة وهو خدمة كل الناس ورعاية شؤون العامة في مختلف نواحي الحياة، من خلال العمل على تحقيق مصالحهم، جلبا لما ينفعهم ودفعا لما يضرهم، وهو باب من الخير عظيم، وهو باب أوسع وأرحب من الحديث إلى الناس بعذاب الله، وإن كان ذلك قد تم ب "قد" التي لا محل لها من الإعراب.
#دمتم_سالمين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.