بعيدا عن المحاكم، فضائهم الخاص، نفتح من خلال هذه السلسلة الباب أمام القضاة وأصحاب البذلة السوداء للحديث عن مسارهم في رحاب قصر العدالة، نسلط الضوء على بدايات أسماء سطعت في سلكي القضاء والمحاماة، واستطاعت أن ترسم لنفسها مسارا حافلا قليل منا من يعرفه. “في رحاب العدالة”، سلسلة تعدها جريدة هسبريس الإلكترونية، تلتقون من خلالها مع وجوه في سلكي المحاماة والقضاء تمكنوا من طبع أسمائهم في هذا المجال، نقربكم منهم ونعرفكم على بداياتهم ونستكشف الطريق التي سلكوها، والتي لم تخل من أشواك. في هذه الحلقة، نستضيف نقيب هيئة المحامين بمدينة تطوان كمال المهدي، المزداد بمدينة شفشاون والمنحدر من منطقة السطيحات، الذي دفعه هوس الأفلام السينمائية إلى ارتداء “البذلة السوداء” لنصرة الحق والدفاع عن المعتقلين السياسيين. ويكشف كمال المهدي، في هذا اللقاء، كيف تمرد على قرار والده للوصول إلى حبيبته، وكيف تدرج في هذا مسار المحاماة حتى وصوله إلى منصب نقيب الهيئة. كيف اخترت ولوج مهنة المحاماة؟ تسرب إلى وجداني عشق المحاماة من خلال قراءتي بعض الروايات ومشاهدتي بعض الأفلام السينمائية، التي رسمت في ذهني صورة جميلة للمحاماة كمهنة نصيرة للحق، وصاحبها يحظى لهذا السبب بوضع اجتماعي شريف، وهو محط تقدير من الأشخاص والمؤسسات، فضلا عن كونها مهنة حرة. وكانت نفسي وقتها تواقة دائما إلى الحرية في الفعل والممارسة وفي شتى مناحي الحياة كشاب مغربي يستوطن شمال المغرب ومتأثر كباقي شباب الأقاليم الشمالية بأجواء الانفتاح والحرية السائدة في الجارة الشمالية إسبانيا؛ فضلا عن أنني كنت في بدايات تأثري بالفكر اليساري ضمن الحركة التلاميذية في ثانوية القاضي عياض بتطوان، مع ارتباطي بعلاقات صداقة مع رفاق لي كانوا يتابعون تعليمهم الجامعي بجامعة ظهر المهراز بفاس، ما جعلني أضع رجلي على درب العمل السياسي والنقابي، وبداية تعرفي على ما يعْتَمَل في بلدي من قضايا الديمقراطية والحريات. هذا الأمر أسعفني للتعرف على قيادات سياسية وطنية من مرجعيات متنوعة تبوأت المشهد السياسي المغربي، واختارت المحاماة كمهنة لانسجامها الكامل ببعدها الحر والإنساني مع تطلعاتها السياسية، وإن لم أعجب وقتها بفكر تلكم الشخصيات، لكني أصبت بهوى المحاماة التي اختاروها وجعلتها اختياري كذلك، ومنهم قادة في حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي. وبعد حصولي على الإجازة من كلية الحقوق بفاس، لم أتردد لحظة واحدة في ولوج هذه المهنة، كما لو كان لقاء طال انتظاره مع الحبيبة، وهذا ما كان سببا لخلاف لي مع والدي رحمه الله، الذي اختار لي القضاء وقتها بسبب وضعي الاجتماعي كمتزوج، واختيار المحاماة بالنسبة لي كان مغامرة غير مأمونة الدخل، لكنني أبديت إصرارا على تجسيد قناعتي، فصرت محاميا، ومازلت راضيا كامل الرضا على اختياري وفخورا ومعتزا به. هل تتذكر أول قضية كلفت بها؟ مازلت أذكرها بأدق تفاصلها، إذ كانت مرتبطة بوالدي رحمه الله، الذي بعث لي بصديق له من أجل النيابة عنه في قضية عقارية، تقوم على نزاع حول استحقاق قطعة أرضية توجد في مسقط رأسي بالسطيحات بقبيلة بني زيان، وهي من ضمن قبائل غمارة الواقعة بشمال المغرب. وتقاضيت وقتها ولأول مرة أتعابا وأنا في بداية مشواري المهني، وأتذكر أنها كانت في حدود مبلغ 3500 درهم، وجاءتني عن طريق أبي رحمة الله عليه، ومن حسن حظي أنني وفقت فيها لصالح موكلي، ما أعطاني إشعاعا في تلك المنطقة. خلال ولوجك هذه المهنة، من كان قدوتك فيها؟. تكلمت في السابق عن محامين شغلوا الساحة السياسية الوطنية بمواقفهم وفعلهم السياسي، ما زاد منسوب شغفي بمهنة المحاماة، وفي مقدمتهم النقباء عبد الرحمان بنعمر وعبد الرحمان اليوسفي ومحمد الصديقي وغيرهم، لكن من اقتديتُ به في مرافعاتي في مستهل مشواري المهني، وكنت أتتبع مرافعاته بانتظام وبِشغف وانبهار كبيرين، هو النقيب محمد الإسكرمي المرابط، أحد أهرامات مهنة المحاماة بتطوان وعلى المستوى الوطني، إذ هو من ساعدني من حيث لا يدري في اكتساب مهارات الخطابة في فن المرافعة، ودون أن أنسى قدوتي في العمل، إذ تربيت مهنيا في مكتبه وفي كنف توجيهاته، وهو النقيب أحمد الزموري. هذان النقيبان كانا بالنسبة لي، وإن تباينت اختياراتهما على مستوى الاختصاص، قدوة في المهنة، وبفضلهما تشكلت شخصيتي المهنية، التي أنا عليها إلى غاية الآن؛ أطال الله في عمرهما. وشاءت الحياة أن تجمعني بنقيبي محمد الإسكرمي المرابط في مجلس هيأتنا لنتدبر معا شأن المحاماة بتطوان وأنا سعيد بذلك. باعتبارك يساريا تقدميا، كيف تشعر وأنت تدافع عن الطلبة التقدميين؟. حتى وإن كنت عشت وعاينت المراحل النهائية لاغتيال الجامعة المغربية، في أواسط ونهاية ثمانينيات القرن الماضي، بفعل ما كان يمسى الإصلاح الجامعي، وقد كان فعلا تخريبا منهجيا لجامعاتنا، فإنني استطعت أن أظفر بمعارف وتجارب كبيرة بحكم انتسابي لمدرسة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. وإن كانت محظورة عمليا وقتها ومازالت، فإن الحركة الطلابية وقتها كانت تعرف وهجا نضاليا وفكريا، فكان ذلك كافيا لأعتبر نفسي مدينا لها بشكل شخصي في حياتي عموما وفي المحاماة على وجه الخصوص. وإذ غادرت أسوار الجامعة لألتحق برسالة المحاماة، وبمجرد تقييدي في لائحة التمرين لدى هيأة المحامين بتطوان، أتذكر انتقالي لأول مرة بصفتي محاميا متمرنا إلى سجن عين قادوس في زيارة إلى رفاقي من بعض الطلبة القاعديين الذين كانوا معتقلين على ذمة قرار مقاطعة الامتحانات سنة 1989، ثم حضرت كمحام متمرن مراقب فقط محاكمة بعضهم أمام غرفة الجنايات لدى محكمة الاستئناف بفاس، وخلالها، وأنا أتتبع أطوار المرافعات القيمة التي آزر بها النقيب بنعمرو وعدد من الزملاء من هيئات مختلفة، وأغلبهم كانوا من رفاق الشهداء/حزب الطليعة حاليا، تأكد لي نبل هذه المهنة، وعلى خطاهم سرت فآزرت بعدها العديد من الطلبة والفاعلين السياسيين خلال مساري المهني، ومازلت مستعدا للقيام بذلك حتى الآن، وهذا كان مناط التحاقي بمهنة المحاماة. وكما أتطوع لمؤازرة مواطنين في محاكمات ذات طابع سياسي، أتطوع كذلك وبنفس الشغف والحماس للدفاع عن قضايا المستضعفين من أبناء مدينتي من فئات مختلفة عمال ونساء، وكل من احتاج إلى مساعدتي القانونية يجدني مستعدا لتقديمها له في كل وقت وحين، وهو ما يُدخل السعادة على قلبي، ويشعرني بصواب اختياري لمهنة النبلاء، وقد ألصق بها هذا الوصف لهذا السبب تحديدا. هل دافعت عن الطلبة الإسلاميين باعتبارك تقدميا؟ لم أُميز في تاريخي المهني، وأنا أتعاطى مع قضايا الاعتقال السياسي والحريات، بين المعتقلين، بسبب انتماءاتهم السياسية أو معتقداتهم الدينية أو الإيديولوجية أبدا، فأنا مُشبع بفكر وثقافة حقوقيين، تؤمن بكونية حقوق الإنسان، وعدم قابليتها للتجزيء في حق الأشخاص والدول على حد سواء، كما أن تجربتي كمناضل حقوقي في صفوف الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ومسؤول رئيس لفرعها بتطوان في مستهل تسعينيات القرن الماضي، حصنتني من النوازع السياسية السيئة، ومكنتني من القدرة التلقائية على الامتناع عن إعمال الخلفية السياسية، بمناسبة تطوعي لمؤازرة ضحايا الاعتقال السياسي أو الاعتقال بسبب التعبير عن الرأي، وضحايا انتهاكات حقوق الإنسان عموما؛ فضلا عن كون المحاماة وجدت عبر التاريخ لضمان حقوق دفاع الجميع دونما تمييز لأي سبب كان، وهو ما انتظمت عليه طيلة تاريخي المهني. وقد آزرت فعلا معتقلين محسوبين على الإسلام السياسي بشتى تلاوينه وفصائله دون أدنى تردد أو حرج في ذلك، وبعض الزملاء المنتسبين لتلكم التيارات يعلمون ذلك، ومازلت مستعدا لتقديم نفس الخدمة الإنسانية إذا استدعى الواقع ذلك. كيف تزاوج بين منصب النقيب ورئيس فريق مستشاري الاتحاد الاشتراكي بالمجلس الجماعي؟ من المصادفات التاريخية التي أعتبرها مُضنية أنني انتُخبت على رأس لائحة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في الانتخابات الجماعية الأخيرة، وبعدها انتُخبت نقيبا لهيأة المحامين بتطوان. وحقيقة أقول إنه من الصعب المزاوجة بين تدبير الشأن العام بما يحمله في بلادنا من إكراهات مرتبطة بالعلاقة الملتبسة مع الناخبين، وبطبيعة الممارسة السياسية داخل المجلس الجماعي وما يحبل به من مسلكيات سيئة ومتعبة، استقرت لدى الناخب والمنتخب في بلادنا؛ وبين تدبير الشأن المهني لمهنة المحاماة وهي تحتضن نخب المجتمع وطليعته من جهة، ومن جهة ثانية في ظل وضع مهني مأزوم ماديا ورمزيا، فقدت فيه المحاماة بعضا من بريقها التاريخي، وفي زمن أضحت فيه المحاميات والمحامون يعانون على كل الواجهات القضائية بما تحمله من صعوبات ناتجة عن الوضع التأسيسي لاستقلال السلطة القضائية والنيابة العامة، والوضع الملتبس الانتقالي الذي صارت عليه المحاماة في ظل ذلك. وعلى الواجهة الاجتماعية، بالنظر إلى الصعوبات المالية والاجتماعية عموما التي أضحى عليها المحامون والمحاميات، لاسيما في الهيئات العاملة بالمدن الصغرى مثل تطوان، انعكس ذلك على مردودية المهنة بسبب طبيعة القضايا الرائجة أمام محاكم دائرتها القضائية، ما نضطر معه إلى صرف جزء كبير من مجهوداتها في تدبير جانب الاحتياط الاجتماعي للمحامين، على حساب بعضٍ من إشعاع المهنة وبعدها الحقوقي والإنساني. لهذا فإن المزاوجة بين الفعل التنظيمي المهني والفعل على واجهة المؤسسة التمثيلية الجماعية مرهق للغاية، وفي الغالب تميل الكفة لصالح المسؤولية المهنية باعتبارها الأصل؛ إذ عندما يتنازعني الحقلان أختار إراديا وبشكل تلقائي تخصيص جهدي لواجهة المحاماة على حساب الواجهة السياسية والتمثيلية. تدرجت داخل سلك المحاماة واليوم أنت تشغل منصب نقيب هيئة تطوان.. هل كنت تفكر في هذا المنصب يوما؟. التحقت بمهنة المحاماة سنة 1989، وأنا حامل في ذهني ووجداني أفكارا تقدمية وتطلعات إلى الحرية وانشغالات بحال البلاد، والاستعداد الدائم للمساهمة إلى جانب المناضلين في شتى الحقول والقطاعات في مسار الدمقرطة، بما يؤول إلى بناء دولة الحق والقانون، القائمة على احترام حقوق المواطنة والديمقراطية وسلطة المؤسسات الدستورية المنبثقة عن الإرادة الحرة للمغاربة واحترام حقوق الإنسان المغربي وحرياته، وكل ذلك لن يغني صاحبه إذا لم يُتبعه بفعل مادي ملموس، على مستوى الواقع، بممارسة نضالية يُصٌرِف من خلالها هاته القناعات بين جيرانه وأقرانه وزملائه، وهو ما يفرض الانتظام في الإطارات السياسية والحقوقية والمدنية الكفيلة وحدها بتحقيق كل ذلك. وهو ما قمت به فعلا، إذ انتظمت وتحملت المسؤولية الأولى في العديد من الجمعيات الثقافية والحقوقية، وشغلت منصب الرئيس لجمعية المحامين الشباب بتطوان، وبفرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بنفس المدينة. وأتذكر وقتها، كان رئيس فرع المنظمة المغربية لحقوق الإنسان بتطوان هو الأستاذ والصديق محمد بعبد القادر وزير العدل الحالي. ولا شك أن التدرج في تحمل هذه المسؤوليات الجمعوية يدفعك دائما إلى المراكمة في هذا الصدد، وتطوير أدائك وأهدافك وطموحاتك داخل المجال المهني الذي تشتغل فيه، وخصوصا إذا كان هذا المجال هو الأنسب من كل المهن لاستيعاب أفكارك وتداولها على أوسع نطاق..فتطمح تبعا لذلك وبالضرورة إلى تقلد المسؤولية في أجهزة مهنتك لنقل تصوراتك وأفكارك التي تمثلتها عنها من مجرد أفكار إلى واقع ملموس تعاينه في أداء المحاماة والمحامين، فحظيت بثقة زميلاتي وزملائي وانتخبت عضوا في مجلس هيئة المحامين بتطوان في الولاية التي تقلد فيها النقيب والصديق العزيز بوبكر بورمضان بين سنوات 2012-2014، وشغلت في تلك الفترة مدير مؤسسة عريقة في تاريخ المحاماة ببلادنا والعالم هي “ندوة التمرين”. وبعد انصرام تلك الولاية ترشحت لمنصب النقيب ولم أحظ بنفس الثقة، وعاودت الترشيح لهذه الولاية وانتخبت نقيبا لهيئة المحامين بتطوان، على أساس برنامج مهني وحقوقي نفذت منه إلى حدود اللحظة، وبفعل ممارسة جدية ومسؤولة شاركني فيها نقيبان عزيزان، النقيب محمد الإسكرمي المرابط والنقيب نور الدين الموسوي، وزميلاتي وزملائي الرائعون أعضاء مجلس الهيئة، ما يفوق 70% من مجموع مفاصل ذلكم البرنامج. وكجواب مباشر عن سؤالكم لن أفشيكم سرا أنني فعلا، ومن أجل تحقيق تلك الغايات، كنت دائما تواقا وطامحا إلى تولي منصب النقيب، اقتداء بنقباء كبار أجلهم، وكانوا يحملون نفس القناعات، منهم من قضى نحبه رحمة الله ومنهم من مازال قائما على أجهزة هذه المهنة النبيلة. تابعت الجدل الذي رافق مشروع القانون 22.20 الذي تقدمت به وزارة العدل التي يقودها حزبكم قبل أن تعمد إلى تأجيله. لو كنت في هذا المنصب هل كنت ستقدم مثل هذا القانون الذي يخنق حرية التعبير؟ طبعا تتبعت بانتظام وشمولية كل النقاش الذي أثاره مشروع القانون 20.22 وسطوته خلال أيام على الفضاء العام في البلد، وخصوصا على منصات التواصل الاجتماعي. وهنا وجب علي التنويه بالهبٌة الشعبية التي انطلقت على وجه كثيف من أجل التصدي له، بما أجبر الحكومة على تأجيل عرضه ليسلك مسطرة تشريعيه. وهذا النهوض الشعبي الملتئم بتلاحم كل مكونات وأطياف وتعبيرات الشعب المغربي، ضد سن قواعد قانونية مجافية للدستور ولتعهدات الدولة المغربية الدولية في مجال حقوق الإنسان والحريات، يجعلني مطمئنا كمواطن مغربي على مستقبل المغرب ومستقبل بناتنا وأبنائنا من شبابه، وأنشأ لدي يقينا بحصانة هذا البلد من أي رِدٌة حقوقية وبألاّ عودة إلى زمن خنق الحريات وكتم أنفاس المغاربة. لكنكم تنسبون، كما العديد من وسائل الإعلام والمواطنات والمواطنين هذا المشروع للسيد وزيل العدل القيادي في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والحال أن هذا فيه تجن كبير على الرجل وعلى الحزب على السواء، إذ لا يمكننا، ونحن نناقش هذا المستجد بهدوء، أن نسلم بكون المشروع يعود إلى السيد وزير العدل بمفرده، مهملين عن قصد أو غير قصد أحكام الدستور في هذا الصدد التي تحدد مسؤولية الوزراء وتحصرها في تنفيذ السياسة الحكومية كل في مجال اختصاصه وقطاعه، في إطار التضامن الحكومي، بما يعني أن هذا المشروع يندرج ضمن سياسة هذه الحكومة الرامية إلى وضع قيود على ولوج واستعمال منصات التواصل الاجتماعي، وأن وزارة العدل انحصر دورها في إعداد هذا النص القانون الذي يحقق الغاية الحكومية المذكورة. وما يؤكد هذا المنحى الدستوري هو مصادقة الحكومة في اجتماع مجلسها النظامي الأسبوعي على المشروع، والذي انعقد يوم 19 مارس الماضي، بانسجام مع الفصل 92 من نفس الدستور الذي حصر مواضيع مداولات مجلس الحكومة، ومن ضمنها مشاريع القوانين في ارتباطها بالسياسة العامة للدولة، وقضايا حقوق الإنسان. وبما يؤكد كذلك أن هذا المشروع المشؤوم هو إرادة حكومية وتنهض فيه مسؤولية الحكومة برمتها ولا تنحصر أبدا وبالقانون في مجرد فرد منها. لكن وللأسف وفي إخلال فاضح بأحكام الدستور وبمقتضيات القانون التنظيمي المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة، سرب أحدهم ثلاث مواد مجتزأة من نص المشروع المذكور، وبشكل متزامن تسريب ما سمي ملاحظات وزارة حقوق الإنسان حوله، ولا أستخلص من ذلك سوى محاولة سياسوية وانتخابوية بئيسة استهدفت وزير العدل، ومن خلاله الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ونحن على مشارف الاستحقاقات الانتخابية العامة المقبلة، لنسف كل المبادرات التنظيمية الرامية إلى لم شمل الاتحاديين في إطار مصالحة شاملة ولاستعداء الاتحاديين على بعضهم بهدف يائس لإضعاف حزبنا قبيل الانتخابات. ثم إن من قام بهذا الفعل السفيه افتقر إلى كل حس وطني، وهو يرمي بجمرة خبيثة في الفضاء العام من شأنها تقويض تلاحم الشعب المغربي مع مؤسساته على وجه منقطع النظير في مواجهة الوضع الوبائي الذي تمر منه البلاد، وفي وقت ازداد منسوب ثقة المواطنين في دولتهم، وهي تتصدى بروح وطنية وبمسؤولية عاليتين لهذه الجائحة. وعموما فإن موقف كل المناضلات والمناضلين الاتحاديين المعبر عنه علانية، وبشكل مكثف، عبر بيانات وتصريحات إعلامية متواترة صدرت عن القيادات والمناضلين على حد سواء، كان منحازا من الأصل إلى موقف الشعب المغربي، على نفس عهد الاتحاد عبر تاريخه، وهو موقف مبدئي وصريح ضد كل ما يجافي أحكام الدستور في شقها المتعلق بالحقوق والحريات المواطنين المغاربة، بما ينسجم مع مرجعية الاتحاد الحقوقية التي لم يغيرها أبدا ولن يتنازل عنها تحت أي مبرر أو ذريعة، سواء كان في موقع المسؤولية في تدبير الشأن العام أو كان في المعارضة. فما ساهم فيه هذا الاتحاد منذ نشأته إلى جانب الشعب المغربي وقواه الديمقراطية غداة الاستقلال مرورا بسنوات الجمر والرصاص إلى غاية تاريخه، وقدم من أجله شهداء ومعتقلين ومختطفين، لا يمكنه أن يعصف به الآن كما يسوٌق لذلك بعض المغرضين والمتأسلمين. وبهذه المناسبة اسمحوا لي أن أوجه تحية عالية لكافة المواطنات والمواطنين المغاربة الذين أبانوا عن درجة وعي كبيرة تجاه هذا المشروع المشؤوم. هناك مشروع قانون يتعلق بالتقاضي عن بعد.. كمحام ألا ترى أن وباء كورونا أظهر أننا تأخرنا كثيرا في رقمنة المحاكم والإدارة بشكل عام؟. تلقينا كهيئات للمحامين مشروع القانون عبر مراسلة صادرة عن وزير العدل، كما باقي مكونات منظومة العدالة بهدف إبداء رأي الجميع حول مقتضياته، قبل عرضها على مجلس حكومي، وهو المشروع الرامي إلى اعتماد الوسائط الإلكترونية في الإجراءات القضائية أمام المحاكم، وهو مشروع نوعي بالنظر إلى ما سيوفره على مرتفقي مرفق القضاء من متقاضين ومنتسبين للمهن القضائية من مشقة وجهد وهدر للوقت والزمن القضائي، إذ لا شك في أنه سيسرع في تدبير العملية القضائية إجرائيا، وبالتالي في صناعة المقرر القضائي. ويندرج القانون ضمن مشروع عام لوزارة العدل الهادف إلى رقمنة العدالة ببلادنا بكافة أبعادها ومكوناتها، وقد خطت بهذا الشأن خطوات تأسيسية مهمة؛ لكننا مع ذلك متأخرون فعلا عما وصلت إليه العديد من الدول في هذا الصدد، وقد تلمسنا الحاجة إلى رقمنة القضاء ونحن نعيش تحت سطوة هذا الوباء اللعين، إذ لو كنا استنفدنا تنزيله قبل الجائحة لما توقف المرفق القضائي وعلقت كل جلساته وإجراءاته… وفي هذا الشأن، أفيدكم بأن السادة نقباء هيئات المحامين بالمغرب تداولوا في اجتماعهم عن بعد يوم 03 أبريل 2020، واستحسنوا جل مضامين المشروع، لكنهم ارتأوا تعميق دراسته ودراسة سبل تنزيله على المتقاضين والمهنيين على حد سواء بالنظر إلى افتقار المحامين للاستعدادات الذاتية واللوجيستيكية الكفيلة بانخراطهم السريع في هذا البناء الرقمي الضخم. وهنا ألفت الانتباه إلى كون وزارة العدل قامت بمجهود كبير يرمي إلى تكوين القضاة وكتاب الضبط وتمكينهم من كل الأدوات اللوجيستيكية المساعدة في ذلك، واستثنت المحامين دون وجه حق وهم عصب العملية القضائية ومحركها؛ ولا يمكن تصور نجاح هذا المشروع دون تملكهم كل آليات الانخراط فيه. وإذا استثنينا بعض الأيام الدراسية التي نظمتها وزارة العدل مع بعض هيئات المحامين بالمغرب، فيمكنني القول إن مساهمة هذه الأخيرة في تحديث قطاع المحاماة كما حدثٌت القضاء وكتابة الضبط هي مساهمة فقيرة، وربما مرد ذلك إلى وجهة نظر كون المحاماة مهنة حرة ويجب أن تتولى هذا الأمر بإمكانياتها الذاتية، وهي وجهة نظر خاطئة تقفز على واقع كون المحاماة جزءا من مرفق القضاء ومكونا رئيسيا من مكوناته، ولا يتصور نجاح مشروع بهذا الحجم إذا لم تكن كل هذه المكونات على نفس مستوى التأهيل والتحديث. وطالب مكتب جمعية هيئات المحامين بالمغرب وزير العدل بموجب كتاب إرجاء عرض المشروع على مسطرة التشريع حتى يناقش داخل اللجنة المشتركة المشكلة من السادة النقباء والسادة مدراء وزارة العدل في إطار الشراكة القائمة بينهم، وتجويده، وقد استجاب الوزير مشكورا بنفس الحس الذي تعامل به دائما مع هيئات المحامين بالمغرب، وينتظر أن تلتئم اللجنة المذكورة في أقصر الآجال لتسريع إخراج هذا النص إلى الوجود للحاجة الملحة له، والتي كشفت عنها بوضوح هذه الفترة العصيبة.