يتميز مؤلف الأستاذ أحمد الدحراشي الذي يحمل عنوان “مشاهداتي من رحلتي إلى البيرو : 06 أبريل 2011-21 أبريل 2011 ” بالجمع بين التتبع و الإحاطة في التوصيف والمتعة والطرافة في النظم والسرد، كما أن الكاتب توسل لغة تمتح من غرابة متون الحكي وبلاغة مفرداته المسترسل وجمالية انتظام عباراته لا سيما و ان الدرحراشي رجل استلبه عالم الحكي والحكاية و السرد والرواية من خلال اعماله الرائدة في مجال مسرح الكاميشاباي. لقد ظل خطاب الرحالة المغاربة الذين توجهوا إلى الغرب منذ فترة السعديين واثقين من ثقافتهم المستندة إلى معطى حضاري زاخر حيث نجدها في نصوص أحمد بن قاسم الحجري الملقب بافوقاي على عهد الدولة السعدية ورحلة الوزير في افتكاك الأسير لمحمد بن عبد الوهاب الأندلسي الغساني على عهد المولى إسماعيل والإكسير في افتكاك الأسير لابن عثمان المكناسي على عهد السلطان المولى محمد بن عبد الله، نصوص بنفس متعالي مقدمة الآخر في صورة من تهتز فرائسه لمجرد سماعه كلمة المغرب أو سلطانه كما جاءت هذه النصوص أبية متعففة واثقة من نفسها أمام الآخر، فهي إذن نصوص تتكئ على سردية تاريخية بصورة محسوسة تتلقى العون من الإنجاز التاريخي الذي تضيف سرديته كثافة لنسيج الهوية والذات المدعمة بوابل من التمثلات و الاستيهامات النازعة إلى التفوقية والاستعلاء مطمئنة الى التقسيم التقليدي الديني للعالم بين دار الكفر كدار للحرب و دار الإسلام. ورغم ملاحظتهم بتفوق الغرب خلال هذه الفترة في بعض الأمور إلا أنه اعتبر تفوقا قطاعيا يهم بعض الجوانب التقنية كالميدان الصحي أو البريد وليس تفوقا حضاريا. وابتداء من رحلة الصفار إلى فرنسا على عهد مولاي عبد الرحمان بن هشام بعد الهزيمة العسكرية في إيسلي ثم في تطوان اختلط الموقف من الغرب واضطرب, فنزعت الرحلات إلى أسلوب قبل بمظاهر التحديث عند الآخر مع ميول إلى تبرير التخلف بصيغ تمجد التقليد كما هو الحال في رحلة إدريس العمراوي ” تحفة الملك العزيز بمملكة باريز” ونجدها بحدة أكبر في رحلة الطاهر الفاسي في رحلته المسماة ” الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية ” وفي الرحلة المسماة ” يوميات سفارة الحاج محمد بن سعيد إلى فرنسا” مما أسس لخطاب تشبعت به وبدرجات متفاوتة مختلف النخب المغربية التي ظلت إلى وقتنا الحاضر متجادبة قبول التحديث تحت مراقبة حثيثة من التقليد، وقد لعبت الفتاوي في هذه لمرحلة دورا رياديا في إيجاد مخارج الانتقال من الرفض الشامل إلى القبول بالتحديث القطاعي المقنن، لتنتقل الرحلة في مرحلة أخرى كما هو الحال في الرحلة المسماة “إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار ” لادريس اجعيدي و “الرحلة التتويجية إلى الديار الإنجليزية” للحسن بن محمد الغسال و”الرحلة الأوروبية” للحجوي، ومع محمد بن عبد السلام السايح في رحلته المسماة “أسبوع في باريس” إلى الدعوة صراحة للاقتداء بالغرب والمطالبة بالاندراج الشامل ضمن أفقه الحضاري والإنساني. إن هذه الصور الثلاث للآخر هي ما يتحكم إلى وقتنا الراهن ببنية التفكير المغربي وموقفه من الغرب فكيف تمثل الكاتب أحمد الدرحراشي المجتمع البيروفي الأميريكو لاتيني وماهي المداخل الثقافية التي من خلالها استطاع المؤلف أن يشاهد هذا المجتمع ويراقبه ويصيغه نصا رحليا. لكن علينا قبل أن نغوص في قراءة رحلة الدحراشي، أن ندلي بملاحظات أساسية فيما يخص المادة الرحلية لأحمد الدحراشي. فالواقع أن هذا الآخر في الرحلة مختلف عن آخر الرحالة المغاربة خلال التاريخ الحديث المغربي. فالآخر بالنسبة للرحالة المغاربة كان هو المجتمع الأوروبي، أما مع الدرحراشي فالآخر هنا هو المجتمع البيروفي ويجتمعان معا في الآخروية بالنسبة للكاتب في كونهما مجتمعان يستقيان نظرتهما إلى الحياة والكون والعالم من منظومة ابستيمولوجية معرفية وعقدية مختلفة ومغايرة. ثانيا، الرحالة الأوائل شاهدوا المجتمعات الأخرى وهم محكومون بهاجس سياسي بسبب الضغوطات الإمبريالية، في حين أن رحلة الدحراشي تمت في ظروف لا تستند لأية دواعي ضاغطة لذا جاءت تسميته لرحلته بالمشاهدات، وعملية المشاهدة هي عملية تنم عن مسافة بيّنة بين الذات وهواجسها والموضوع المطروح قيد الاختبار وبالتالي فمن خلال العنوان يعلن الكاتب أن ما سنجده في متنه الرحلي عبارة عن مقاربات تصويرية منفصلة عن أي حكم قيمي معرفي أو أخلاقي. فهل رحلة الدحراشي فعلا مشاهدات نقلت بشكل موضوعي صورة الآخر كما هو أم الرحلة تقرير خبري انضبط لقواعد الإنشاء كسلطة، باعتبار أن البيرو مجتمع غريب يستعصي على مشاهده لأول مرة من أعطاءنا فهما موضوعيا لثقافته ولمجتمعه -المتفرج عليه- حيث كانت تخضع المشاهد والتمثلات إما عن وعي وإما عن غير وعي لمكونات شخصية الكاتب ومتأثرة بظرفيات الرحلة ويطل علينا المشاهد ” السارد ، المؤلف” من خلال نافذة ثقافته وأناه مانحا المصداقية والسريانية لتقريراتهه في مجرى تطور السردية، باعتبار أن تشكيل موضوع سردي مهما كان غير عادي أو شاذا إنما هو فعل اجتماعي بامتياز وأنه بهذه الخصيصة يمتلك في داخله سلطة التاريخ والمجتمع ويستند إليهما. وهذه السلطة هي التي تمكن السارد من أن يرسي سرديته في ظروف قابلة للتمييز . ثالثا سلطة المتلقي باعتبار أن الكِتاب موجه لقارئ مفترض في ذهن الكاتب حاضر ضمن هواجس التأليف، ونعني هنا القارئ المغربي، ، ففي هذه الحالة فإن هذا الحضور يوجه طبعا كتابة السارد، مما يضطر معها الكاتب إلى تشوير الفضاء المشاهَد وترقيمه وإدغامه ضمن بنية فوقية ثقافية مستقرة لدى المتلقي. محاولا إشباع نهمه ومفترضا تساؤلات القارئ وكما قال ماركس في نقده لبرودون في كتابه “فلسفة البؤس” “الإنسانية لاتطرح إلا الأسئلة التي تستطيع الإجابة عنها” بالتالي فإن الأسئلة المفترضة حاضرة ضمن سياق ثقافي هو سياق الكاتب نفسه. ختاما : فالرحلة كيفما كان مستوى الكاتب لايمكن اعتبارها إنتاجا لعبقرية متوحدة ولا ينبغي أن تعاين بوصفها تجليات للإبداع غير المشروط فقط بل لها نمط من الحضور الاجتماعي المنظم بسبب تميزها كنمط سردي راكم لقرون عديدة. هذه المقدمة المنهجية ارتايناها ضرورية في مقاربة مشاهدات الدحراشي ومن خلالها كتابه السردي الرحلي عن رحلته إلى البيرو. وهي مقدمات منهجية لتناولي الخاص لكتاب “مشاهداتي من رحلتي إلى البيرو: 6 أبريل 2011-21 أبريل 2011″. قبل أن أنطلق في تحليل مضامين الرحلة لابد أن أشير إلى أن السرد الرحلاتي هو في كتاب الدحراشي حركة في فضاء فسيح يتجاوز حدود الذات الثقافية وقد أبان الدحراشي عن إمكانيات وقدرة تجسيد البنى القائمة تاريخيا في السياق المكاني والزماني كما أشرع ممكناته السردية على الممكن الذي يندرج ضمن ثقافتنا كالاستعمار والحضارة والهندسة والمدينة والتمثلات الثقافية المتنوعة وكذلك أيضا على الغريب والعجيب مقحما إمكاناته المعرفية والثقافية والسردية واللغوية باعتباره متمكنا من اللغة الإسبانية في مناطق معتمة، كحضارات الأنكا والاستتباعات المعرفية المتصلة بها مستندا إلى بنية سردية مفتوحة مستدعيا الواقعي وجغرافي والتاريخي والخيالي والسحري والأدب وبنية متعددة من المواقف والإحالات لكن ما يبهرنا في مشاهدات الدحراشي هو انطواء رحلته على إيمان عميق بامتيازه الفائق كمراقب متموضع جاهز لأن يتدخل في كل حين، لأن يضع لكل ثقافة حدودها ومحيطها الخاص، ونعرف منذ البداية أن الرحالة الدحراشي وإن كان يعترف بالمشترك الإنساني للثقافات ويتقبل اختلافاتها بل يحبذه إلا أنه يرفض رفضا باتا تفاعلها وتداخلها فهو مكتف بثقافته بالكثير من تعظيم الذات، فرواد المطعم رغم تطلعهم باستغراب للرجل الذي يأكل بيده اليمنى بحيث أنه كان الغريب الوحيد الذي يأكل بطريقة مختلفة عن الجالسين ورغم تنبيه غراسييلا للرجل مرشدة إياه إلى استعمال الشوكة والسكين إلا أنه رفض وليس للأمر علاقة بعدم قدرته على استعمالهما بل إن الكاتب كان مدركا لهذا الإحراج الذي وضع الجميع ضمنه رادا بهدوء على غراسييلا بصيغة ” لست متعودا في حياتي الأكل على هذه الطريقة ” كان ممكنا أن يكتفي الكاتب ب “لست متعودا الأكل على هذه الطريقة” لكنه أضاف في حياتي إمعانا في الرفض القاطع، فطريقة الأكل بالنسبة للكاتب ثقافة وهو غير مستعد لأي تنازل هنا رافعا منذ البداية شعار “نقبل بالاختلاف لكن لا نقبل بالتثاقف والتفاعل” كما أن الكاتب وعندما تساله مونيكا بلهجة مهذبة ” ترغب كوبا من القهوة أم كأس من النبيذ” فإنه يجيب ” أفضل كوبا من القهوة إذا كان الأمر لايزعجك” ونتساءل لماذا ستنزعج امراة من اختيار القهوة وهي من خيرت الكاتب فنجد أن استطراده، إذا كان الامر لايزعجك، هنا فقط للإحالة إلى أنه مختلف ويريد أن يشعرها بأنه مختلف، وهكذا فإن الدحراشي يضع نفسه في موضع استفزازي هجومي متوثب مع تعظيم للذات بمزيد من التدعيم لقوة الإقرار غير الممحص والمذهب غير القابل للتحدي لذا قال موضحا في رحلته ” فالأكل والشرب وطريقة التعامل معهما محكومة بثقافة اعتادت عليها الشعوب منذ أزمان بعيدة” ليخلص بشكل واثق إلى القول” ولذا فما على الإنسان إلا أن يثق بنفسه ولا يعتقد أنه يمارس الخطأ بمجرد أنه لا يفعل مثل غيره” إننا نرى في إقرارات الدحراشي التقاء بعيدا تماما عن أن يكون عرضيا بين أنساق السلطة السردية المشكلة لنص المشاهدات من جهة وتشخص عقائدي معقد يتبطن النزوع بزهو طاووسي بالذات حتى دون داع، لذا فالكاتب يحس بالزهو عندما تسأله غرازييلا وهي تستمع إلى شروحات عن الأبواب الأندلسية ليقول، لقد أشعرني السؤال ببعض الافتخار فقد اكتشفت غرازييلا وحدها أن جزء كبيرا من هذه الحضارة يخصني. علينا إذا أن نربط بين البيرو كما تم سرده بالرحلة والبيرو كما هو في الحقيقة، بيرو الدحراشي المسرود بالفكار والتصورات والتجارب التي يستمد منها الدعم و يطلع من مراجعات ضخمة للتاريخ الرسمي العالمي والتاريخ المعاد توضيبه باستمرار من طرف الشعوب الممانعة الهامشية، فنجد الدحراشي هنا قاضيا يقيم المواقف ويوزع صكوك التهم و البراءة يدمج تارة البيرو ضمن التاريخ العالمي حيث تبدو متفاعلة تفاعلا، ويبدو هذا المزج بين التاريخ الأصلاني والحديث، هذا المزيج الخارق يعكس ثراء البيرو، فيتحول سيمون بوليفار إلى بطل تحرير وباني البيرو الحديث مكافحا ضد الاستعمار الإسباني، وتارة يعيد السارد البيرو إلى نقائها الأصلي فتحضر عذابات شعب الأنكا والتقتيل الذي تعرض له على يد الغزاة والمستكشفين ويبرز هنا اسم بيزارو السفاح الذي قضى على حاكم شعب الأنكا أتاوالبا. ويحكم بإحكام قاسية على الإسبان فهو يقول ” لا مكان هنا للعاطفة لقراءة التاريخ فقد مضى بيزارو وقتا طويلا متنقلا بين شواطئ أمريكا الجنوبية المطلة على المحيط الهادي واحتلها بسرعة وبوحشية مستوليا على كميات هائلة من الذهب والفضة وغيرها من المعادن الثمينة لإمبراطورية الأنكا ” أنه يدين التاريخ الإسباني بالبيرو ويرفض اندراجه ضمنه وفي نفس الوقت لا يتوانى في القول أنه يجب إعادة الاعتبار للتاريخ والذي يشكل أحد معالم الهوية الوطنية في البيرو وغيره من دول أمريكا وذلك حين يرى مدى تاثير الحضارة الأندلسية في المعمار البيروفي فيقول أن الموريسكيين ساهموا بحضورهم الجسدي في تشكيل ثقافة وهوية سكان المنطقة وهنا يتناسى أن هذا التشكيل للهوية تم على حساب خراب هوية أصلية بيروفية فما نحصل عنه هنا هو بيرو يعيد تشكيلها الدحراشي وقد صيغت بشكل حتمي من خلال مخزون المأثورات المنقولة عن الكتابات المتنوعة التي يقدمها سجل ضخم من النصوص، والقول أنه يشاهد البيرو موضوعيا قول مضلل فما لدينا في الحصيلة النهائية هو بيرو مشبعة عقائديا لا مجرد انعكاس تصويري أدبي للبيرو. إن البيرو التي نعرف الآن هي مجتمع من الهجرات الاستيطانية المثبتة على بقايا حضور أصلاني كبير القدر ذو هوية متنوعة إلى درجة يستحيل معها أن تكون شيئا موحدا واحديا متجانسا وبالفعل فإن المعركة ظلت دائما تدور بين دعاة الواحدية ودعاة التعدد، وتنطوي هذه الضدية على منظورين متباينين أحدهما خطي والتهامي والآخر طباقي، وأنا لم أفهم مرجع هذا التحامل القاسي على الوجود الإسباني بالبيرو من طرف الدحراشي بل نحتاج إلى أن ندرك أن المشهد العالمي قد تشكل ضمن تداخلات وترافدات بين الجغرافيا والامتدادات المجالية المقسمة ضمن نفود كبرى استقر عليها السرد التاريخي الراهن.