يلاحظ المهتمّ بالأدبيات الرحلية أن هناك اهتماما متزايدا بكتابة الرحلة المعاصرة وتحقيق الكلاسيكية منها، هذا فضلا عن اهتمام الدراسة الأكاديمية بهذا النوع الأدبي وإنجاز الببليوغرافيات بصدده وتكوين حلقات للبحث هنا وهناك في مختلف أرجاء الوطن العربي؛ ولا شك أن هذا الاهتمام، بما يصاحبه من دراسات متأنية ومناقشات مثيرة يبرز مكانة الرحلة كنوع أدبي لا يهتمّ فقط باختصار النص في رصد طرق عيش هذا البلد أو ذاك، وأنماط سلوك أفراده وتنوّع تضاريس طبيعته الجغرافية، بل بوصفه نصّا حاملا لوعي بالعالم يختبر بالتجربة الذاتية ويغتني بها. الرحلة أدب. والأدب بدوره رحلة. بيد أن الكتابة في الرحلة تقاوم نمطية النوع الأدبي وتنميطه، لأنها لا ترتهن إلى الواقع والمحاكاة والتصوير والتقرير والتسجيل، بل تفتح سجلّها التعبيري على عوالم التخييل والإمكان وتلوينات المحتمل وإيحاءات الرمزية الثقافية. نجد هذا الاعتناء بالبعد الفني والجمالي في الكتابة حاضرا في رحلتي أحمد المديني إلى البرازيل ولبنان؛ يبرزه قلق مُعلن للكاتب بعدم اعتبار الرحلة تقريرا وصفيا وانطباعيا، وبالرغم من أنها وصف وسرد لمقاطع منتقاة، مفصلة أو مجزأة، فإنها ( بعد الكتابة طبعا) لم تعد رحلة سياحية، بل أضحت رحلة أفكار وأحاسيس وجراح وتأملات. يعترف أحمد المديني أن نصّه الرحلي ذو حبك قصصي ينظم هويته ويحدد نوعية بنائه الحدثي والسردي العام. والحبك القصصي بالنسبة للمديني إمكانية للكتابة، وهو بالنسبة للمتلقي إمكانية للقراءة. إن الأثر القصصي وحتى الروائي هو قيمة مضافة لإغناء الملمح الفني والأدبي لنصّ الرحلة، يخصب الذاكرة و يغني تجربة الأنا في مواجهتها لعالم وحياة يكتشفان للمرة الأولى. إن قراءة متأنية لنص الرحلة تبين أن المديني يمنح الاعتبار أثناء الكتابة، وفي المقام الأساس، للوصف الأدبي، بما هو إدراك رمزي وأليغوري للعالم، إنه « افتتان وخشوع أمام السحر في الصغيرة والكبيرة يتولاه صاحبه بأداة اللغة والصورة المضاعفة والذاكرة اللعوب، وهذه كلها مرايا خادعة، أو ليست حقيقية كوثيقة الجغرافي، ولا صورة الجغرافي ( ص ) «. من هذا المنظور، فإن الوصف في رحلتي أحمد المديني ليس مجرد صياغة أو أسلوب، إنه حمّال للمشاعر، من خلاله يكتب عن أشياء صغيرة، لكنه يكتب عن المُلحّ ... بحيث تصبح الكتابة أرحب من العالم ومن فضاءات الحياة. الرحلة سفر. والسفر تحقيق للتوقعات والأحلام. هو رغبة لمعرفة الآخر، لكنه رغم ذلك رغبة لاكتشاف الذات. إنه مناسبة لتقييم القدرة على اكتشاف العالم . من أجل هذا تصوغ كل رحلة محكيا للسفر يستثمر العديد من الأشكال التعبيرية الموجودة سلفا كأشكال مستقلة أو ملحقة بأنواع أدبية خاصة باليوميات، والرسائل والسرود الروائية مثلا. يتأطر محكي السفر،إذن، بوصفه انتقالا بين جغرافيات متنوعة باستدعاء تواريخ للأفكار وذهنيات تقع في ملتقى ما هو اثنولوجي وأنثروبولوجي وسوسيولوجي. من هذا المنظور العام، تشكل الصورة عنصرا محوريا في محكي السفر، خاصة صورة الآخر لأنها تسمح بالكتابة، وبالتفكير،وبالحلم بطريقة مغايرة. تبقى الكتابة أساس الصورة حدّها، من جهة أولى المعرفة، ومن جهة ثانية السيرة الذاتية. ولذلك، فإن محكي السفر يحيا من التداخل بين هذين الحدّين ؛ كما أن «الأجناس الأدبية ليست كائنات مستقلة بذاتها: إنها تشكل في فترة معينة،نوعا من السنن الضمني عبره،وسببه،يمكن لمؤلفات الماضي والمؤلفات الجديدة أن تنتقل وتصنّف من قبل القراء «. هذا ما انتبهت إليه نظرية الأدب والنوع الأدبي عن صلة التعبير بالتجربة وما يشرطها من موضوعات وأفكار هي ما يمكن الاحتكام إليه لتحديد خصوصية الكتابة ومقوماتها الفنية. محكي السفر في نصّ أحمد المديني رحلتان: أيام برازيلية أو نزهة في « حديقة الله «؛ وأيام لبنانية ( من يباب ). وللمحكي ملحق هو: نص الهائم على وجهه: الطريق إلى مادبا. يظل المحكي، بهذا البناء وتلك الأيام، مستحضرا لمآزق كتابة الرحلة ... « ليس أقلّها أنها تأتي بعد حين فلا تُدوّن بالضرورة ما عشته في الزان والمكان،وإنما بقاياه وأصداؤه ... ومن ثمّ فإن كل رحلة، كل كتابة سفر هي سرد محتمل، راويه أو سارده ليس ثقة بالضرورة، ونحن المتلقين عامة،قراءة أو سماعا نمحضه ثقتنا، بل ونريد كلما شطّ به الخيال لأن ذلك يعجبنا،لأنه ينقل المشاهدات والمرويّ من صعيد الواقع والمبتذل،الذي نعيش فيه،ونودّ الانفلات منه ولو في زمن الرواية، نحو المدهش أو الاستثنائي ( ص 27 ) « . لا تكون الرحلة رحلة إلا بامتلاك تصوّر للكتابة يخرجها من دائرة التقرير والتقيد بحرفية الأحداث وتوقيتها الزمني، ويُلحقها بما يفترض أن يكون نصا صادرا عن علاقة الكاتب بالعالم، وهذا ما يعبّر عنه أحمد المديني «بمتعة كتابة الرحلة» و « ضرورتها» لأنهما تكمنان في العثور بالضبط على المألوف الذي يصبح بليغا ( ص 27 ) « . وللمألوف في الرحلة المدينية عدة أوجه تتصل باليومي والعابر والمقلق والمدهش والمرئي والمسموع والمقروء. ويكشف التدوين الإخباري للرحلتين معا عن ملمحين متكاملين ينظمان مجمل اللوحات واللحظات: - تحوّل صوت المؤلف في الرحلة البرازيلية واللبنانية إلى سارد- رائي يلتقط التفاصيل والجزئيات، فالأسبقية عنده لما رأته العين أولا، لا لما تقوله اللغة. - هيمنة التأمل والوصف التفصيلي على لغة الرحلة بوصفهما ممكنات لفتح الكلمة والعبارة والأسلوب على مدارات التخييل والترميز. من هنا، يطبع هذا الذهاب والإياب بين صوتي المؤلف والسارد ? الرائي، وهيمنة الوصف الأدبي في الرحلتين معا محكي السفر بكتابة تقاوم رتابة اليومي والتاريخي، وهي إن اكتشفت أسرار العالم والتباس الهويات أو اقتفاء الأثر، فإنها تقيم في عالم مزدحم بالأحداث والهزات والمتع. ومحكي السفر لا يكون مقنعا وممتعا ومفيدا إلا إذا توسل التنويع في السرد، وتضمين الكتابة رؤية المؤلف لما يجري ويدور من حوله من أحداث. للسفر حكمة، قد يعلنها الرحالة في بداية الرحلة وقد يجعلها متخللة في النص. حكمة المديني ذات ملمح فلسفي. حكمة المسافر هنا مفادها أن كلّ: « سفر في الحيرة هو تيه وهروب أكثر منه خبرة، وأي عالم هذا الذي لا يهديك إلى مجاهل نفسك إنما تكذّس حجر بلا روح ولا عبير ( ص 24 ) «. سيتبيّن لقراءة رحلتي أحمد المديني أنهما ليستا مجرد نصين مستقلين بذاتهما ومشتملتين على تجربة في السفر جديرة بالقراءة والتعريف بها، إنهما فضلا عن ذلك تجربة في الكتابة هي امتداد للتجربة الأولى بتضمينهما لعوالم وقائعية ، وهي أيضا كتابة أدبية يحتفل سردها بما بقي عالقا في النفس والوجدان من أحداث ومشاهدات ولقاءات وأزمنة وأمكنة يدرك مغزاها الكاتب- المسافر عبر هذه الحكمة : « والسفر من معانيه عندي انتقال بالمرء إلى أعلى، كلما تعرّف على جديد ارتقى وسما فكرا ووجدانا وخلقا،أو لا يكون ( ص 26 ) « . هي كتابة تقود،إذن، إلى الارتقاء والسّموّ؛ ذلك إشراقها وبهاؤها، وسعيها الدائم للقبض على الجزئي بجعله قابلا للعيش مجددا وعبر ديمومة تبني أحداثا وتشيّد صورا تستكشف ممكنات الوجود والإنسان من حيث هما وضع ملهم وصادر عن « حياة مع شعوب العالم وتتمّ دائما في درجة الغليان ( ص 38 ) « . صحيح أن الكتابة في الرحلة ( في كلّ رحلة، ربما ) هي ندّ للحقيقة، بيد أنها لدى أحمد المديني جوّابة لأفق الراهن والتليد في آن ؛ وتوحّد للتجربة الذاتية مع حاضر لحظتها ومعيشها وأحلامها ورؤاها. « فالأنا مُركبة،مزدوجة ... واقع وخيال،حلم ومنال ... ( ص 65 ) « . الإقامة في الما بين تستدرج الأنا في النص/ الرحلة عند المديني على دائرة النص / الشهادة باعتباره تغريبة جديدة لقلق وجودي يتوزع التواريخ والأوطان وسير الناس العاديين ممن اختاروا السير في الممرات الظليلة؛ تغريبة جديدة من الألوان والأشكال والأصوات تجسّد وعي الأنا وهويتها عبر العاطفة والإخفاق والتعبير والذوق والهزيمة والبراءة والقدرية والدعابة والعنف والانزواء والدمار والتأمل الصوفي ... هكذا تتحرك الأنا في رحلتي المديني ضمن فضاء شاسع الأبعاد متناسل الدلالات، وهي تأخذ معناها البطولي من وعي اللحظة مقرونا بالرغبة في الارتياد والكشف ، وتملّك رؤية للعالم لا يمكن أن تبلغها الأنا إلا بإتقانها لمهارات الحكي وألاعيبه، وصفاء الفكرة وبراعتها . أجل، تحكي الأنا رحلتها عفو الخاطر بمتعة وفائدة ... وهذا وحده يكفي لكتابة نص أدبي بديع وأخّاذ ... ملاحظة استعنت في تحرير الفقرات السالفة من المراجع التالية : Lejeune Philippe : Le pacte autobiographique,Seuil,1975 Odile Garnnier :La littérature de voyage,Ellipse,200Pageaux Daniel-Henri : ( De l?imagerie culturelle à l?imaginaire) in Précis de littérature comparée, (Dir) :Brunel,P & Chevrel,Y,PUF,1989: Todorov,T : Les morales de l?histoire,Grasset,1991 Chupeau , Jacques, » Les récits de voyage aux lisières du roman «, Revue d?histoire littéraire de la France vol. LXXVII, n? 3-4 (1977), Hofmann, Catherine, Le globe et son image, Paris, Bibliothèque nationale de France, 1995 Wolfzettel, Friedrich, Le discours du voyageur, Paris, Presses universitaires de France, 1996 أحمد المديني : أيام برازيلية وأخرى من يباب ، المركز الثقافي العربي 2008