لسنوات عديدة كانت الصحافية والناشطة الحقوقية الإسبانية، هيلينا مالينو، من أبرز الوجوه الدافعة على حقوق المهاجرين في إسبانيا، وفي مقدمتهم القادمون من إفريقيا جنوب الصحراء ومن المغرب، وربما لم تكن تتوقع أن تكتوي يوما بنيران من دافعت عنهم، إلى أن وجدت نفسها مطالبة بالمثول أمام النيابة العامة المغربية بتهمة “تهريب البشر”، التي وجهتها لها السلطات القضائية في بلدها الأصلي، والتي اعتبرتها منظمات حقوقية دولية أنها “محاولة لإخراسها” بسبب الإحراج الكبير التي تسببه لبلدها كلما رصدت مجموعة من المهاجرين غير النظاميين وهم يواجهون الموت في عرض البحر. التهمة والاستدعاء وجدت هيلينا مالينو غارثون نفسها فجأة أمام تهمة ثقيلة أعدتها السلطات القضائية الإسبانية، وتتعلق بالتورط في عمليات الاتجار بالبشر عن طريق “خداع” السلطات البحرية، حيث اعتبرت أن اتصالها المتكرر بهذه الأخيرة لإخبارها بوجود قوارب تحمل مهاجرين بالمياه الدولية لمضيق جبل طارق، تنطوي على شبهة “تسهيل مهمة المهجِّرين السريين”. ولجأت إسبانيا إلى المغرب في إطار تعاون قضائي لتطلب منه الاستماع إلى الناشطة الإسبانية بحكم أنها مقيمة بمدينة طنجة منذ أزيد من 16 عاما، وهو الأمر الذي استجابت له النيابة العامة المغربية التي استدعت مالينو للاستماع لها، وكان من المفترض أن تتم الجلسة يوم الثلاثاء الماضي، لكن وبطلب من الدفاع، تم تأجيلها إلى يوم 27 دجنبر الجاري. ماذا فعلت مالينو؟ وفق ما علمته “المساء” من مصادر حقوقية مغربية ومن وسائل إعلام إسبانية، فإن هيلينا مالينو نذرت حياتها منذ 17 عاما لمساعدة المهاجرين القادمين إلى إسبانيا من مختلف الجنسيات، بما فيهم المغاربة والمنتمون لدول إفريقيا جنوب الصحراء، حيث أسست منظمات مدنية مهمتها الأساسية رصد أي خرق أو خطر يتهددهم. وتسبب العمل المكثف لمالينو، وشبكة علاقاتها الإعلامية والحقوقية الواسعة في حرج كبير لإسبانيا التي لا ترغب في استقبال المهاجرين غير النظاميين، لكن مشكلتها الكبرى مع الناشطة الحقوقية كانت هي إصرارها على إخبار السلطات الإسبانية بوجود قوارب الهجرة السرية بعرض البحر باستمرار، ما يجبر الإسبان على التدخل ونقل المهاجرين إلى ترابهم، احتراما لتعهداتهم الدولية والأوروبية فيما يتعلق بالهجرة وحقوق الإنسان. وبالنسبة للسلطات الإسبانية فإن إبلاغها بشكل موثق عن وجود قوارب المهاجرين القادمين من شمال المغرب في عرض البحر يعني أنها صارت مجبرة على نقل المهاجرين إلى ترابها ويلغي مسؤولية الجانب المغربي، مع ما يحمله ذلك من عبئ إضافي على اقتصادها، ومع إصرار مالينو على ما تقوم به قام القضاء الإسباني بإعداد تهمة لها استقاها من نفس الكأس الذي أذاقت منه هي سلطات بلادها الكثير من المتاعب. واعتبر القضاء الإسباني أن اتصالات مالينو المتكررة بمصالح الإنقاذ الإسبانية دون غيرها، ينطوي على شبهة تقديم المساعدة لشبكات تهريب البشر، مشتبها في أن عملها الإنساني ليس في الحقيقة سوى غطاء لإنجاح عمليات الهجرة السرية، لتفتح الاجهزة الأمنية تحقيقا في الموضوع انتهى بضرورة استنطاق الناشطة الحقوقية وهي المهمة التي أوكلت إلى النيابة العامة المغربية بحكم أن “المشتبه فيها” تعيش بطنجة. من هي هيلينا مالينو؟
ولدت هيلينا مالينو غارثون في بلدة إليخيدو بمقاطعة ألميريا الأندلسية سنة 1970، ومن يعرف جيدا “إليخيدو” يربط مباشرة بينها وبين قضايا الهجرة، فهذه المنطقة رغم قلة عدد سكانها إلا أنها معروفة باستقبال المهاجرين وكانت مسرحا لإحدى أشهر مآسي المهاجرين المغاربة، ما يعني أن ارتباط مالينو بقضايا هذه الفئة أمر بديهي، خاصة في ظل احترافها للعملين الحقوقي والإعلامي. انتماء هيلينا إلى عائلة ذات مستوى مادي متواضع جعلها أقرب إلى قضية المهاجرين بمن فيهم غير القانونيين، فابتداء من سنة 2000 بدأت نشاطها في مجال منح الرعاية لهم من بوابة العمل النقابي والجمعوي، قبل أن تنتقل سنة 2001 إلى المغرب رفقة ابنها لتؤسس لشراكات مع نشطاء وهيئات مدنية مغربية ودولية، في مقدمتها الهيأة اليسوعية لمساعدة اللاجئين التابعة للفاتيكان ومنظمة “أوكسفام”، وخلال الفترة ما بين 2007 و2009 عملت كمندوبة للجنة الإسبانية لمساعدة اللاجئين بالمغرب، قبل أن تصبح مستشارة أُممية حول قضايا التضامن الدولي بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. اشتغلت هيلينا مالينو على قضايا المهاجرين في الإعلام عبر إنتاجات مرئية رفقة قنوات دولية مثل “البي بي سي” البريطانية و “سي إن إن الأمريكية”، وأيضا عبر إجراء أبحاث ميدانية في عدة دول عبر العالم من بينها المغرب وإسبانيا. وكان لمالينو الفضل في إنقاذ مئات المهاجرين السريين في عرض البحر من موت محقق، كما ساهمت في فضل ممارسات غير قانونية تقوم بها السلطات الإسبانية والتي تنطوي على انتهاك للمعاهدات الدولية والأوروبية، ومن بينها قضايا ترحيل المهاجرين القاصرين المغاربة والأفارقة، وهو الأمر الذي مكنها من حصد عدة جوائز مخصصة لنشطاء حقوق الإنسان وحقوق المهاجرين، لكنه أيضا فتح عليها باب المواجهة مع العنصريين من جهة ومع سلطات بلادها من جهة أخرى. وجع رأس بعدما ضربت الأزمة الاقتصادية بقوة إسبانيا انطلاقا من 2008، أصبحت الهجرة السرية عبئا ثقيلا يستحسن التخلص منه، لذا فإن مالينو وغيرها من النشطاء الحقوقيين أصبحوا يشكلون وجع رأس كبير للسلطات. صارت مالينو تشتغل على مواضيع تشكل حرجا كبيرا للسلطات الإسبانية، فقد أنجزت وثائقيا عن المعاملة الوحشية لشرطة الحدود الإسبانية مع عاملات التهريب المعيشي المغربيات في معبر “تارخال” الحدودي بسبتة، ثم صارت تركز على مسؤولية السلطات البحرية الإسبانية في إنقاذ المهاجرين السريين، لتقوم برصد الزوارق التائهة وسط المتوسط، ثم تطالب السلطات بالتدخل لإنقاذ المهاجرين الموجودين على متنها وأغلبهم من دول إفريقيا جنوب الصحراء. ولم تتوقف ضريبة ذلك عند تحذيرات السلطات الإسبانية لها، بل أيضا صارت تستقبل تهديدات خطيرة، وفق ما أكدته هي للإعلام الإسباني، فقد سبق أن توصلت برسالة تحمل صورة مسدس وتخيرها بين “الصمت أو الموت”، بل إن متطرفين دشنوا حملة تدعو ل”اغتصابها”. ومع تكرار التهديدات والاعتداءات التي تعرضت لها هيلينا مالينو، بدأت عدة منظمات تعلن عن مؤازرتها وتطالب بحمايتها، وصل عددها إلى نحو 500 منظمة، من أبرزها منظمة العفو الدولية والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب والاتحاد الدولي لحقوق الإنسان، بل إن مجموعة من المنظمات الحقوقية اعتبرت أن متابعتها الأخيرة من طرف سلطات بلادها واستدعاءها من طرف النيابة العامة المغربية، تدخل أيضا في إطار التضييق عليها، وهو الموقف الذي عبرت عنه الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان التي أطلقت حملة للدفاع عنها. هيلينا والمغرب المُطلع على سيرة هيلينا مالينو يعلم جيدا أن حضور المغرب والمغاربة في مسار هذه السيدة الأربعينة دائم ومتواصل حتى صار قدرا منذ أولى خطواتها، ففاتحة عملها الحقوقي كانت بمساعدة المهاجرين المغاربة بمسقط رأسها إليخيدو في فبراير سنة 2000، ومن يتذكر ما حدث في هذا التاريخ، يعلم جيدا حجم المغامرة التي أقدمت عليها مالينو. ففي السادس من فبراير من سنة 2000 قام مغربي مختل عقليا بقتل سيدة إسبانية بتلك البلدة الصغيرة، ما حرك العديد من العنصريين الإسبان الراغبين في إفراغ بلدتهم من المهاجرين ليهيجوا السكان، فقام المئات بالتسلح بالهراوات والسلاسل مترصدين المغاربة، وسرقة ممتلكاتهم وتخريبها… في هذا الوقت، برزت هيلينا رفقة بعض النشطاء الحقوقيين الآخرين، الذين مدوا يد العون للمغاربة، ما أعطاها سمعة طيبة في أوساط الجالية المغربية، لكنه صورها في أذهان العنصريين ك”خائنة”. ولأن انتماءها الأول كان إلى جمعية حقوقية ذات فلسفة خاصة يشير إليها اسمها “المشي على الحدود” والتي تؤمن بالتنقل بين حدود الدول لمساعدة المهاجرين، اختارت هيلينا سنة 2011 الانتقال إلى نقطة حدودية ساخنة في الضفة المقابلة ويتعلق الأمر بمدينة طنجة، التي اشتغلت بها طويلا على مختلف قضايا الهجرة، واهتمت بشكل خاص بوضع المهاجرين غير النظاميين الأفارقة الذين يعبرون نحن إسبانيا برا، وحفظت عن ظهر قلب أرقام “الإنقاذ البحري” الإسبانية لتمنع وقوع العديد من الكوارث، التي حملت سلطات بلادها مسؤولية الحيلولة دونها، ما تسبب لها في الصدام معها. لكن صدام مالينو لم يقتصر فقط على سلطات بلدها، بل أيضا مع السلطات المغربية، ففي 2014، وعند توثيقها للمواجهات العنيفة التي دارت بحي بوخالف بين مواطنين مغاربة ومهاجرين أفارقة من جنوب الصحراء، ذكرت أنها تعرضت للتعنيف من طرف عناصر الأمن، كما اعتدى عليها بعض السكان لفظيا ونعتوها ب”العاهرة” وطالبوها بالرجوع إلى بلدها. وكما أن المغرب كان حاضرا وهي تمد يدها لأول مرة للمهاجرين، حضر أيضا في آخر فصول معاناتها، حين تم استدعاؤها من طرف الشرطة المغربية يوم 29 نونبر 2017، بأمر من النيابة العامة، للمثول أمامها بتهمة “تهريب البشر”.