يأتي لقاء خبراء العدل في ظرفية جد دقيقة يتجه فيها المجتمع إلى إصلاح المنظومة القضائية ببلادنا، فالظرفية هي منعطف حاسم وتحدي كبير سيؤسس لمرحلة جديدة، حيث الفعل القضائي سيكتسي معالم مغايرة لما هو عليه واقع الحال حاليا.
وحتى لا يبقى هذا المشروع يراوح مكانه، يعرف حاليا الحقل القضائي المغربي إسهامات متعددة لبلورة وإنجاح هذا المبتغى الذي تصبو إليه جميع مكونات البنية المجتمعية ببلادنا عاهلا وحكومة وشعبا.
وفي هذا الإطار، وإسهاما من المجلس الوطني لخبراء العدل في هذا المشروع، نظم هذا الأخير يوم 14 شتنبر الجاري على الساعة الثالثة بعد الزوال بقاعة غرفة التجارة والصناعة والخدمات بالرباط مائدة مستديرة تحت شعار "الخبرة القضائية واقع وآفاق".
تنظيم هذا اللقاء يروم رصد مكامن القوة ونقائص بعض القوانين المؤطرة لمهنة خبراء العدل، واستشراف آفاق مستقبلها، وكذا الإصلاحات والمقترحات الواجب بلورتها وتبنيها لتتماشى مع مشروع إصلاح المنظومة القضائية.
فإذا كانت فرنسا أحد أعرق الديمقراطيات في العالم تعتبر الخبير القضائي عين القاضي في إحقاق الحق وإنصاف المتقاضين فما هو واقع الحال ببلادنا خصوصا ونحن في ظرفية تملي علينا أن نمسك بقوة بتدابير القوانين وأن نبادر إلى إصلاح منظومة العدل كخيار استراتيجي.
لبسط هذا السؤال كانت الإجابة عليه هي المستهل لهذا اللقاء في عرض تقدم به رئيس المجلس الوطني لخبراء العدل الدكتور إدريس رواح الذي قام بتشخيص لواقع الحال وللحالة الصحية للخبراء القضائيين بالمملكة الذي يُتوخى منهم إنجاز التقارير بكل موضوعية ونزاهة ويُتوخى منهم أيضا توفير الإمكانيات اللوجستيكية التقنية وشروط الحياة الاجتماعية. فشروط الاستقلالية والحصانة ليس إلا حلما ومطلبا ولكن ليس واقعا في غياب أي شروط تتحقق.
فالقراءة النقدية في قانون الخبرة من لدن رئيس المجلس الوطني لخبراء العدل الدكتور إدريس رواح اتجه نحو الكشف عن مطالبهم قصد أخذها بعين الاعتبار في إطار مشروع إصلاح المنظومة القضائية.
فالخبير القضائي كيفما كانت تسميته مساعدا للقضاء كما جاءت به المادة 1 من الباب الأول للقانون رقم 45.00 المنظم لمهنة الخبراء القضائيين أو معاونا للقضاء كما يقول عامة الناس أو متعاون ظرفي "collaborateur occasionnel" كما يشير له القضاء الفرنسي، فهو بحكم عمله جزء لا يتجزأ من القضاء وأسرة العدالة ويساهم بشكل فعال في صنع القرار القضائي الذي يجب أن يتسم بالإنصاف والعدل والصواب والحق والدقة، كما ينبغي وبالتالي يجب على الخبير القضائي ألا يبقى على حافة طريق إصلاح المنظومة القضائية ونحن مطالبون بتحسين ظروف عمله من أجل الرفع من جودة عطائه. فليس هناك إصلاح فعال للمنظومة القضائية دون إصلاح حال هذه الفئة من مكونات العدالة.
وفيما يخص المعايير المطلوبة للتسجيل في لوائح الخبراء والذي جاء بها نص تنظيمي حدد من خلاله مقاييس التأهيل لكل نوع من أنواع الخبرة فقد أشار الدكتور إدريس رواح رئيس المجلس بأنها موضوعية وتفوق في بعض شعب الخبرة المقاييس المعمول بها لدى القضاء الفرنسي أو المصري. وأضاف أن توفر هذه المعايير وإن كان ضروريا فإنه غير كاف للممارسة على اعتبار أنه إذا كانت المقاييس التقنية مهمة فالإلمام بالنصوص المتعلقة بالخبرة تبقى ضرورية. كما أن الجانب الشخصي لا يقل أهمية، فالخبير المرشح يجب أن تكون له شخصية قوية تمكنه من امتصاص غضب الأطراف وأن تكون له دراية في تسيير الاجتماعات وفي فرض وجوده.
كما نص السيد رئيس المجلس في مداخلته على دور وزارة العدل والحريات الذي يقتصر فقط على مراقبة مسطرة التسجيل في اللوائح دون الاهتمام بالحياة المهنية للخبراء واستدل في ذلك بالمادة 20 والمادة 21 من القانون رقم 45.00 المنظم لمهنة الخبراء القضائيين المتعلقان على التوالي بالتكوين وإجبارية التكوين وانتهى بالقول أن وزارة العدل لم يسبق لها، منذ دخول القانون حيز التنفيذ، أن نظمت ولو حلقة تكوينية واحدة للخبراء القضائيين وهذا الوضع ينعكس سلبا على جودة أداء الخبراء.
بعد ذلك تطرق الدكتور إدريس رواح رئيس المجلس الوطني لخبراء العدل إلى حقوق وواجبات الخبراء الذي جاء بها الباب الثالث من القانون رقم 45.00 المنظم لمهنة الخبراء القضائيين في مادته 18 إلى 27 وخلص أن الواجبات لها حيز وافر في القانون بينما الحقوق تم غيابها غيابا كليا.
أما مراقبة الخبراء القضائيين فينفرد بها السيد الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف والوكيل العام بها حيث يمارسونها دون إشراك تمثيلية الخبراء التي ليس لها أي دور وكذلك الشأن بالنسبة للتأديب الذي تنفرد به اللجنة الوزارية المكلفة بوضع جداول الخبراء التي تقوم غالبا بالمصادقة على تقارير النيابة العامة.
وبخصوص المقتضيات الزجرية التي جاء بها القانون 45.00 المنظم لمهنة الخبراء القضائيين فإن المادة 42 و43 لا تسايران واقع الممارسة كون الفقرة الثانية من المادة 2 لنفس القانون تنص على التالي "يمكن للمحاكم أن تستعين بآراء الخبراء القضائيين على سبيل الاستئناس دون أن تكون ملزمة لها". فإذا ما لمست المحكمة شيئا من قبيل ما جاءت به المادتان يمكنها إرجاع المأمورية أو استدعاء الخبير عملا بالفصل 64 من قانون المسطرة المدنية أو اللجوء إلى الخبرات المضادة في حالة نقص او غموض عملا بالفصل 66 من قانون المسطرة المدنية وإحالة الخبير على مسطرة التأديب بعد أخد رأي ممثلي الخبراء كون "أهل مكة أدرى بشعابها".
وفي الأخير يجب تفعيل المادة 45 المتعلقة بحصانة الخبير وتكريسها بقواعد تشريعية واضحة نظرا لما يتعرض له الخبير من إهانات نصل حد السب والشتم والرشق بالحجارة خاصة بالنسبة لزملائنا الذين يمارسون مهام التنفيذ أو مهام "السنديك" في مساطر صعوبة المقاولات. فحصانة الخبير حصانة لحق المتقاضي في الدفاع عن حقه أمام القضاء والقوانين الجاري بها حاليا غير كافية لتمثيل وتفعيل هذه الحصانة.
مما لا شك فيه فالقانون رقم 45.00 المنظم لمهنة الخبراء القضائيين جاء مجحفا في حق الخبير وأثقله بوابل من الواجبات مختزلا الحقوق إلى درجة الانعدام. وللتذكير فإن جل قوانين المملكة مقتبسة عن القوانين الفرنسية والملاحظ أن عدد فصول قوانيننا تكون ناقصة عددا مقارنة مع القوانين الأصلية إلا بخصوص قانون الخبرة المغربي الذي يفوق قانون الخبرة الفرنسي بخمسة مواد فما بالك بالممارسة. وللوقوف على ذلك تقدم الدكتور إدريس رواح رئيس المجلس الوطني لخبراء العدل بنموذج عملي حول علاقة الخبير الفرنسي مع المحكمة والأطراف منذ انتدابه إلى استخلاص أتعابه الإضافية واتضح للجميع أن المفارقة جد كبيرة إلى حد انعدام المقارنة.
حقوق ومعيقات وهوامش جد ضيقة ذلك هو الواقع الذي تم رصده خلال هذه الندوة. إلا أن رصد الواقع ليس هو المبتغى الوحيد والخيار بل بمعية المشاركين في هذه الندوة استشرفت آفاق الغد والمستقبل لهذه الفئة في ظل أرضية الجميع يصبوا فيها إلى التقيّد بمنظومة العدل حيث هوامش الاشتغال بها تضمن كفاية من الحقوق حتى لا تكون الواجبات سيف ديموقليس على من يفترض أن تكون له أدوات عمل تضمن له الحصانة والاستقلالية.
هذه الآفاق تطلع إليها المشاركون من خلال اقتراحات وتوصيات ومن خلال فتح نقاش مستفيض وغني أدى إلى رصد مكامن القوة والضعف. وقد طبعت أشغال هذه الندوة نبرة الحصانة التشريعية من خلال مناقشة المادة رقم 1 من القانون رقم 45.00 المنظم لمهنة الخبراء التي تعرفهم كمساعدين للقضاء مع العلم أنهم يشاركون القاضي في صنع القرار، وتم عرض مجموعة من التوصيات أهمها الحسم النهائي في صفة الخبير (نشاط أم مهنة)، إعادة النظر في القانون رقم 45.00 المنظم للمهنة وذلك بخلق هيئة لخبراء العدل على غرار الهيئات المهنية القضائية الأخرى (العدول، المفوضين، الموثقين...)، خلق مؤسسة قاضي الخبرة لدى كل محكمة، وضع مدونة لأخلاقيات المهنة ودليل عملي، وضع قاعدة للمعطيات التقنية حسب شعب الخبرة قصد استغلالها من طرف الخبراء، مراجعة النظام الضريبي للخبراء مراعاة لخصوصيات المهنة، توفير حماية اجتماعية بإجبارية التأمين المهني، تمكين الخبراء من جزء من الميزانية المخصصة للمساعدة القضائية على غرار السادة المحامون، توفير أرضية لنظام التقاعد والتأمين الصحي، الاهتمام بكل ما له علاقة بالجانب الاقتصادي والاجتماعي للخبير، ..
فهناك عدة نواقص تنتاب قانون الخبرة مما يجب تحديث الترسانة المهنية ووضع قانون طموح ومتطابق لواقع الحال يساير متطلبات العصر مع الاستفادة من التغطية القانونية، الاقتصادية والاجتماعية.
فالمجلس الوطني لخبراء العدل يصبو ويتطلع إلى وضع خارطة طريق من شأنها إحقاق الحقوق المشروعة لهذه الفئة المهنية التي تفتقر للأسف إلى تمثيلية قوية جراء انعدام المبالاة بالنسبة للقسط الوافر منهم. وقد أخذ المجلس الوطني لخبراء العدل على عاتقه، ضمن أهدافه، مهمة توحيد الخبراء وجمع شتاتهم وجعل توصيات هذا اليوم، المهم في تاريخ الخبراء، نقطة انخراط.
فالخبراء لا يمكنهم أن ينالوا أي حق إلا بالاستماتة في الدفاع عن حقوقهم إذ ما ضاع حق ورائه طالب. لكن من خلال الاطلاع على إحصائيات الخبراء التي أُدلي بها خلال الندوة لاحظنا أن مجموع الخبراء في جدول وزارة العدل والحريات برسم سنة 2010 هو حوالي 3.000 خبير وأن مدينة الرباط فقط يتواجد بها ما يناهز 250 خبيرا والدار البيضاء ما يناهز 950 خبيرا بينما المهتمين بموضوع الخبرة الذين حضروا الندوة لم يفق عددهم 100 شخص من ضمنهم حوالي 60 خبيرا فقط.
فالخبرة القضائية هي في حاجة ماسة إلى تنظيم محكم لكن ما ضيعت الحقوق إلا بأهلها لأنه عندما نطالب بهيئة مهنية وجب توحيد الصفوف كون الانقسامات تسيء إلى المهنة. والسؤال الذي يبقى مطروحا هو هل العزوف، كما لاحظناه رغم حجم التغطية الإعلامية، عن حضور الخبراء راجع إلى انقسامات داخل هذه الفئة أم إلى يوم الندوة الذي صادف الجمعة ونتمنى أن يكون التفسير الثاني هو سبب العزوف.