ابراهيم امزيل أول ما يشُد إليه الانتباه و أنت تمسك بديوان "تينو" لمحمد واكرار بين يديك هو جودة الورق، وحجم القطع المختار وجمالية الإخراج الفني الذي أبدعه الفنان عبد الوهاب بوشطارت..الحقيقة أن الإخراج الفني له دور كبير جداً في إبراز ما بين دفتي الكتاب.. فهو موظف الاستقبال الذي يجعلك ترتاح إلى مُقامِك حتى قبل أن يبدأ..
وأنت تفتح أي كتاب، تتنفس عبق الورق الجميل.. تقرأ الأبيات أو الصفحات الأولى لتقرر بعدها أن تنهي الكتاب أو تُلحِقَه بعشرات الكتب التي لم تُوَفَّق في إغرائك بقرائتها.. المسألة هكذا ببساطة، الكتاب هو الذي يحدد مقروئيته من عدمها.
وأنا أقرأ ديوان "تينو" نفضتُ عن نفسي كل الأفكار المسبقة لأن الكاتب إسم له مكانته .أفتح الديوان الشعري.. أقرأ الأبيات الأولى بهدوء شديد.. أريد أن أتذوق هاته الكلمات على مهل.. فهذا شِعرٌ..!
ما أن أنهيت الصفحات الأولى حتى وجدتني متأخراً عن سرعة الكلمات.. فالشاعر يأخذك منذ الأبيات الأولى دون مقدمات أو إخبار، ليرمي بك إلى مكان بعيد.. إلى صحراء يتبدى فيها السراب للناظر.. قبل أن نتدارك..هل نحن في صحراء فعلا..؟
تتماهى الأمكنة بسحرية جميلة مع شخصية تكتسب وجها جديدا مع كل صفحة نقرأها.. يتوسل إليها الشاعر تارة.. ويستحلِفها تارة أخرى.. يبدع في وصفها، يقدم لها كل القرابين الممكنة..! لكنها تختار الصمت، وترفض الكلام .. إنها بالتأكيد تستمتع بكلمات شاعرنا. ولأن النَّفَس الشعري في هذا الديوان كان قويا جداً، كان لزاماً أن تؤثَّثَ الصفحات ببياض نصِّي أُستعمِل بكثير من الذكاء و المغامرة أيضا.. فهذا البياض قد يتحول فجأة إلى مساحات تفوح بنكهات الفراغ.. وتَبهَتُ معه كل ألوان النص المكتوب. لكن واكرار ربح المغامرة هنا. البياض النصي في هذا الديوان كان لِحافا جميلا يحُفُّ الشِّعرية المُنسَابة بحميمية. النَّفَسُ الشعري كان دفَاقا جدا ولم يستدع معه محطات استراحة خلال القراءة.. الديوان كله ينبسط في نَفَسٍ واحد ويمتد أمامك كطريق ملكي طويل مُغرٍ بالسفر.
قرأت الديوان كله جرعة واحدة.. وبعد آستراحة قصيرة عُدت لإعادة قراءة مقاطع كثيرة. الكتابة شذراتية..مُختزِلةٌ، وتلك قوتها.. ومعلوم أن هذا النوع من التعبير الاختزالي يستمد صعوبته من وجوب توفر مخزون ثقافي و تراثي ضخم يمتح منه الشاعر ويقطف منه ما شاء من ثمار.
لقد وُفَّق الشاعر كثيراً في تبيان القوة التصويرية الهائلة للُّغة الأمازيغية..إنه ببساطة يجعلك تحب هذه اللغة أكثر.. هناك شعر غنائي وهناك شعر قرائي وهناك صنف ثالث بينهما : شعر يُمكن قرائته و مُشاهدته أيضاً وديوان "تينو" يجد باستحقاق مكانته هنا.
فالتصوير الشعري صعب جدًا.. ويجب أن يمُدنا بما يكفي من مادة فكرية وعاطفية تكفي لبناء العوالم المقروءة.. وما أن تُنهي الصفحات الأولى لديوان واكرار حتى تجد نفسك محمولا. بقوة النص تقف إلى جانب الشاعر، تقاسمه مزاجياته.. تتقمصه، و يسكُنك مثل جِنِّي لطيف.. .فتردد كلامه وتتغنى بتوسٌلاته اللغة جواد متوحش وحر لا يمكن لأي كان ترويضه فبالأحرى امتطائه. و عندما تقرأ ديوان "تينو" تسعَدُ برؤية فارس متمكن يتمختر على صهوة حصان أمازيغي أصيل.هذا الديوان - جسدا و روحا - هو تشريف للمنشورات الأمازيغة. إنه ابن بار لهذه اللغة الرائعة التي لم تنتظر يوما، ولا تحتاج لبطاقة وطنية "رسمية" لتكون.. إنها هنا اليوم تتجلى في بهاء مثل عروس..كما هي دوما. تحتاج فقط إلى جرأة شاعر جميل ليرفع الغطاء عن وجهها الرائع.. الأمازيغية هي لغة شعر.. هي الشعر ذاته.
الأمازيغية لها أسرار و"مفاتن" - و لأنها أصيلة- فهي لا تكشف عنها إلا لشاعرٍ أصيل تحتاج إلى بعض وقت حتى تتذوق كليا ديوان "تينو" لمحمد واكرار.. تماما مثل تِرياق.. يأخذ وقتا لينساب في كل أنحاء الفِكر.. لكنه في الأخير "يشفي" غليلك من مرارة الشِّعر الرديئ.. وتأكد أنك ما أن تنتهي من قراءة هذا الديوان، حتى تكتشف أن القصيدة لم تنته بعد..! ديوان رائع.. إنه بكل بساطة شِعرٌ حقيقي من شاعر حقيقي ..!