يدشن المغرب عهدا جديدا أطلقه جلالة الملك محمد السادس في خطابه السامي بمناسبة الذكرى العشرين لتربع جلالته على عرش أسلافه المنعمين، عماده نموذج تنموي جديد تترجمه على أرض الواقع كفاءات مؤهلة ونخب جديدة في مختلف المناصب والمسؤوليات . غير أن نجاح هذه المرحلة الجديدة، كما أكد جلالة الملك، رهين بانخراط جميع المؤسسات المعنية (الدولة ومؤسساتها والقطاع الخاص والهيئات السياسية والنقابية، والمنظمات الجمعوية)، لإعداد الكفاءات التي ينتظرها المغرب تأسيسا لنموذجه التنموي الذي يمثل الإنسان محوره ومحركه وغايته الأساسية.
وأضحى معيار الكفاءة والاختصاص يطرح بإلحاح مع الدخول السياسي الحالي، كإشكال يسائل دور وقدرة المؤسسات وأساسا الأحزاب السياسية على إنتاج النخب، وهي التي يفترض فيها أن تكون مشاتل ومدارس لتكوين أطر وقيادات قادرة على تدبير الشأن العام.
وإذا كانت الأحزاب السياسية تؤكد أنها تتبنى الإصلاح وإعمال الديمقراطية الداخلية والانفتاح على رأسمالها البشري سبيلا لتسيير شأنها الداخلي، يرى بعض المحللين أن هذه الهيئات لم تعد قادرة على تخريج كفاءات وطاقات لتحمل المسؤوليات بفعل "استحواذ" بعض القيادات على مناصب المسؤولية، مما ساهم في نفور عدد من أطرها وكفاءاتها من العمل الحزبي.
وفي هذا الصدد، أكد عبد اللطيف دميمو، أستاذ القانون العام بجامعة محمد الخامس بالرباط، أنه يفترض في الأحزاب السياسية التي تعتبر عماد الديمقراطية، أن تسمح لكافة المناضلين بتقلد المسؤوليات انطلاقا من معايير مرتبطة بالإيمان بمبادئ الحزب وأهدافه وكذلك بمعايير الاختصاص والكفاءة من أجل تأدية المهام الحزبية، مبرزا أن تقلد هذه المسؤوليات الحزبية ينبغي أن يتم بكيفية ديمقراطية على اعتبار أن المرحلة هي مرحلة تمرس داخل الأحزاب السياسية لتأهيل هذه النخب لتدبير الشأن العام.
وإذا كانت القواعد الشكلية كقانون تنظيم الأحزاب تضمن ولوج مختلف فئات المجتمع إلى الأحزاب السياسية سواء تعلق الأمر بالنساء أو الشباب، وفسح المجال أمامها للترشح لكافة المسؤوليات القيادية الحزبية ، فإن الواقع العملي، يقول الأستاذ الجامعي في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، يعاند هذه النصوص القانونية إذ أن مناصب المسؤولية ولاسيما الوزارية منها، تظل منحصرة في غالب الأحيان في النخب القيادية داخل هذه الأحزاب، وهو إشكال يطرح مدى سلاسة هذه القواعد وانفتاحها على كافة طاقاتها من أجل تحمل المسؤولية ولما لا قيادة هذه الأحزاب السياسية.
وشدد أستاذ القانون العام بجامعة محمد الخامس بالرباط على أن القيم المرتبطة بالنضال والالتزام الحزبي لم تعد الركيزة الأساسية في توصيف المناضلين داخل الأحزاب السياسية التي أصبحت اليوم خاضعة لمنطق البراغماتية السياسية عوض الايديولوجيات، معتبرا أن "صفة النضال لم تعد تكفي لتقلد المسؤوليات، بل ينبغي وجود الاستحقاق والخبرة والكفاءة من أجل القيام بمهام تدبير الشأن العام".
من جهته، يرى عمر العسري أستاذ القانون العام بكلية السويسي بالرباط، أن الأحزاب السياسية لا تستثمر في رأسمالها البشري حتى في تسيير شؤونها الداخلية، مؤكدا أن المحاباة في توزيع المناصب كرست عزوف الكفاءات عن الشأن الحزبي والسياسي، الذي تحول إلى قنوات للوصول إلى السلطة، بعيدا عن معايير الاستحقاق والكفاءة التي تشكل المدخل الرئيسي لتكريس مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة.
وأضاف العسري، في تصريح مماثل، أن الأحزاب السياسية مطالبة بمراجعة الذات وطرح أسئلة حقيقية مرتبطة بإعمال الديمقراطية الداخلية وتجنب المحاباة في التعيينات من خلال فتح الباب على مصراعيه أمام جميع الكفاءات متعددة الاختصاصات للتباري على مواقع المسؤولية الحزبية والتمثيلية، بما يسمح بتجديد النخب والاستجابة للحاجيات المرتبطة بتدبير الشأن العام.
وفي هذا الصدد، دعا أستاذ القانون العام بكلية السويسي بالرباط، الحكومة والأحزاب السياسية إلى وضع ميثاق أخلاقي يؤطر عملية توزيع المناصب وتدبير المؤسسات.
أما محمد الغالي أستاذ العلوم السياسية والقانون الدستوري بجامعة القاضي عياض بمراكش، فاعتبر أن الأحزاب السياسية " لا تستطيع التأسيس لتقاليد التربية والتنشئة والتكوين التي تمنحها القدرة على إنتاج النخب"، مشيرا إلى "تدني مستوى العلامة التجارية للأحزاب بشكل لم تعد معه قادرة على استقطاب كفاءات مؤهلة جاهزة".
وأكد الغالي في تصريح للوكالة أن "الأحزاب زاخرة بالكفاءات، لكنها تفتقد القدرة السياسية التي تجعلها تفرض نفسها في مراكز حزبية وتضع، بالتالي، الحزب في المرتبة التي تتيح له القيام بوظائفه الدستورية " .
وتساءل الأستاذ الجامعي عن مدى استعداد النخب المهيمنة داخل الأحزاب، التي تعتبر نفسها ذات المشروعية النضالية السياسية، لتجديد نخبها التقليدية وتغذية هياكلها بأطر من ذوي الكفاءات والاختصاصات الحديثة التي يتطلبها تدبير الشأن العام ، مؤكدا أنها "ستسقط هذه الكفاءات والطاقات في وعاء الإهمال إن هي لم تع أهمية أدوارها ووظائفها في رهانات العمل الحزبي".
وبالتالي أضحت الأحزاب السياسية أمام محك حقيقي يفرض عليها إعادة النظر في علاقتها بالكفاءات والأطر بما يسمح بتجديد النخب والاستجابة للحاجيات، حتى تكون في مستوى التوجيهات الملكية، وتطلعات المغاربة لحكومة قوية ببرامج تنموية واضحة. فتنزيل النموذج التنموي يتطلب الكفاءة والاستحقاق وكذا إيمان هذه الكفاءات واقتناعها بهذا النموذج مع توفرها على شروط النزاهة والاستقامة والاستماتة في تنفيذ السياسات العمومية.