ثمة سؤال يطرح نفسه اليوم هو الآتي: منذ متى صار مطلبا أساسيا وملحا إقرارُ اليوم الأول من السنة الأمازيغية عطلةً وطنية مدفوعةَ الأجر؟ تأكيدا، لم تكن الفكرة واردة ضمن أدبيات الحركة الأمازيغية طوال فترة نضالها الممتد لأكثر من خمسين سنة خلت؛ بمعنى إن هذا المطلب بالتحديد لم يكن معبَّراً عنه جمعويا على الإطلاق؛ لا ضمن مبادئ ميثاق أكادير 1991 ولا طَيَّ بنود البيان الأمازيغي 2000 .. كما ليس له أدنى حضور في أي من كتابات ومساهمات المثقفين الفاعلين على مدى أزيد من أربعين سنة.
المطلب الوحيد الذي كان مطروحا في الساحة وبحدة، والذي ظل فحسبُ مناطَ الاهتمام الشديد لدى كل المناضلين والعاطفين، إلى أن تم تأسيس المعهد الملكي، هو إعادة الاعتبار للهوية الأمازيغية؛ المتمثل أساسا بدءا وانتهاء في الرقي بلغتها وثقافتها والحيلولة دون انقراضهما.
موضوعُ اللغة والثقافة، بما هو جوهرُ كل الهويات القومية في العالم، هو الذي كان أيضا جوهرَ النضال من أجل "الأمازيغية"، والشعبُ المغربي قاطبة، وفي المقدمة بطبيعة الحال المناضلون الأمازيغ، كان لديه وعيٌ "مُعَيَّنٌ" بأن القضيةَ هي اللغةُ بمحمولها الثقافي والأدبي والفني.. وأن الخطرَ، إذا كان ثمة من خطرٍ يتهدد تلك الهوية؛ فهو لا يتهدد أساساً غيرَ اللغة.
لكن، إذا كانت الحركة الأمازيغية قد (وَعَتْ) أن ذلك الجوهر اللغوي الهوياتي هو عمادُ نضالها المسؤول، ثم تشبثت به وعبرت عنه؛ بمقتضى ما يتطلبه الأمر من الوضوح والعزم والقوة؛ وذلك عبر كتابات خاصةٍ وبيانات ومواثيقَ جماعيةٍ ما تزال شاهدة.. فالدولة وذلك أمْرٌ يكشفه أسلوب تعاملها الاحتوائي المستمر مع الملف أبانت، ربما أكثرَ من الحركة، عن استيعاب قبلي وعلمي دقيق للإشكالِ؛ مفاده أن "الأمازيغية"، رغم تفرع أسئلتها وامتداد شجونها وتجاذب الرؤى المتعددة من حولها وبصددها، هي قضيةٌ واحدةٌ واضحةُ الدلالة في واقعها؛ لا عنوانَ رئيسيا لها ولا إطار يَحُدها ولا هدف تتغياه غيرَ إنقاذ لغتها..
وإذن؛ إن الطرفين معا "متفقان" على أن اللغة ألأمازيغية هي أساس الهوية الأمازيغية، وأنها هي منذ عقود على الأقل في مهب ريح عاتية.. ومع ذلك ما حدث وجرى، وما يحدث ويجري.. هو كونهما انحازا لاتجاه هبوب الريح وعمدا إلى تقوية عُتُوِّهَا بعد أن بَدَا أن الوعي الثابت لديهما قد "تحول" وأن الموقف قد "تغير"! لكن؛ هل حقيقةً إن المستجدَّ لدى هذين الطرفين بصدد الأمازيغية هو تَغيُّر وتَحوُّل؟
نستطيع القول مفترضين: إن أطروحة الأمازيغية ومسارها منذ البدايات وكذا تطوراتها فيما بعدُ من الممكن أن تكون مجرد "اختياراتٍ"مَرْضِيٍّ عنها من قبل المخزن ( نقصد: توحيد اللغة وتهيئتها وإدماجها في التعليم وفي الإعلام، ثم أخيرا دسترتها رسميا إلى جانب العربية سبيلا لإحلالها "المكانة التي تستحقها" في مختلف مجالات الحياة العامة والخاصة..)، وتلك الترضيةُ إن صح الافتراض ونحن نرجح صحته سيكون لَها ما لَها، ولن يكون شيء عليها.
مرادُ الكلام، إذن، هو هذا: إذا كان للفاعلين من أجل الأمازيغية منذ البدء الوعيُ التام بأن إشكالَ هويتهم يكمن في الوضع المأزوم للغتها، فإن للمخزن أيضاً الإدراكَ نفسَه وأكثر... ثم بناء عليه، "تماهى" مع مضامين الملف بطريقته "الذكية" قصد ضمان تحكمه التام في مصير الهدف الأساسي الذي هو اللغة بمداومة إفراغه من كل محتوى إيجابي أو دلالة واقعية.. أما ما عدا اللغةَ من عناصر الهوية الجماعية كالأرض والانسان وما إليهما مما "يثيره" نشطاء الحركة اليوم وبحدة؛ فهي في تحليل الحاكمين العلمي والسليم، كما يجب أن نفهم، مجردُ "أفكار" للمخاتلة وأدواتٍ للإلهاء؛ لن تضع أبداً، ولن تشكل إطلاقا، أمامَ سياسات التعريب العملي الذي يستهدف القضاء على اللغات الأمازيغية الحية أيةَ حواجز على الإطلاق.
صحيح أن الدولة لم تبادر يوماً، لا بطرح معضلة الهوية الأمازيغية ولا بالبحث عن حلول لها، وأن الحركة الجمعوية هي (فقط) من أثارتها وتثيرها على الدوام، وهي من قررت أن تتوجه بما طرحت إلى الرأي العام الوطني من جهة، ثم إلى المسؤولين بالبلاد من جهة أخرى؛ مُرْفِقَةً تساؤلاتها بصدد الحقوق والمطالب المعلنة بتصور ثقافي ( ترى ) أنه المناسِبُ لأي تعامل سياسي إيجابي مع الجوهر الذي هو: قضية اللغة؛ معتبرةً إياه مشروعاً واضح المعالم ومقترحاتِه قابلةً للتطبيق على أرض الواقع.
لكن صحيح أيضا أن الدولة، وإن لم تكن هي المبادرةَ في العلن أو الظاهرةَ في الصورة؛ فبصماتُها تؤكد أنها اللاعبة في الخفاء؛ إذ إنها لم تكن ترتاح لوجود قضية هوية وطنية معقدة اسمها الأمازيغية...
ثم بالتأسيس على الصحيحين، سيبدو قويا جدا افتراضُنا تَمَلُّكَ المخزن الإحاطةَ العلميةَ بالموضوع بِنِيَّةِ تجويد تفاعله السياسي سلباً مع تمفصلاته ومستجداته.. لا؛ بل سيكون من السذاجة عدم جزمنا أن مجموع المخططات الخفية والمعلنة للدولة بصدد الأمازيغية، سياسيا واجتماعيا، هي دوماً وبالفعل نتاجُ استشرافاتها الكامنة والقبلية لواقعِ ومستقبلِ إشكالها الهوياتي: حقائقه وتعقيداته ومخاطره ونقط ضعفه.. بما في ذلك طبعاً مستوى وحدود وعي المطالبين بحله! الفكرةُ إذن وبإيجاز هي التالية: إذا كانت أهداف الحركة هي تثبيتَ الركن الحقيقي لهوية الأمازيغ والمتمثلِ في الاعتداد بلغاتها الحية وفي تدبير البرنامج المجتمعي القادر على إنمائها والمحافظة عليها؛ فلن يكون عنوانُ استجابات الدولة لها سوى النقيض تماما ودائما؛ أي سوى العمل على تقويض ذلك الركن الركين بكل ما أوتيت من وسائل القمع "اللطيفة" ومن أقنعة الحجب "للتناقضات" المكشوفة.
يمكن استيضاح أهم خيوط اللعبة بشواهدَ منها: 1 تفعيل المخزن الأثرَ غيرَ المباشر في المسار النضالي بتحريف وتوجيه مضامينه نحو فخ اللامعنى وبأساليب سياسية شتى (أذكاها وأخطرها الاختراق الذي يحجب الرؤية النقدية تماما) فيندفع الشباب "المقتنع" والمتحمس لما يعتقد أنه "قناعاته" اندفاعا نحو التطبيل لسياسة المخزن دون شعور منه أن أفكارها البراقة مغلوطة ومغالطة وأن استجاباتها المرئيةَ الكبيرةَ سراب ... إذ ما معنى أن يثق أغلب المقتنعين أمس واليوم بعكس الحقائق عوض الحقائق من قبيل:
إن الهوية الأمازيغية قضية ثقافية في حين هي سياسية بامتياز! وإن التعريب هو الأثر السلبي الذي تحدثه العربية الفصحى على الأمازيغية التي لم تُخلق بعد.. في حين أن التعريب عمليا هو الأثر السلبي الذي تحدثه العربية الدارجة على الأمازيغيات المتدوالة! وإن الصراع اللغوي غير موجود بالبلاد رغم كون لغاتنا تموت يوميا من جراء صراعها الوظيفي مع الدارجة! وإن الأمازيغية مِلْكٌ لجميع المغاربة في الوقت الذي لا تشغل أزمتُها في الواقع والحقيقة غيرَ (قلةٍ قليلةٍ) من الناطقين بها! وإن أبرز مطالبها حقوقٌ فردية لأشخاص هنا وهناك.. وليس حقوقاً جماعيةً للإثنياتٍ التي لها حضور لغوي ثقافي مجالي لا ينبغي إنكاره!
2 تسويفُ تنفيذِ الحكومات المتعاقبة للاستجابات الشكلية للأهداف المعلنة؛ وذلك بغايةِ التعطيل وبث اليأس في النفوس التواقة لتصديق أحلام النهار.. دون إغفال المراهنة، بالموازاة مع ذلك، على فعل الزمن لتحقيق الإبادة المرجوة لكل من تاسوسيت وتامازيغت وتاريفيت؛ بما هي المصدر الأكبر لصداع الرأس الهوياتي في البلاد.
وليس يخفى أن تلك التسويفاتِ هي التي أفضت إلى ما نرى من النتائج السلبية لإدماج اللغة في المؤسسات الرسمية على مدى عقد ونيف، ومن الإجراءات الهزلية الصريحة لتفادي إصدار قانون ترسيمها على مدى سبع سنوات خلت.. ناهيك عن السهر على "تأليف وطبع ونشر وتسويق" كذبةِ كونِها معيارية وموحدة؛ الكذبة الكبرى التي يفضحها الواقع العنيد: هُزْءٌ في التعليم ومهزلة في الإعلام.
أوَليست هذه الحقائقُ جميعُها ثابتةً وصارخةً حتى لَيُمكِنُ الجزمُ أنْ لا أحد يستطيع إنكارها إلا من كان خصيما لقول الحقيقة أو متمخزنا أو راكبا على المحنة.. !
3 الانتقال بالأثر المخزني غير المباشر من مرحلة تحريف النضال من أجل اللغة إلى مرحلة جديدة من سياسة التوجيه والاحتواء؛ تُسَوِّغُ الابتعاد عن اللغة نهائيا وتدعم النضال من أجل أشياء أخرى وقضايا بعيدة...
لكن ما هي يا تُرى تلك الأشياء والقضايا غيرُ ذات العلاقة بالنضال الحق من أجل الأمازيغية؟ سؤال لن تتحدد إجابته سوى في ما لاحظه الجميع بشأن الاختيارات/ الممارسات الآتية: أ إيلاءُ الاهتمام أكثر (إن لم نقل فقط) للحقوق الاقتصادية والاجتماعية للأمازيغ؛ مع غض الطرف نهائيا عن حقوقهم "الثقافية" ( رغم أن مفهوم"الثقافية" هذا لا يعبر، هو نفسه، عن الجوهر الهوياتي للقضية الذي هو اللغة).. وقد بدا حصول تهميش هذه الأخيرة بالمرة في أكثرِ (إن لم نقل في كلَّ) التظاهرات والاحتجاجات المنظمة مؤخرا.. لعل أبرزها حراك الريف كنموذج.
ب التشديدُ على المطالب الثانوية والصغيرة كسعي تيارات جمعوية معينة داخل الحركة على اختزال روح القوانين التنظيمية التي (تُناقَش الآن في البرلمان) في مسائل شكلية بامتياز؛ منها الإدراجُ ضمن الأولويات تدبيجَ العملة الوطنية والطابع البريدي وواجهات المؤسسات العمومية والخاصة بحروف تيفيناغ، ومنها الإلحاح على فرض ترسيم استعمال الأمازيغية المعيارية التي لا وجود لها إلا في مخيلة المطالبين بها بَدَلَ السعي إلى تحقيق النهوض باللغات ذات الوظائف العملية والهامة؛ والتي في مقدمتها الوظائفُ التواصلية والفنية والاجتماعية.. إلخ، ومنها النفخ الإعلامي في بعض التجاوزات الصغيرة والمحدودة كرفض موظف ما بإدارة ما رَفْضَ تسجيل اسم أمازيغي ما، ثم منها الإسهام بقوة مبالغ فيها في الدعاية المجانية والمكثفة، وفي الانخراط الفعلي والجدي، لإنجاح جميع الأنشطة (الحفلات والاحتفالات) المدعومة مخزنيا رغم الوضوح البادي للعين الناقدة بأنْ لا غاية من وراء أنشطة التهريج والبهرجة سوى إلهاء الجماهير وسلب عقلها وتزييف وعيها بحقيقة هويتها. نشير هنا على سبيل المثال لا الحصر إلى إقامة مهرجان تيميتار بأكادير تحت شعارات ممتلئة لكنْ بالفراغ فقط؛ مثلَ قولهم: "الأمازيغية تنفتح على ثقافات العالم" ، وإلى إحياء ذكرى ترسيم الأمازيغية الذي يقام سنويا بتزنيت حتى قبل تفعيله بنوده في الواقع.. وهذان نموذجان فحسب..
ثم أخيرا وليس آخرا هناك الاحتفالات الصاعقة بعيد رأس السنة الأمازيغية في مجموع الفضاءات والقنوات الرسمية والشعبية على طول البلاد وعرضها، من دونِ نتيجةٍ تُذكر غيرَ كون المحتفلين يشاطرون السلطة كل عام أفراحها بتضييع الأمازيغ البوصلة التي تهديهم سواء النضال.
وفي المحصلة: لقد نجح المخزنُ نجاحا باهرا في تمرير سياساته الرسمية غير المعلنة لدفع قضيتنا الأمازيغية باتجاه منحى خطير دَرَسَ المسافةَ إليه وخطَّطَ له..
أي نعم؛ لقد خططت السلطة بمكر لتفعيل القتل البطيء لهويتنا الأمازيغية ونجحت؛ بعد أن استطاعت (استجابةً لمطالب الحركة) إقناعَ جميع المغاربة للأسف بأن الحل الممكنَ والناجع للقضية؛ هو هذه الصور المبهرة للعيون في المجال وهو هذا الإجماعُ الآخذ بالعقول في الحال والمآل... وينتهي الموضوع !
هل انتهى الموضوع حقا؟ نعم، إنما ليس بتغييب سؤال الأمازيغية الكبير والأصلي والجوهري فحسب ... بل بالعمل أيضا على إيقاف التفكير النقدي في شأن كل ما تقرر ونُفذ حتى الآن. انتهى الموضوع بعد أن تم تصديق حتى المناضلين لكثير من الأفكار غير الدقيقة وغير البريئة.. وبعد أن تم تقديسهم لكثير من الأشخاص المرسخين في البلاد لِوَهْمٍ موهومٍ هو كونُ الإشكال اللغوي الأمازيغي قد أخذ طريقَه نحو الحل الأمثل بفضل قبول الدولة إدماجَه مؤسساتيا وترسيمَه دستوريا، وَهْمِ أن هويتنا ولغاتِها بخير اليوم، وستكون بألف خير مستقبلا، لم لا؟ مادام هؤلاء وهؤلاء قالوا بذلك؛ فالقول عندنا أيضا ما قالت حذام.
ثم أخيراَ... وعَوْداً على بَدء نقول: إذا كانت فرحةُ الجماهير المنتظرةِ لإعلان اليوم الأول من هذه السنة عيداً وطنياً مؤدى عنه قد تم إرجاؤُها سنةً أخرى أو ربما أكثر فَسْحاً لمجالِ المزيد من التعريب! ...
وإذا كانت كل البرامج الرئيسية المبثوثة وقت الذروة بالإذاعات والقنوات التلفزية المختلفة، وفي جميع نشرات أخبارها الرئيسية وغير الرئيسية، وعلى مدى ثلاثة أيام أو أكثر، لا موضوعَ رئيسيا لها سوى الإخبار والتنويه والدعاية والتثقيف "بأهمية" رأس السنة الأمازيغية! فالذي يستوجب طرحَه سؤالان هما: هل الفكرةٌ جماهيرية أم مخزنية؟ وهل المستهدف رأسُ السنة الأمازيغية أم رأسُ الأمازيغية؟!