ارتبطت بوصلات الإشهار الصابونية، فحملت تسميتها، إنها المسلسلات المكسيكية والتركية و... التي استعمرت شبكة البرامج التلفزية. ضاق البعض بها وانتقدها، فيما استلذها آخرون، وتبنوا قيمتها. فما سر ذلك؟ فتحت القناة الثانية منذ بداية التسعينات بوابة المسلسلات المكسيكية والإيطالية ب"تيريزا" و"غونزاليس" في مسلسل "المستبد"، ونزلت آنذاك ضيفا جديدا على بيوت المغاربة. إلا أن هذه المسلسلات سيستبد بها المقام، وتخلد في بيوت المشاهدين، فارضة نفسها بالقوة عبر جهاز التحكم وشاشة التلفزيون، خاصة بعد أن انتقلت عدواها إلى القناة الأ,لى.
على مدار الأسبوع من الاثنين إلأى الجمعة، وفي فترات متفرقة من اليوم، تأخذ هذه المسلسلات حصة الأسد في شبكة برامج القناة في الرابعة صباحا، وفي ال10و5 دقائق، وال11و45 دقيقة زوالا، والثانية بعد الزوال و10 دقائق، وال5 و15، والسادسة و40 دقيقة مساء، والسابعة و37 دقيقة. هذا دون الحديث عن المسلسلات العربية. يصطلح على هذه المسلسلات، "أوبرا الصابون"، وسميت بهذا الاسم، حين كانت تبث مسلسلات إذاعية في بداية الثلاثينات من القرن الماضي، بالولاياتالمتحدةالأمريكية، وكانت تتخللها وصلات إشهارية لمواد التنظيف، وخاصة الصابون.
ويطلق عليها، أيضا (النوفيلا)، أي القصص الطويلة، وتهيمن الشبكة البرازيلية "ريدي غلوبو" على هذه الصناعة، وبدأت "غلوبو" في تصدير النوفيلا في عام 1973 وتبيع، الآن، تلك المسلسلات مدبلجة بحوالي 40 لغة في 100 دولة. وتحاول الشبكة أن تستفيد من زيادة عدد السكان الناطقين بالإسبانية في الولاياتالمتحدة. كما توصلت لاتفاقات مع شبكات مثل "تيليماندو"، والتي سمحت ل"إن بي سي يونيفرسال" بإنتاج نسخ معدلة من النوفيلا.
وعلى الصعيد العربي، تعد قناة "إم بي سي"، أول قناة ستقتحم الميلودراما التركية، لتجعل منها المنافسة الأول للمسلسلات الصابونية، ولتنفتح بعد ذلك على المسلسلات الهندية. القناة الثانية، عودتنا، على إعادة برمجة المسلسلات الصابونية، كلما انتهى بثها على الفضائيات العربية بعد أن تتقادم, ويكون جل المشاهدين قد تابعوها، وبمعدل سبع مرات في اليوم. كما عملت القناة في السنة الأخيرة، على تنويع هذا المنتوج، باستيراد مسلسلات يابانية وكورية وهندية. من جهة أخرى، لم تعد القناة مقتنعة بنبرة الأصوات الشامية، أردنية ولبنانية وسورية، المتسمة بالدلع، وبالتالي صار لسان: "تيريزا"، و"آنا كريستينا"، و"مانويلا"، و"أنطونيلا"، و"ماري إلينا" و"غوادالوبي"، تتلبس بلهجة دكالة والشاوية.
في دبلجتها لهذه المسلسلات رخيصة التكاليف إلى الدارجة المغربية، اعتمدت القناة على شركة فرنسية لا أحد يعرف كيف ومتى وجدت؟ وكان مسلسل "آنا" باكورة هذا المشروع، الذي أنجز ترجمته المترجمان المغربيان إمام اللجام وضياء الكتيبي، وتلته سلسلة من الأعمال، من بينها "ديابلو"، الذي قدمت القناة آخر حلقات خلال الشهر الجاري.
الدبلجة، وفرت لهذه الشركة أرباحا طائلة، باعتمادها، حسب بعض المصادر، على من هب ودب، وممثلين من الدرجة الثالثة، في تقديم مقاطع حوارية مقابل ثمان دراهم للمقطع. أما الثمن الإجمالي للحلقة الواحدة الذي يعود إلى الشركة، فهو يضاعف سعر الشراء.
سعر أقل
بعض الأرقام الرسمية التي حصلت عليها "أوال"، تتناول أسعار المشتريات من طرف القناة الثانية، بناء على معدل الحلقة الواحدة، إلى جانب أسعار الدبلجة إلى الدارجة المغربية، والثمن الإجمالي للحلقة الواحدة المدبلجة إلى العربية، وكذلك أسعار الحلقة للدراما العربية، (أنظر الجدول).
اعتاد القناة على هذه العينة من الدراما، يعتبر، بالنسبة لها، مصدرا مهما للأرباح، وهذا ما سبق وأن اعترف به رضا بن جلون، المدير المساعد في مديرية الأخبار بالقناة الثانية "دوزيم"، في ندوة حول الإعلام، نظمت بالرباط، حين قال إن "بعض المسلسلات المدبلجة التي تقدمها القناة ليست جيدة، وبأنه شخصيا لا يتفق مع هذا النوع من البرامج"، مضيفا "نحن القناة العمومية الوحيدة التي لا تتلقى إعانات من الدولة، فكيف نضمن تمويلا لبرامجنا إذا لم نقدم هذه المسلسلات التي ترتفع فيها نسبة المشاهدة وبالتالي تجلب الإعلانات؟".
وأشار بن جلون إلى أن "هذه البرامج الرديئة التي تمول البرامج الجيدة"، "ثمار الحب"، "الحب الأسير"، "سحر الغجريات"، "راني بادميني"، "سنوات الضياع"، "نور"، "أنا"، "ديابلو"، "بروسلي"، عناوين متعددة بغلاف واحد، يسمى المسلسلات الصابونية.
غلاف واحد
يقدم هذا النوع من الميلودراما، سلسلة متواصلة من القصص الحزينة، تتناول علاقات غرامية واجتماعية متداخلة، موضوعها المال والأعمال، الجنس والخيانة الزوجية، تعتمد على مشاهد قصيرة تبعد الملل، وحوارات بطابع إذاعي تغلب عليه الثرثرة، من دون وجود دوافع درامية، وديكورات فخمة تشد العين، وأضواء أثيرية، تضفي جاذبية على المنظر المصور، والذي غالبا ما يكون خلابا، إضافة إلى أبطال يتميزون بالوسامة والجمال رغم مختلف هذه التقنيات والتفاصيل الإخراجية، فإذا تم جمع كل ما يعرض في الحلقة الواحدة، سيتبين أنها خالية من أي حدث، وهذا يبرز بقوة، قدرة صناع هذه الأعمال، على "فهم وتنفيذ، لعبة تضييع الوقت بمشاهد قصيرة وسريعة، تصل أحيانا إلى عشرين سنة، وبلا هدف"، على حد تعبير بعض النقاد. فريد الزاهي، الباحث الفلسفي والمهتم بسيميولوجية الصورة، في حديث ل"أوال"، يفسر سبب إقدام المغرب على دبلجة هذه المسلسلات، قائلا: "لعل المسلسلات المكسيكية واللاتينو أمريكية عموما، جاءت، في مرحلة كانت فيها المسلسلات الأمريكية قد نضب ماؤها، وصارت "سوهلين" و"جيير" في عداد الأشباح".
واعتبر فريد أن هذا الترابط هام جدا، لأن العقلية اللاتينوأمريكية أقرب إلى العقلية العربية. وربما لهذا السبب سارع المغاربة إلى دبلجتها كما سارع من قبلهم السوريون إلى دبلجة مسلسلات جيرانهم الأتراك.
وأضاف أن ، "التلينوفيلا"، كما تسمى في الأصل، تدوم في المعدل سبعة إلى ثمانية أشهر، مما يعني أنها أقرب إلى الحول، بل يمكن للإنسان أن يحسب عمره على إيقاعها وهي تتعرض في الغالب لمشاكل مثيرة تكون في مجمل الأحيان بحث الشخصيات عن أحد أفراد العائلة الغائب (الذي يكون في الغالب الأب أو الإبن)، وهي تتضمن علاقات حب مع الخدم، ومشكلات الاحتيال والنصب المتعلقة بالميراث وأغلب هذه المسلسلات تعتمد على المفارقة التقليدية التي تنبني عليها الحكاية عموما بين الخير والشر وبين المساعد والمعارض".
وأبرز أن "هذه البنية الحكائية التقليدية، والتنامي الخطي للأحداث، والتركيز على نفسية الشخصية، وعلى الصراعات البديهية والقيمية والأخلاقية، هي التي تجعل هذا النوع من المسلسلات ينبني على التشويق والحكايات الموازية التي تخدم الحكاية الرئيسية. أما من الناحية البصرية، بحسبه، فإن كل شيء في الفضاءات والشخصيات جميل ومقبول ولامع...".
التماهي مع الأبطال
هذه المعطيات كلها تجعل من الأثر العاطفي أثرا مباشرا للتلقي، أي أن المتفرج، يندمج منذ البداية في الحدث وينساق مع التحولات التي تتشعب في الزمن والفضاء. وهذا التأثر العاطفي ينوع الشحنات تبعا للشخصيات، ذلك أن الشخصية، هي الأساس لا الحدث، وهذا ما يفسر حسبه، كون العديد من "التلينوفيلا" حتى التركية منها تحمل في العنوان اسم الشخصية الرئيسية إلى درجة أن المتفرج لا يتساءل عن تقدم الوقائع ولا عن التكرار، ولا عن الشخصيات النافلة، ولا عن الوقت الذي يهدر، وإنما يتابع كل شيء له علاقة بالشخصية التي تهمه عاطفيا ويتماهى معها. وأكد الزاكي قائلا "بما أ، الفقير في هذه المسلسلات له حظ وافر من الحضور ومن الجمال والذكاء، بحيث يغدو محور الصراعات، وبما أن الحب يكون محور تلك الصراعات أيضا، فلا غرو أن تجد الجمهور الأكبر لهذه المسلسلات بالدرجة الأولى هو من الخادمات وربات البيوت "العاطلات"، والمراهقات... وربما كان هذا المعطى وراء الدبلجة إلى الدارجة، تقريبا لها من أذهان هذا الجمهور العريض والوفي الذي يجد هذه المسلسلات تعويضا عن ضنك الحياة والفراغ العاطفي وشحذا للاستيهامات العاطفية والاجتماعية".
قهر البرمجة
سناء، طالبة، عبرت عن إعجابها بالمسلسلات التركية المدبلجة باللهجة السورية أو اللبنانية، لأن لغة الحوار من وجهة نظرها بسيطة وطبيعية، والمواضيع التي تطرحها جذابة، مثل صراع الخير والشر، فضلا عن وجود عناصر التشويق والإثارة، والصورة الجميلة لأبطال هذه المسلسلات وكذا، جمالية المواقع السياحية التي يحرص المسلسل، حسب سناء، أن يشوقك إلى زيارتها.
وقالت سناء إن المسلسلات التركية ساهمت في ارتفاع عدد السياح المغاربة إلى تركيا في السنوات الأخيرة، وخاصة النساء، أما المسلسلات المدبلجة إلى اللهجة المغربية، فأشارت إلى أنها لا تتابعها، لكونها ضعيفة اللغة وغير منسجمة، وأنها في بعض الأحيان تستعمل كلمات دخيلة على اللهجة المغربية.
عبد الرحيم، أستاذ، اعتبر بأن هذه المسلسلات تتسم ب"التفاهة" لكونها تمرر العديد من القيم التي تلحق الأذى بالناشئة المغربية وتمس بقيم المغاربة بوجه عام، وذكر بالانتقادات التي وجهت وتوجه لها من طرف الناس، ومن بينهم جمهور الملاعب، مشيرا إلى اللافتة التي سبق وأن رفعها مشجعو أحد الفرق والتي تقول: "بالأفلام المكسيكية قهرتونا وبالبرمجة عدبتونا"، وعرض لانتقادات البرلمان لهذه المسلسلات، وذلك أثناء مناقشته ميزانية وزارة الاتصال بالبرلمان السنة الماضية، والتي اعتبروا أنها تسيء إلى الثقافة المغربية وتهدد الهوية الوطنية، ومن كونها تروج للعديد من القيم الدخيلة على المجتمع المغربي، مثل الغدر والخيانة الزوجية والعلاقات غير الشرعية.
باعاشور، رجل سبعيني متقاعد، قال إن هذه الأفلام تروج لقلة الحياء والاحترام، وبأنها كذب في كذب، و"تمثيل في تمثيل"، تفرق العائلات، وتجعل الأزواج في خصام دائم، وتصرف المرأة عن أشغالها، منتقدا، بعض الرجال الذين يتقاسمون مع نسائهم الفرجة. واصفا إياهم بالضعاف والمساكين.
قيم بأبعاد خطيرة
الباحث والناقد فتح الله بوعزة، في تناوله للقيم التي تروجها هذه المسلسلات، أكد في تصريح ل"أوال" أن موقفه النقدي من المسلسلات الأجنبية، المعبر عنه للمجلة، لا ينبع من خلفية ثقافية تتعصب للمنتوج الوطني أو القومي أو العالمي، بقدر ما ينبني على مقاربة فنية وثقافية، تعتبر المنتوج الثقافي عامة، والفني بشكل خاص، حاملا لمنظومة قيمية، تثمن القيم الجماعية للشعوب وتسندها، أولا، وتساهم، ثانيا. في تعديل المواقف والسلوكات الفردية في الاتجاه الإيجابي الذي يحقق الارتقاء بالذوق الفني والجمالي للمتلقي بما يخدم قضاياه الفردية والجماعية، في أفق تحقيق التنمية المستدامة. وسجل أن المسلسلات الأجنبية تختلف من حيث الصياغة الجمالية وكذا المحتويات. والمرجعيات الفكرية والاجتماعية، بشكل عام، بل هي في نظره، معطى متعدد بتعدد المرجعيات ذاتها، والمقاربات المعتمدة في معالجة القضايا المطروحة، والأدوات الفنية المستعلمة لبلوغ أهدافها، وتحقيق التأثير المرغوب فيه، على مستوى المتلقي، وفي رأيه: "فإن الملفت للانتباه، في الوقت الراهن، هو انفتاح المتلقي (من خلال القنوات التلفزيونية) على نماذج فنية لشعوب متعددة، ذات مرجعيات مختلفة أو مناقضة لأسس ومنطلقات المنظومة القيمية الوطنية، بما فيها المكون الديني، والتقاليد والعادات والموروث الثقافي والتواصلي في مختلف تجلياته، بالإضافة إلى المرتكزات الاجتماعية والاقتصادية؛ وأضرب لذلك مثالا بالمسلسلات المكسيكية، والآسيوية، والتركية أيضا، المدبلجة إلى اللغة العربية أو اللهجات المحلية لمنطقة الشام، والتي غزت البيوت، وعيون الشباب والكهول، وبخاصة النساء".
ولاحظ على هذه المسلسلات، بناء على مسح سريع لها، أن الحب هو الموضوعة (التيمة) المهيمنة على مختلف المشاهد والحلقات، لا باعتباره قيمة انسانية نبيلة تسمو بالعلاقات البشرية إلى أعلى درجات النبل والتجرد من الأنانية والمشاعر البغيضة، ولكن باعتباره في نظره، مرادفا للتملك (تملك المحبوب) والسيطرة، ومواجهة الآخر بالعنف في أحايين كثيرة، بالرغم من وجود سياقات تحول من الناحية المبدئية والمنطقية، دون التملك (حالة الزواج مثلا)، حسب فتح الله.
"النوفيلا" أو "الأوبرا صوب"
"Soap Opera" ينتمي في الأصل للمصطلحات العامية في اللغة الإنجليزية، وهو برنامج مسرحي، إذاعي، أو تلفزيوني مسلسل، يعالج مشكلات الحياة اليومية. قوامه رواية مفردة، متصلة الحلقات تضطلع بأداء أدوارها مجموعة من الممثلين لا تتغير. بدأ تقديم برامج الأوبرا الصابونية، في الإذاعة، أول ما بدأ، في الثلاثينيات من القرن العشرين وحظيت بأكبر قدر من الشعبية في الولاياتالمتحدةالأمريكية بعيد الحرب العالمية الثانية. وفي أوائل الخمسينات سميت الأوبرا الصابونية بهذا الاسم، لأن شركات صنع الصابون، ظلت طوال سنوات عديدة في طليعة المؤسسات التي رعت تقديمها إلى الجمهور لقاء تخصيص فترات من البرنامج للإعلان عن منتجاتها.
وحافظ النقاد على هذا المصطلح لافتقار هذه الدراما لقوة الطرح، معتبرين إياها كفقعات الصابون. كما يصفونها بالسطحية، و(التفاهة)، أو الفارغة من أي مضمون متماسك.
وتعتر البرازيل أول من استثمر هذا الفن على صعيد التلفزيون، الذي سيحمل اسم (النوفيلا)، أي القصص الطويلة،وكانت ملاذا للمثقفين لتصريف مواقفهم إلى أوسع جمهور، في مرحلة الديكتاتورية، خاصة في أواسط الستينات. وفي السبعينات سترتبط ارتباطا دارت أحداثه بين البرازيل والمغرب، فبعد أن عرض في عام 2001، أصبح الرقص الشرقي مثار الإعجاب والموضة الجديدة. كما بدأت الصبايا البرازيليات في وضع زهرات صفراء في شعورهن تقليدا لإحدى الشخصيات التي ظهرت في مسلسل "4 في 4" في عام 1994.