حميد طولست في كل عام تقريبا أكتب عن شهر رمضان، وهذه السنة بدأت بمقالة كتبتها قبل حلوله بأيام عن كيف حوَّل الصائمون هذا الشهر من غايته النبيلة التي تهدف لتعويد النفس على الصبر، والإحساس بجوع الفقراء، ومعاناة المحتاجين، إلى طقوسٍ احتفاليٍة في الإسراف وملء البطون والاستمتاع بالطعام، في مهرجانات كرنفالية تستعرض فيها الأطباق الدسمة المتنوعة الغنية، والوصفات التي تفتح الشهية، وتزيد الاستهلاك، وتضاعف الإسرافُ، وتضخم الاستدانة لخوض غمار مباريات الأكل وبرتوكولاته التي تنسي الصائمين التصدق على الفقراء "من أوسط ما تطعمون أهليكم" التي جعلها الله فدية وكفارة للمتصدقين.
ففكرت أن أكتب موضوعا حول تلك الموائد الرمضانية التي تزدهر في شهر رمضان الكريم لتقديم الإفطار للفقراء الصائمين، بمشاهدها التي تشرح القلب وتقبضه في نفس الآن. تفرح القلب عندما يرى المرء هذا التكافل والتآزر والرفق بالمحتاجين والتطوع لخدمة الهامشيين، لكن سرعان ما يقبض القلب ألما حينما يُعرف أن نسبة كبيرة من المستفيدين من هذه الموائد من العجزة والعاطلين والأرامل والأمهات اللائي يعلن أطفالا وحيدات دون رعاية، وتعتصر نفس القلب حزنا حينما يعلم أن كل ذلك الكرم مرهون بهذا الشهر وحده دون الشهور الأخرى، وكأن هؤلاء المحتاجين لا يأكلون إلا شهرا واحدا في السنة ويصومون بقية الشهور، فذكرني ذلك بما رأيته في أماكن عدة من فرنسا من طوابير طويلة لا متناهية، من الرجال والنساء والأطفال المصطفة أمام ما يسمونه بمطاعم القلب والتي لا شك أنها ملفتة لنظر كل من يزور أغلب المدن الفرنسية، الكبيرة منها والصغيرة، وستثير انتباهه، وتلهب دهشته، وتذكي فضوله ورغبته في معرفة سبب تجمهر تلك الأعداد الكبيرة من الناس بمجرد حلول المساء، كل مساء؛ لكن سرعان ما يزول عجبه، حين يعلم الزائر أن المتجمهرين، وجلهم من المعوزين، اعتادوا الحضور كل مساء لتلك الأمكنة لإشباع جوعهم، وتطير دهشته حينما يشاهد توافد الشاحنات المحملة بقدور الحساء والأرغفة والفاكهة، ويندثر استغرابه، بل يتحول إلى إعجاب وتقدير شديدين، حينما يعاين نزول عشرات المتطوعين في عزم وهمة ونشاط، مضحين بعطلهم وحياتهم الشخصية، وكأنهم فيلق عسكري هب لتوزيع الحساء الساخن والخبز والبرتقال على بؤساء فيكتور هيجو الجدد، الذين يتشكل معظمهم من المعزولين عن المجتمع بسبب التفكك الأسري أو الطلاق أو التسريح من العمل، ومن العائلات الكثيرة الأبناء والتي لم تعد قادرة على مواجهة أعباء الحياة اليومية بسبب مداخيلها المحدودة، وارتفاع مستوى المعيشة وتزايد الديون تحت ضغط الأزمة الاقتصادية.
إنها مطاعم مجانية للفقراء تشبه، إلى حد ما، "موائد الرحمن" في التقليد الإسلامي القديم والذي تزدهر في شهر رمضان الكريم لتقديم الإفطار للفقراء الصائمين. لكن ما يميزها عن موائدنا الرمضانية، هو أنها مفتوحة طيلة السنة، وتقدم وجباتها إلى المحتاجين والمشردين والفقراء من مختلف الجنسيات والمستويات، وحتى مستوري الحال والذين يشتغلون في مهن صغيرة لا تسمح لهم بإشباع أطفالهم، وأنها مطاعم توزع أكلاتها في جو من التضامن والفرح الإنساني المضمخ ببشاشة الطهاة والموسيقى الصادحة المصاحبة للأغنية الشهيرة والمضادة للمبادئ الفرنسية المعروفة والتي تبدأ بهذه العبارة: "ليس من حق أحد اليوم أن يشعر بالجوع ولا بالبرد" والتي أطلقها الكوميدي السليط اللسان والساخر من السياسيين، كولوش صاحب مطاعم الجياع والفقراء التي سماها قبل 25 عاما "مطاعم القلب" وذلك في الأول من شهر ديسمبر من سنة 1985 اليوم الذي فتحت "مطاعم القلب" فيه أبواب فروعها ال1950 لتستقبل آلاف المحتاجين في جميع أنحاء فرنسا والتي أصبحت تغطي مواقعها الثابتة كل التراب الفرنسي، إلى جانب المواقع المتحركة الممثلة في أساطيل ضخمة من الشاحنات الصغيرة، التي تجوب البلاد طولا وعرضا، ويعمل فيها 52 ألف متطوع. ولإدراك حجم العمل الذي تقوم به هذه المؤسسة الخيرية، لا بد من الإشارة إلى أنها قدمت في السنة الأولى لتأسيسها 8.5 مليون وجبة، وتتعامل بملايين اليوروات، والتي تأتي معظمها من تبرعات الفرنسيين ومن عوائد بيع أسطوانات الفكاهي كولوش الذي كان يقول دائما "لديّ حلم، أن أوزّع 2000 وجبة مجانية يومية على الفقراء والمحتاجين".
ورغم رحيل كولوش المفاجئ عام 1987 بعد أن دهسته شاحنة وهو على متن دراجته النارية، وذلك بعد إعلانه المفاجئ للترشح للانتخابات الرئاسية ضد فرانسوا ميتران، وتقول شائعات أنه اغتيل بسبب تهديده للمرشح الاشتراكي، فما يزال يتمتع بشهرة منقطعة النظير في فرنسا وفي أوروبا، رغم ما عرف عنه طيلة حياته الفنية بنقده اللاذع لكل السياسيين بغض النظر عن انتماءاتهم. ولازال يذكر الفرنسيون عن كولوش أنه كان فالت اللسان، يسخر من السياسيين، ويستخف بالتقاليد الراسخة. لكن ما بقي فعلا في ذاكرة كل فرنسي هو أن ذلك الفنان صاحب القلب الكبير ترك وراءه ذكرى تتجدد كل يوم، ويستحق عليها الترحم عليه، أليست هذه صدقة جارية؟؟؟؟