الجسد، ذالك الخَلق الرائع المتناغم مع الطبيعة والمتكامل الوظائف والأعضاء، ذالك الكلُّ الذي حيَّر العلماء في أجزائه وتفاصيله ودقة تركيبه ووظائفه وعمله. لقد شكل جسد الإنسان محط اهتمام العلماء والباحثين عن معنى وأصل الحياة. فكان خلق جسد الإنسان محط صراع كبير بين العلوم المادية واللاهوت وعلوم الميتافيزيقيا. وبصفتي مسلم، فإني أومن إيمانا قطعيا بأن الجسد هو من تصوير وخلق الله سبحانه وتعالى، بل هو إعجاز ودليل على وجود الله الخالق. يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الإنفطار: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَك) الانفطار: 6-8. ولقد كان لجسد المرأة الحيز الأكبر في النقاش الأكاديمي العلمي حول الجسد باعتباره موضوعا شائكا ومعقداً. فقد قدَّس الإنسان البدائي جسد المرأة ورأى فيه رمزا للخصوبة والعطاء وربما هذا ما يفسر أن أقدم الآلهة التي عبدها الإنسان كانت آلهة أنثوية (عشتار، أرورو، شيكيناه، فينوس ايزيس، نون إلخ). ويكمن سر تقديس جسد المرأة كما تذكر بعض المراجع في انبهار الرجل البدائي القديم أمام هذا الجسد الذي يتمتع بقوى وسحر غريبين. فلم يستطع العقل البدائي فهم النزيف الشهري للمرأة دون أن يؤدي ذالك إلى موتها بعكس الرجل الذي إن نزف لوقت قصير ربما يموت. وهناك من ربط هذه العادة الشهرية بدوران القمر واكتماله كل شهر وهذا رسَّخ الاعتقاد لدى الإنسان القديم بوجود قوى غريبة في جسد المرأة تستحق التقديس. هذه الاعتقادات شكلت لبنة ما يعرف بالمجتمع الأميسي الذي حظيت فيه الأم|المرأة بالدور المحوري والأساسي. وإذا تحدثنا عن جسد المرأة في الإسلام فسنجد أن الإسلام حرص كل الحرص على صون هذا الجسد الثمين والفريد وذالك صونا للمجتمع من انهيار الأخلاق وتفشي الرذيلة. فأمر الإسلام النساء بلزوم بيوتهن إلا لحاجة قصوى حيث قال تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) الأحزاب 33. ثم فرض الإسلام أيضا لباسا محتشما على المرأة بحيث لا تظهر من خلاله زينتها فتكون فتنة. قال تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) النور 31. وفي آية أخرى يقول سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) الأحزاب 59. الكثير الكثير من دعاة التحرر مما يسمونه قيود الدين يرون في هذه الآيات تقييدا لحرية المرأة ويتهمون الإسلام بالرجعية وتغليب جنس الرجل على المرأة. إنهم يرون في الإسلام تكريس لمبادئ المجتمع الأبيسي المضطهد للمرأة ويدعون إلى إقامة مجتمع رأسمالي علماني تتساوى فيه المرأة مع الرجل في كل شيء. لكن السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح هو هل فعلا المرأة حرة في المجتمعات الرأسمالية الغربية؟ تتسم المجتمعات الغربية الرأسمالية بثقافة الاستهلاك والربح والفردانية خصوصا في ظل العولمة الكاسحة. فمع ظهور هذا النمط الجديد في الحياة تغيرت أساليب العيش التقليدية وحلت محلها أنماط وأساليب جديدة قطعت كل القطع مع مفهوم القيم. فبدل القيم الأخلاقية والدينية حلت قيم جديدة كالفردانية والمادية وحب الاستهلاك والجنس. ولقد تأثر التعاطي مع جسد المرأة بهذه التغيرات بحيث أصبح يُنظر له كسلعة تخضع لمنطق البيع والشراء. وإذا ددقنا النظر في الأمر سنجد أن جسد المرأة في المجتمعات الغربية الرأسمالية أُفرغ من محتواه الإنساني والأخلاقي والعاطفي والروحي تماما وأصبح وسيلة للربح من خلال استعماله في الإشهار والأفلام البورنغرافية لدرجة أصبحت المرأة تصدق وتفتخر أنها مجرد جسد لا غير. وما يرسخ هذه القيم هو الإعلام وخصوصا الإشهار الذي يوظف جسد المرأة بشكل كبير جدا. ومعلوم أن الإشهار لا يُروّج منتوجا استهلاكيا وفقط وإنما يُروّج قيما وأفكارا عن الحياة. الإشهار يقول لنا من نحن وكيف يجب أن نكون وبالاعتماد على ماذا، يعيد تشكيل فهمنا للحياة والجمال والسعادة والصداقة والحب. إنه ببساطة يعيد بناء تمثلاتنا تجاه الحياة والوجود ولكن حسب ميول ورأى وخلفيات صانعيه. هكذا أصبح جسد المرأة ذو بعد جنسي، غريزي، إغرائي فقط لأن أهم شيء في الإشهار عن المرأة هو مظهرها الخارجي وكيف تبدو. في ظل الخضوع التام للخداع الإعلامي الذي يفرض مالكيه وصانعيه على المرأة شكلها وماذا يجب أن تلبس وأدوات تجميلها ومساحيقها وموضة أزياء كل فصل ووزنها إلخ هل يمكن أن نقول بأن هذه المرأة تتمتع بالحرية؟ إذا كان الحكم على تحضر المرأة وحريتها ينبني على مدى تحررها من ملابسها ومن تجردها من قيمها الأخلاقية والدينية وجريها وراء التقليد الأعمى لقيم الغرب فإن من حق المرأة المسلمة أن تفتخر بدينها الذي أوصاها باحترام وصيانة جسدها بموازاة مع تنمية روحها. فالأنوثة الحقيقية هي تكامل الروح والجسد، العفة والنقاء وليس مسخ ودوس القيم الأخلاقية والدينية للمجتمع استجابة لسياسة عولمة الجسد. إن صلاح كل مجتمع هو من صلاح المرأة وفي شعر حافظ إبراهيم أبلغ تعبير على ذالك: الأم مدرسة إن أعددتها====أعددت شعبا طيب الأعراق