وجه صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، رسالة سامية إلى المشاركين في الدورة ال31 لمجلس وزراء الداخلية العرب المنعقدة بمراكش. وفي ما يلي النص الكامل للرسالة الملكية السامية التي تلاها السيد محمد حصاد، وزير الداخلية :
" الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
أصحاب السمو والمعالي،
السادة الوزراء،
حضرات السيدات والسادة،
يطيب لنا في البداية، أن نرحب بكم في بلدكم الثاني المملكة المغربية، التي تتشرف باحتضان أشغال مجلس وزراء الداخلية العرب، في دورته الحادية والثلاثين.
وإن انعقاد هذا الاجتماع الهام بمدينة مراكش، ليجسد الالتزام القوي للمغرب بدعم العمل العربي المشترك، وخاصة بين المسؤولين على قطاع الداخلية، اعتبارا للدور الحاسم الذي ينهضون به، وذلك من خلال تعزيز آليات التشاور والتنسيق، والرفع من قدراتهم على بلورة استراتيجيات خلاقة، كفيلة بمواكبة متغيرات الظرفية الراهنة، وتأمين ضرورات استتباب الأمن والاستقرار الاجتماعي.
وإننا لنستحضر، بكل تقدير، الروح الطاهرة للمشمول بعفو الله وكرمه، صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز، رحمه الله، الرئيس الفخري السابق لهذا المجلس الموقر، والذي كان له الدور الطلائعي والفضل الجليل، في دعم وضمان استمرارية اجتماعات هذا المجلس، منذ انطلاق أشغال الدورة الأولى بمدينة الدارالبيضاء، سنة 1982.
حضرات السيدات والسادة،
إن التئام الدورة الحالية لمجلسكم، في ظل التحولات والإصلاحات العميقة، التي يعرفها الوطن العربي، سيشكل، بلا شك، فرصة لاستيعاب حقيقة التطور العميق لمفهوم الأمن، مما سيساهم بشكل فعال، في تحصين أمتنا العربية وتأمينها، من مخاطر التطرف والإرهاب، وكل أنواع الجريمة المنظمة، بما فيها تهريب السلاح والاتجار في البشر والمخدرات.
كما أن اجتماعكم اليوم، يعكس إرادتكم القوية في الحفاظ على الأمن والاستقرار بوطننا العربي، وتوطيد قيم التماسك والسلام والانفتاح الحضاري، التي تقوم عليها مجتمعاتنا، وتعزيز إسهامكم في الاستجابة للتطلعات المشروعة للشعوب العربية إلى مدارج الرقي والتنمية.
ومن هنا، فإنكم مدعوون لاعتماد مقاربات ذات أبعاد استشرافية، تتسم بالموضوعية وبعد النظر، وتساهم بشكل فعال في بلورة خطط متجددة، عمادها التنسيق والتعاون، لمواجهة كل ما من شأنه أن يمس أمن واستقرار بلداننا، وسلامة مواطنينا.
كما ينبغي التأكيد على أن السياسات الأمنية الناجحة، والعمليات الاستباقية الناجعة، رهينة بمساهمة المواطن، وشعوره بدوره البناء في استتباب الأمن والطمأنينة، على غرار مشاركته الفاعلة في العملية التنموية، وفي خلق المناخ المناسب للتنمية والاستثمار.
ومن هذا المنطلق، فإن مفهوم الأمن الحقيقي، لا يقتصر فقط على معناه الضيق، بل إنه يقوم بالأساس على جعل المواطن في صلب السياسات العمومية، وذلك في إطار شراكة مجتمعية ناجعة وفاعلة، قوامها التكامل بين الدولة والمواطن، والاندماج الإيجابي بين متطلبات الأمن، ومستلزمات التنمية، وصيانة حقوق الإنسان.
أصحاب السمو والمعالي،
السادة الوزراء،
حضرات السيدات والسادة،
اعتبارا للدور الحاسم الذي يقوم به المواطن، كشريك أساسي في ضمان الأمن والاستقرار، وفي العمل التنموي على حد سواء، وكعنصر مركزي في المساهمة في خلق المناخ الاجتماعي السليم، المتشبع بالديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان، فقد عملنا على التأسيس لمفهوم جديد للسلطة، يرتكز على حفظ وتوسيع فضاءات الحريات، وصيانة كرامة وحقوق المواطنين، في إطار دولة الحق والقانون، وترسيخ ديمقراطية القرب، والمنهجية التشاركية في تدبير الشأن العام.
وفي نفس السياق، أطلقنا مند سنة 2005، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي تقوم على جعل المواطن في صلب عملية التنمية وغايتها الأساسية، إيمانا منا بأن الحقوق السياسية والمدنية لن تأخذ أبعادها الملموسة، في الواقع المعيش للمواطن، إلا بتكاملها مع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية.
وبموازاة ذلك، حرصنا على إقرار تنظيم ترابي جديد، يقوم على اللامركزية، وأطلقنا ورش الجهوية المتقدمة ؛ غايتنا ترسيخ نهج الحكامة الترابية الرشيدة، والتأسيس لمنظومة تدبير ديمقراطي للشأن المحلي، عمادها تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية مندمجة.
وتتويجا للتراكمات الإيجابية والإصلاحات العميقة، التي حققتها بلادنا في المجال الحقوقي والتنموي، فقد حرصنا تضمين دستور المملكة ميثاقا متكاملا من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية.
وسيرا على نفس النهج، فقد امتدت جهودنا لتشمل أوضاع المهاجرين، خصوصا من دول جنوب الصحراء، وذلك من خلال اعتماد سياسة شاملة ومتعددة الأبعاد لقضايا الهجرة واللجوء ببلادنا، ترتكز على الرصيد العريق للمغرب، كبلد لحسن الضيافة والاستقبال، وتحترم التزاماته الدولية، وتراعي حقوق المهاجرين، وظروفهم الإنسانية.
كل هذه الأوراش والإصلاحات التي اعتمدتها بلادنا، ترتكز على تكريم الإنسان، وعلى جعل المواطن محور وغاية السياسات العمومية. كما أنها تؤسس لمقاربة شاملة، تتلازم فيها الديمقراطية والتنمية، وضمان الأمن والاستقرار.
ووعيا بأهمية هذه المقاربة المندمجة، وتكريسا للمنظور الأمني، بمعناه الشامل، والمبني على احترام حقوق الإنسان، والحفاظ على السلم الاجتماعي، وخلق المناخ الملائم للتنمية، فقد قام المغرب بتكريس هذا الخيار، في مناهج التعليم والتكوين، بالمؤسسات الخاصة بتأهيل أفراد القوات الأمنية.
وهو ما يجسده تنزيل استراتيجية الحكامة الأمنية، بما تتيحه لخريجي هذه المعاهد من انفتاح على المواطنين، وتعزيز قدراتهم على الإنصات والتجاوب، والمشاركة في إيجاد حلول للمشاكل الحقيقية للساكنة، تجمع بين الواقعية والفعالية، بالإضافة إلى العمل على توفير مناخ ملائم لتشجيع الاستثمار والنهوض بالتنمية، وتحفيز المبادرات الفردية والجمعوية، الهادفة لتقوية وتفعيل قيم التضامن والسلم الاجتماعي.
تلكم، حضرات السيدات والسادة، بصفة مقتضبة، بعض جوانب التجربة المغربية، التي حرصنا على أن نتقاسمها معكم في هذا الجمع الهام.
أصحاب السمو والمعالي،
السادة الوزراء،
حضرات السيدات والسادة،
إن اعتماد ميثاق أمني عربي اليوم، لن يتأتى إلا من خلال تبني رؤية عربية مشتركة وموحدة لمفهوم الأمن، في سياقاته الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية المتجددة.
ولنا اليقين، أن هذا اللقاء، الذي يجمع نخبة من مسؤولي البلدان العربية، ومن الخبرات الدولية، سيتوج بإقرار مجموعة من التوصيات العملية، الكفيلة بإيجاد حلول ناجعة، تستجيب لتطلعات شعوبنا العربية إلى المزيد من الأمن والطمأنينة والاستقرار، والتقدم والازدهار، في ظل الحرية والكرامة الإنسانية.
ونغتنم هذه المناسبة السانحة، لنعبر لكم عن إشادتنا بالعمل الجبار، الذي يقوم به مجلسكم، من أجل دعم هذا التوجه، من خلال وضع الاستراتيجيات المختلفة، والخطط المرحلية، وتنظيم أوراش العمل المتعددة. وهو ما يساهم إيجابيا في خلق وعي عربي متناسق ومتجانس، يؤمن بمفاهيم العمل الأمني الهادف، وبدوره المركزي في خلق الظروف الملائمة، للحفاظ على منظومة القيم والحقوق، وتعزيز دينامية التنمية.
وإننا نعتبر إن لقاءكم اليوم بمدينة مراكش، بمثابة انطلاقة جديدة لمجلس وزراء الداخلية العرب، ولاسيما في ظل المتغيرات الكبرى، التي تعرفها المنطقة، والظروف المحيطة بعالمنا العربي.
وهو ما يضع على عاتقكم مسؤوليات جسيمة في القطاعات التي تشرفون عليها، والتي تستوجب عليكم العمل على توحيد المواقف، وتعزيز سبل التنسيق الوثيق والتشاور البناء، الكفيلين بالدفع بالعملية التنموية، لضمان الأمن والاستقرار.
وختاما، أجدد الترحيب بكم في بلدكم الثاني المغرب، داعيا الله عز وجل أن يكلل أشغال الدورة بالتوفيق، لما فيه خير وصلاح شعوب أمتنا العربية.
(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) صدق الله العظيم.