عندما تعود بيّ الذِّكَر إلى سنيّ حياتي بالمدرسة أتذكر أن مقررات المطالعة وكتب الشعر كانت تزخر بقصائد لشعراء أجلّة أثروا حيواتنا وأحيوا نار الفكر ووجده فينا؛ من أولئك العظماء الشاعر العراقيّ الفذ، بدر شاكر السيّاب، الذي حمل اسم بلده (بلاد الرافدين) سفيرًا للشعر وللأدب بكل أنحاء الدنيا. تهافت القراء عليه من كل صوب وحدب فطبعت الصحف شعره وتُرجمت قصائده إلى اللغات الأجنبيّة (الإنجليزيّة، الفرنسيّة، وحتى الروسيّة على سبيل المثال لا الحصر). نشأ في حقبة استوطنت بها أيادي الاستعمار بكل أرجاء الوطن العربيّ فلم يخفت صوته ولم يُلجم يراعه في صريح الكلم وبلاغة اللسان. أثرى المكتبة العربية بدرر القصائد النابعة من إحساس مرهف وروح فيّاضة بالخيال الشعري وجمال الصور والتجسيد، راسما تارة وتشكيليًّا تارة أخرى لما يقلق الإنسان وما يجوش بخاطره من قضايا مصيريّة. بدرٌ بحق وحقيقة وإبداع شعريّ فوق التصور. يعد السيّاب من أشهر شعراء بلاد الرافدين في القرن العشرين ويعتبر أحد مؤسسيّ قالب الشعر الحرّ الذي صار في وقتنا الحالي السليقة السائدة لأغلب الشعراء. بزغ نجم هذا الشاعر بقرية جيكور العراقيّة، وهي قريّة صغيرة تُعنى بالفلاحة والزراعة. شابت طفولته شيء من الاضطراب النفسيّ الذي كان له عظيم الأثر في بلورته احساسيه وملكته الشعريّة ذلك أنه نشأ يتيما، حيث تُوفيت والدته وهو في سنّ مبكرة من العمر. لذلك نجد مواضيع الأمومة تنساب كالسلسبيل في قصائده حيث اتخذت بها حيزًّا هامّاً لا يمكن تجاهله. زخرت حياة هذا الأديب الفذ بأطفال كثر من القصائد والدواوين الشعرية المكتنزة بالإبداع والإحساس المتدفق في الحب والفراق واللوعة. دونكم بعض القصائد لتسبحوا في عالمٍ سيّاب ينقلكم من محنة كورونا إلى آفاق الشعر والأدب. أم البروق رأيت قوافل الأحياء ترحل عن مغانيها تطاردها وراء الليل أشباح الفوانيس سمعت نشيج باكيها وصرخة طفلها وثغاء صاد مواشيها وفي وهج الظهيرة صارخا يا حادي العيس على ألم مغنيها ولكن لم أر الأموات يطردهن حفار من الحفر العتاق ويترع الأطفان عنها أو يغطيها ولكن لم أر الأموات قبل ثراك يجليها مجون مدينة وغناء راقصة وخمّار يقول رفيقي السكران دعها تأكل الموتى مدينتا لتكبر تحضن الأحياء تسقينا شرابا من حدائق برسفون تعلّنا حتى تدور جماجم الأموات من سكر مشى فينا مدينتنا منازلنا رحى ودروبها نار لها من لحمنا المعروك خبز فهو يكفيها علام تمد للأموات أيديها وتختار تلوك ضلوعها وتقيئها للريح تسفيها تسلّل ظلها الناريّ من سجن ومستشفى ومن مبغى ومن خمارة من كل ما فيها وسار على سلالم نومنا زحفا ليهبط في سكينة روحنا ألما فيبكيها وكانت إذ يطلّ الفجر تأتيك العصافير تساقط كالثمار على القبور تنقّر الصمتَ فتحلم أعين الموتى بكركرة الضياء وبالتلال يرشّها النور وتسمع ضجة الأطفال أمّ ثلاثة ضاعوا يتامى في رحبا الأرض إن عطشوا وإن جاعوا فلا ساق ولا من مطعم في الكوخ ظلوا واعتلى النعش رؤوس القوم والاكتاف … أفئدة وأسماع ولا عين ترى الأمّ التي منها خلا العشّ وفي الليل إذا ما ذرذر الأنوار في أبد من الظلمة ودبّت طفلة الكفّين عارية الخطى نسمة تلمّ من المدينة كالمحار وكالحصى من شاطئ رمل نثار غنائها وبكائها لم تترك العتمة سوى زبد من الأضواء منثور يذوب على القبور كأنه اللبنات في سور يباعد عالم الأموات عن دنيا من الذلّ من الأغلال والبوقات والآهات والزّحمة وأوقدت المدينة نارها في ظلّة الموت تقلّع أعين الأموات ثم تدسّ في الحفر بذور شقائق النعمان تزرع حبة الصمت لتثمر بالرنين من النقود وضجّة السفر وقهقهة البغايا والسكارى في ملاهيها وعصّرت الدفين من النهود بكل أيديها تمزّقهن بالعجلات والرقصات والزمر وتركلهنّ كالأكر تفجرها الرياح على المدارج في حواشيها وحيث تلاشت الرعشات والأشواق والوجد وعاد الحب ملمس دودة وأنين إعصار تثاءبت المدينة عن هوى كتوقد النار تموت بحرها ورمادها ودخانها الهاري ويا لغة على الأموات أخفى مندجى الغابة ترددها المقاهي ذلك الدلال جاء يريد أتعابه إذا سمعوك رن كأنه الجرس الجديد يرن في السحر صدى من غمغمات الريف حول مواقد السمر إذا ما هزت الأنسام مهد السنبل الغافي وسال أنين مجداف كأن الزورق الأسيان منه يسيل في حلم عصرت يديّ من ألم فأين زوارق العشاق من سيارة تعدو ببنت هوى؟ وأين موائد الخمار من سهل يمد موائد القمر؟ على أمواتك المتناثرين بكل منحدر سلام جال فيه الدمع والآهات والوجد على المتبدلات لحودهم والغاديات قبورهم طرقا وطيب رقادهم أرقا يحنّ إلى النشور ويحسب العجلات في الدرب ويرقب موعد الربّ *رئيس تحرير الجريدة العربية الدولية المدائن بوست