جولاتي وصولاتي مع صديق حميم بأسواق الرباط، سي يوسف زرّاد، أوقفتني عند أحد محال الكاسيت، ذلك في تسعينيات القرن المنصرم. وكانت تتهادى إلى مسامعنا أغانٍ ساحرة من أحد محال الكاسيت، ركن جميل وبسيط، منها أغنية أحسست بنغمها في داخل فؤادي، دغدغته دغدغة بيد أنني لم أتبين من على كلماتها: "أنا والغربة و…، عايش جوال". سألت سي يوسف بالمغربيّة: إيش كون هاد المطرب؟ وبدأ لحظتئذ يحدثني عن هذا المطرب الذي كان هو يعشقه إلى حدِّ الثمالة وبدأت رحلة جديدة لي مع المطرب المغربي الأصيل الدكالي، ولم تقف يا سادتي عند هذا العلاق بل حلّقت بي في سماء الملحون الأندلسي (الشيخ باجدو) والأغنية الشعبيّة (الشيخة نجاة أعتابو) وكلهم عشقتهم بشدّة لأني كنت حتى أستمع لبعض أغنياتهم دون أن أعرفهم ودون اكتراث، ذلك في سنيّ دراستي بليون مع أصدقائي وأحبابي المغاربة، وحتى في أسواق ليون وفي مارشيهات الأحد (أسواق الأحد – Marché aux puces)، ورحلتي اليوم أخصصها لأحدهم، الدكالي، ابن فاس، مدينة العلم والحضارة، التي بزغت شمسه بها في عام 1941 في الثاني من شهر يناير (كانون الثاني). بدأ الدكالي ومنذ نعومة أظافره في تكوين نفسه بتلقّي الدروس في الموسيقى، المسرح والرسم، فنشأ في بيئة علميّة تراثية عميقة هيأت له السبيل بل فجرت بدواخله كل هذه المواهب الخلّاقة. صعد أول مرّة على خشبة المسرح في عام 1958 بصحبة فرقة "المعمورة" المسرحيّة تحت إشراف بعض الأساتيذ الفرنسيين، وانطلق نجمه بعدها يرتاد آفاق الثريا. انتقل من مسقط رأسه بفاس إلى مدينة الفن والإبداع كازبلانكا (الدارالبيضاء) حيث التقى في نهاية الخمسينيات بالفنّان الأصيل الطيب العلج وكان لذلك في حياته الفنيّة أعظم الأثر. سجّل أول عمل فنيّ له في عام 1959 حمل عنوان "مول الخال" وبعدها بخمسة عشر يوما فقط سجل أغنية أخرى بعنوان "يا الغادي في الطوموبيل "السيّارة"، التي أحدثت رواجا كبيرا في ساحة الفن بالمملكة المغربيّة إذاك حيث وصلت مبيعاتها إلى أكثر من مليون أسطوانة. مولاي عبد الوهاب الدكالي له صوت أسمعه في كل أرجاء الوطن العربيّ وما وراءه فهو لا يقل شأنا عن كبار المطربين المعروفين، موسيقيّ من العيار الثقيل ومن الدرجة الأولى عندما نتطرق للحديث عن الطرب العربي أو المغربيّ الأصيل. كرس جلّ حياته الفنية لإمتاع محبيه بروائعه التي تجمع بين الزجل المغربي العميق، والموسيقى التي تمتد جذورها إلى بطون الفصحى وذلك على مدى أكثر من خمسين عاما. مولاي عبد الوهاب الدكالي من الأصوات الرائعة الكلاسيكيّة التي ينبغي على أي شرقيّ أن يستمع إليها، فسوف يجد كل فرد – دون أدنى شك – ضالته المنشودة في ألم الفراق، حلاوة الحبّ ونداوة التآخي وغيرها من المواضيع الإنسانيّة الرصينة. الدكالي قيصر الطرب العربيّ الأصيل بدون منازع. *رئيس تحرير الجريدة العربية الدولية المدائن بوست الصادرة من ألمانيا