الشاعر السودانيّ إدريس جمّاع إدريس جماع والفنان كريلو بمصحة الطبّ النفسي بكوبر (الخرطوم بحري): في مكالمة تليفونيّة مع أختي الكبرى نوال، رجعت بها الذِّكر إلى أيّام الطفولة الحالمة وأنها كانت تذهب في مجموعة من أبناء وبنات الأسرة مع خالنا، د.عبد اللطيف الريح العيدورس عندما عاد نهائيا من دراسة الطب بألمانيا (برلين)، إلى مصحة كوبر للطب النفسيّ (الخرطوم بحري) وكان ذلك في أواخر الستينيات وأغلب الظن ثمانية أو تسعة وستين، حيث كان يسكن خالنا الفنان المبدع عبد الرحيم العيدورس الأزهريّ، الرّسام والشاعر وعازف العود والملحن) – الملقب في حارة سكنه بحي العباسية بأمدرمان بكريلو – بغرض العلاج، الاستجمام والنقاهة. كانوا يجلسون وإيَّاه في حديقة المصحة المزدانة بأزهارها البديعة وأشجار البان والمانجو الوارفة، المترامية والممتدة الأفرع والظلال من كل صوب وحدب، وفي كل مرّة وهم يتجابدون أطراف الحديث بينهم، يؤشر لهم الخال عبد الرحيم إلى كنبة منتصبة في الجانب الآخر من الحديقة كان يجلس عليها أحد المرضى ويقول: هناك يجلس الشاعر العبقريّ إدريس جماع. ذكرت أختي أنهم كانوا من شدّة دهشتهم ينسون أنفسهم ويظلون يبحلقون في هذا الشخص التائه في الأفق: لا يتحرك، لا يتكلم، لا يتململ، كان يجلس في الفضاء مع الفضاء ناصبا ناظريه إلى الفضاء. ألا رحمهم الله جميعا بما أثروا حياتنا من أدبهم وأعمالهم النيّرة. القصة الأولى: يقال إن الشاعر إدريس جماع ذهب في رحلة علاجية إلى لندن، وفي المطار بصالة المغادرة لمح من على البعد حسناء. كانت أغلب الظن يومئذ عروسا حديثة العهد بالزواج وبصحبة زوجها. مثلت أمامه كإيزيس، آلهة الجمال، حواء الفتنة، تتبدّى أمام ناظريه في أروع مشهد، ضرب بعود أعماقه وترا حساسا، يَرِنّ، وها هي أمامه ماثلة، مجدولة بحسنها، مصقولة بألق عرائس النيل، مزدانة بالحناء وبعبق البخور، وعطر الخُمرة الصندليّ الأخاذ وبذهبية بشرتها الملساء من أثر الدخان (ساونا الدخان – التي يقمن بها العرائس قبل العرس بعدّة أشهر). لم يتحمل قلب الشاعر البضّ حلاوة المشهد فكانت الجرعة كبيرة أو كما يقولون: "أوفر دوز"، فظل يراقبها ويحرسها بناظريه، أعجبه جمالها، هندامها وطلتها البهيّة، بيد أن العريس اختزل الأمر واستشفّ بلباقة ما يدور حوله، والغيرة تُغيِّب اتزان المرء والحكمة، فولاها – دون رضاها – قبلة ترضاها، وألا تراه ويراها، وقف عنوة أمام هالتها النورانية، يغطيها من سهم عيني الشاعر جمّاع، فلم تمضِ دقائق حتى وأشعر الأخير في تلقائيته وعبقريته المعهودة، قائلا: أعلى الجمال تغار منا؟ ماذا علينا إذا نظرنا؟ هي نظرة تنسي الوقار وتسعد الروح المعنَّى دنياي أنت وفرحتي ومنى الفؤاد إذا تمنى أنت السماء بدت لنا واستعصمت بالبعد عنا إن مشهد الحسناء ووله الشاعر المفتون يذكرني بمطلع معلقة الأعشى (اللاميّة) العصماء: ودّعْ هريرة َ إنْ الركبَ مرتحلُ / وهلْ تطيقُ وداعاً أيها الرّجلُ؟ غَرّاءُ فَرْعَاءُ مَصْقُولٌ عَوَارِضُها / تَمشِي الهُوَينا كما يَمشِي الوَجي الوَحِلُ إدريس جمّاع والأعشى يلتقيان كلاهما هاهنا في مشهد الوداع وفي لحن الجمال ووصف الإبداع الربّانيّ على حد سواء. عباس محمود العقاد وأبيات قصيدة أعلى الجمال تغار منَّا: سمع هذه الأبيات الأديب المصري عباس محمود العقاد فسأل في دهشة ووله عمن نثر هذه الأبيات دررا؟ فقالوا له شاعر سوداني اسمه إدريس جماع، فسأل أين هو الآن؟ فأجابوه: في مستشفى التجاني الماحي، مصحّة نفسية لمن أصابته قسوة الحياة بصلفها فعزف عنها واختار الجنون ليفرّ بخياله إلى دنيا أحبّ إليه من دنيانا، فقال: هذا مكانه دون أدنى شك، لأن من يُشعر بهذه العبقرية، فهو مجنون (كمجنون ليلى)، لعمري، إن هذا الكلام لا يقوله عاقل! القصة الثانية: وعندما وصل جماع إلى مكان علاجه بالمستشفى الإنجليزي بلندن كان للممرضة الإنجليزية عيون آية في الجمال، فأصبح ينظر إليها ويبحلق بها حتى أوجست منه خيفة، فأخبرت حينئذ مدير المستشفى فأمرها أن تلبس نظارات سوداء، ففعلت، وعندما رآها فيما بعد، أنشد يقول: السيف في غمده لا تخشي بواتره وسيف عينيك في الحالين بتار وعندما أخبرت الممرضة بما أشعر هذا الشاعر السودانيّ أجهشت بالبكاء، ويحسب بعض نقاد الأدب، أن هذا البيت من أبلغ أبيات الشعر في الغزل في العصر الحديث، والروايات في ذلك الأمر. من قصائده التي ذاع صيتها نختصر الأبيات التالية: إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه صعب الأمر عليهم ثم قالوا اتركوه إن من أشقاه ربي كيف أنتم تسعدوه * رئيس تحرير الجريدة العربية الدولية المدائن بوست الاسبوعية الصادرة بألمانيا