داخل الأسوار العالية لقصور الملوك العلويين، يتوقّف الزمن كلّما ارتفعت الأصوات بالزغاريد والاحتفاء، إيذانا بزواج أحد أبناء الأسرة الملكية. موروث متراكم على مدى عقود وقرون طويلة، تحييه مناسبات الأفراح التي تحلّ في ديار السلاطين، ليُستخرج سجلّ العادات والتقاليد، إيذانا بفتحه من جديد، وضبط المراسيم على إيقاعاته الدقيقة والعريقة. وأول خطوة دأب الملوك العلويون على القيام بها في مناسبة مماثلة لحفل زواج الأمير مولاي رشيد الذي أجري هذا الأسبوع، تحديد لائحة المدعوين إلى العرس الملكي أو الأميري، وتدخل بدورها ضمن اختصاص الملك. المؤرّخ عبد الرحمان بن زيدان يحيل في كتابه «العز والصولة» على وثائق قال إنه جمعها، وتبيّن كيفية حصر السلطات لائحة المدعوين إلى حفل الزفاف، خاصة من صفوف كبار الموظفين والولاة وأعيان الدولة، مع ما يعنيه ذلك من تعبير السلطان عن رضاه ومباركته لعمل هؤلاء الموظفين والمسؤولين، في مقابل سخطه على الغائبين عن لائحة المدعوين. ومن جانبه، يتوقّف المؤرّخ المتخصص، عبد الهادي التازي، عند طريقة اختيار الأسرة التي يقودها ملك، لعريس أو عروس من خارج الأسرة. «عندما يريد الملك أن يتزوج فإن الإشعار يعطى في بداية الأمر لولاة المملكة لتقديم ترشيحات بالأسر الموجودة، وتؤخذ بعين الاعتبار في ذلك مطالب وحدود معينة، من حيث الأسرة والوضع الاجتماعي، والمكانة التي تحظى بها المرشحة في وسطها الاجتماعي». بعد صدور القرارات الملكية السامية باختيار العرسان والمدعوّين، تسود أرجاء القصر الملكي أجواء احتفالية كبيرة يكاد المغرب لا يشهد مثيلا لها في غير هذه المناسبات. فرق فلكلورية وأخرى متخصّصة في إحياء الحفلات تتوافد على المدينة التي يقام فيها العرس الملكي أو الأميري، إلى جانب مجموعة الهدايا التي يبعثها كل إقليم أو منطقة لمباركة العرس المقام في الحضرة الملكية. وعندما أقدم المؤرّخ عبد الهادي التازي على تأليف كتاب يجمع عادات وطقوس الأعراس المغربية، بادر الملك الراحل الحسن الثاني إلى استدعائه ومناقشته في مضامين الكتاب، ملاحظا عليها غياب الجزء الخاص بأعراس العائلة الملكية. وأغرب ما كشفه الملك الراحل الحسن الثاني للمؤرخ عبد الهادي التازي، يتمثل في طريقة القصور الملكية في عقد القران، حيث يتم بباب دار القصر، وليس بداخله، «وهو أمر يدخل في إطار الدلالات الحضارية والرمزية لزواج الملك، ويقصد به إشعار المرأة أو الأميرة بأنه لا مجال أمامها للعودة إلى بيت أهلها، وأن على كلا الجانبين تحمل الآخر»، يقول التازي، مضيفا أن لذلك «دلالة رمزية لطيفة تبين أن اللقاء المقدس بين الملك وزوجته، ورغم مركز كل واحد منهما، هو لقاء تباركه السماء والشرائع، وهو لقاء يقوم على ميثاق ينبني على التآلف والتحاب إلى آخر لحظة». مصادر تاريخية عديدة تؤكد أن السلاطين العلويين يحرّمون على «الشريفات» العلويات بالزواج من رجل من خارج العائلة العلوية. وهي القاعدة التي استمرّ العمل بها إلى غاية العام 1929. فيما كان للملك الراحل الحسن الثاني موقف صريح في رفض إمكانية زواج أفراد أسرته الذكور من أجنبيات، معبّرا عن تفكيره في إصدار قانون ينصّ على هذا التحريم، لكن قواعد تدبير ارتباطات أفراد الأسرة الملكية، تخلّصت من هذه المحرّمات، مثلما تخلّصت من قاعدة احتجاب زوجة الملك وبقائها في الظل. فقبل شهور قليلة، أقدمت حفيدة ومدلّلة الملك الراحل الحسن الثاني، الأميرة للا سكينة، على الارتباط بشاب لا ينحدر من أصل علوي. وقبلها ببضع سنوات، عقد ابن عم الملك، الأمير مولاي إسماعيل قرانه على شابة ألمانية. لتواصل رياح التحديث والعصرنة هبوبها عبر المنافذ الضيقة نحو باحات المشور السعيد.
طقوس الأعراس في قصور الملوك العلويين يعتقد كثير من الباحثين والمتخصصين الأكاديميين في شؤون المؤسسة الملكية بالمغرب، أن ما يصطلح على تسميته ب«المجال المحفوظ» يقتصر على الدفاع والأمن والعلاقات الخارجية والشؤون الإسلامية؛ وينسون أن مجالا آخر يتعلّق بمصير ومستقبل شريحة واسعة من الأمراء والأميرات وأقارب الأسرة الملكية، وما كان يعتبر مجتمعا من «العبيد» الذين يحيطون بالإقامة الملكية ويخدمون الملك، رهين بقرار شخصي ومباشر ورسمي من الجالس على العرش ومباركته، وهو قرار الزواج من عدمه، بل والقيام باختيار شريك الحياة والشروع في إجراءات الارتباط به، بل إن خطوة الانفصال نفسها تظلّ إلى حدّ بعيد رهينة القرار الملكي ومباركته. احتفالات القصر الملكي المتواصلة هذه الأيام بمناسبة زواج ثاني أبناء الحسن الثاني، والشقيق الوحيد للملك محمد السادس، الأمير مولاي رشيد، تعيد إلى الواجهة وبقوة كبيرة، تفاصيل الأعراس الأميرية والملكية، ومظاهر التشبّث بتقاليد عتيقة وراسخة في المحيط الملكي. فبعد مرور أكثر من عقد من الزمان على الزواج الملكي الذي أخرج لأول مرة في تاريخ الدولة العلوية زوجة الملك إلى الأضواء، يعود زواج الأمير مولاي رشيد ليؤكّد هذا الحرص على الجمع بين طقوس وعادات «دار المخزن» في الاحتفاء بزيجات أمرائها وملوكها، وجرعة جديدة من التحديث والعصرنة. لحظة الزواج الملكي أو الأميري، وعلاوة على كونها إشهارا لارتباط أحد أفراد الأسرة الملكية وتأسيسه أسرة جديدة، حملت منذ قرون طويلة معاني كبيرة تجعلها محطة لاجتماع مكوّنات الدولة وممثلي الفئات الاجتماعية للفرح، لكن أيضا لتأكيد وتجسيد سمو الأسرة الملكية وتبوئها مرتبة الصدارة، وإعطائها القدوة والنموذج في كيفية الاحتفاء بأكثر لحظات العمر أهمية وتأثيرا في مسار الحياة الشخصية والاجتماعية. ومثلما يعتبر الملك سيّد البلاد وصاحب الأمر والنهي فيها، فإنه في لحظة الاحتفاء بزواج أحد أفراد أسرته أو ساكني قصره، يتصدّر المشهد باعتباره المسؤول عن تزويج هؤلاء المحيطين به، بالاضافة إلى القيام بتزويج أعداد كبيرة من أفراد «رعيّته» العاجزين عن تمويل خطوة دخولهم إلى القفص الذهبي. قاعدة لم تتآكل رغم كل مظاهر التحديث والتحوّل التي شهدتها المظاهر الخارجية للحياة الملكية في عهد الملك محمد السادس. فرغم إقدامه على القطع مع الكثير من الممارسات المرتبطة بظاهرة الحريم والجيوش الكبيرة من النسوة التي ظل السلاطين يحيطون أنفسهم بها، إلا أن محطات كثيرة لارتباط أفراد من الأسرة الملكية أكدت احتفاظ الملك محمد السادس بصفة الآمر الناهي في موضوع الزواج، أشهرها محطتا زواج كل من حفيدة الملك الراحل الحسن الثاني وأميرته المدللة للا سكينة، وابن عم الملك المقرّب منه الأمير مولاي إسماعيل، رغم أن هذا الأخير اختار الارتباط بزوجة أجنبية هي الألمانية أنيسة ليمكول. فالإعلان عن موعد الاحتفال وعقد القران ظلّ في جميع المحطات الاحتفالية داخل الأسرة الملكية، يمرّ عبر تأكيد الموافقة الملكية والحضور الشخصي للملك عملية عقد القران باعتباره صاحب الكلمة الفصل.
الزواج اختصاص السلطان الأستاذ الأمريكي للعلوم السياسية، والمتخصص في شؤون المنطقة العربية، جون بيير أنتليس، التفت إلى موضوع الاحتفالات الملكية بمناسبة زفاف أحد الأمراء أو الأميرات، في كتابه حول البعد الثقافي في السياسة التي ينهجها النظام السياسي المغربي. الباحث الأمريكي وبعد فصول طويلة أكد فيها التوجه الذي رسّخه الملك الحسن الثاني لنظامه السياسي، القائم على إحياء الموروث التقليداني والجمع بينه وبين الواجهة الحديثة للدولة، توقّف عند حفل زفاف الأميرة للا مريم الذي جرى عام 1984، واتّسم، حسب صاحب الكتاب، بمظاهر احتفالية كبيرة تم نقلها عبر القناة التلفزيونية الرسمية. واستغرب الباحث عدم إثارة تلك الاحتفالات، التي اعتبرها باذخة، أي انتقادات أو احتجاجات شعبية، علما أنها جرت في ظرف واجه فيه المغرب صعوبات اقتصادية خانقة اضطرته إلى انتهاج سياسة التقويم الهيكلي. واستشهد صاحب الكتاب بشهادة مواطن مغربي، وهو مهندس متوسط العمر، قال للباحث إن المغاربة يريدون أن يستمر ملكهم في «العيش حياة الملوك رغم كل الظروف»، ثم تصريح آخر نسبه الكتاب إلى الحسن الثاني، قال فيه: «إن الأمر لا يتعلّق بعرسه هو شخصيا، بل بعرس جميع المغاربة». في سياق المتابعات الدولية لزواج الملك محمد السادس، كان المؤرّخ المغربي عبد الهادي التازي قد أجرى حوارا مع جريدة الشرق الأوسط، أبرز فيه خصائص ومميزات الأعراس الملكية، حيث لم يكن في الحقيقة سوى نقل لما قاله الملك الراحل الحسن الثاني شخصيا، في لقاء استدعى إليه التازي بمناسبة صدور كتابه الخاص بتقاليد الأعراس المغربية. الحسن الثاني أبدى ملاحظة أساسية مفادها عدم تضمين الكتاب وصفا لطريقة تنظيم الأعراس داخل الأسرة الملكية. «كنت سعيدا أن أتلقى منه هذه الملاحظة التي خولتني فرصة الاجتماع به في جلسة خاصة مطولة استفدت منها الكثير، وعلمت الكثير عن تقاليد القصور الملكية في القديم»، يقول التازي، قبل أن يضيف أن أهم تلك الخصوصيات التي أطلعه عليها الحسن الثاني، تلك المتعلقة بكيفية اختيار زوجة الملك في تاريخ القصور الملكية المغربية، ذلك «أنه عندما يريد الملك أن يتزوج فإن الإشعار يعطى في بداية الأمر لولاة المملكة لتقديم ترشيحات بالأسر الموجودة، وتؤخذ بعين الاعتبار في ذلك مطالب وحدود معينة، من حيث الأسرة والوضع الاجتماعي، والمكانة التي تحظى بها المرشحة في وسطها الاجتماعي». معلومات يقدمها الولاة وأعوانهم دون أن يعرفوا السر الكامن وراء طلبها، لتأتي الخطوة اللاحقة «وتتعلق بعملية الاختيار من الترشيحات المنتقاة في مستوى متقدم، وعندها تقع اتصالات أخرى ذات طابع خاص، ويتعلق الأمر باتصالات تجريها دائرة قريبة جدا للملك في القصر الملكي، وهي اتصالات تهتم بجميع النواحي، وأقصد بذلك النواحي الخُلقية والخِلقية والسيرة والسلوك».
عقود عند عتبة القصر أهم وأغرب ما كشفه الملك الراحل الحسن الثاني للمؤرخ عبد الهادي التازي، يتمثل في طريقة القصور الملكية في عقد القران، حيث يتم بباب دار القصر، وليس بداخله، «وهو أمر يدخل في إطار الدلالات الحضارية والرمزية لزواج الملك، ويقصد به إشعار المرأة أو الأميرة بأنه لا مجال أمامها للعودة إلى بيت أهلها، وأن على كلا الجانبين تحمل الآخر»، يقول التازي، مضيفا أن لذلك «دلالة رمزية لطيفة تبين إلى أي مدى يعتبر اللقاء المقدس بين الملك وزوجته، ورغم مركز كل واحد منهما، لقاء تباركه السماء والشرائع، وهو لقاء يقوم على ميثاق يتأسس على التآلف والتحاب إلى آخر لحظة». أما فقرة تزويج عدد من أبناء الشعب بمناسبة العرس الملكي أو الأميري، فأعادها التازي إلى نحو خمسة قرون، وتحديدا إلى عهد السلطان مولاي إسماعيل، «هي فرصة يختار ضمنها عبر الولايات، ضعاف الحال من الشباب لمساعدتهم على إتمام نصف دينهم والزواج في نفس يوم زواج الملك. وهي تجسد قيمة ومعنى في منتهى الرقة بالنسبة إلى ملك البلاد الذي يريد أن يشترك معه أبناء رعيته في لحظات السرور والبهجة التي يعيشها، وهي لحظات لا تنسى ولها غدها بالنسبة إلى أولئك الشبان والفتيات الذين تستمر الرعاية الملكية لهم بعد الزواج». وإذا كان كثيرون يعتبرون أن الملك الراحل الحسن الثاني هو من أحيى كثيرا من الطقوس والعادات ذات الدلالة والرمزية الكبيرة، فإن بعض الباحثين يعتبرون أن روح وجوهر هذا البناء المؤسساتي التقليداني الذي أقامه الملك الراحل، يتلخّص في ما حمله كتاب «العز والصولة»، لصاحبه عبد الرحمان بن زيدان. هذا الأخير لم يغفل موضوع الاحتفالات بزيجات الأمراء والأميرات وأعراس البلاط الملكي، وخصّه بفقرة مستقلة وملاحق ترصد تفاصيل العادات الملكية في الأعراس. تفاصيل تقول مصادر متعددة من العارفين بخبايا الحياة خلف أسوار القصور إن جميع الأعراس الأخيرة التي شهدتها المملكة، بما فيها عرس الأمير مولاي رشيد، لم تختلف عنها «بل إن حضورك أحد حفلات الزفاف داخل القصر سيجعلك تعتقد أنك سافرت في الزمن قرونا طويلة إلى الماضي، حيث تتم استعادة جميع مظاهر الاحتفال القديمة»، يقول أحد تلك المصادر. «في كل عام ينظر السلطان نظرا خاصا في البنين والبنات من عائلته الكريمة خصوصا، وبؤساء الرعية عموما، فيصدر أوامره للنقباء بتقييد عدد يعينه لهم من الشريفات والشرفاء النزهاء الأطهار الذين أقعدهم القل عن التزوج والرغبة في مصاهرتهم وقواد الجيش كذلك»، يقول ابن زيدان في بداية فصله المخصص لأعراس القصر العلوي، مضيفا أن هؤلاء المرشحين للزواج إلى جانب الأمراء من أبناء الشعب، يخضعون لتحقيق دقيق حول هويتهم، «مع بيان ترجمة كل فرد من أولئك الأفراد اسما ونسبا وحرفة ومسكنا وحالته الاقتصادية وسيرته، فإذا رفعت تلك التقاييد إلى الحضرة الإمامية ودرستها الجلالة السلطانية، اختار كل ما يناسبه من كرائم القصور الإمامية شريفات وحرائر وإماء، فإذا وصل الإبان الذي شاءت الجلالة جعل وليمة العرس فيه، أمر بالإتيان بالمعينين للزواج من الرجال والنساء لشريف الأعتاب، فيدخل النساء داخل القصور، ويتوجه الرجال إلى المحال المعدة لاحتجابهم برحابها، ويجتمع عليهم أقاربهم وأفراد العائلة».
تنظيم الأعراس أول خطوة إذن في تنظيم الأعراس الملكية والأميرية، هي استضافة الأزواج المرشّحين لعقد القران برفقة المنتمين إلى الأسرة الملكية. مهمة تحديد لائحة المدعوين إلى العرس الملكي أو الأميري، تدخل بدورها ضمن اختصاص الملك. عبد الرحمان بن زيدان يحيل في كتابه على وثائق قال إنه جمعها، وتبيّن كيفية حصر السلطات لائحة المدعوين لحفل الزفاف، خاصة من صفوف كبار الموظفين والولاة وأعيان الدولة، مع ما يعنيه ذلك من تعبير السلطان عن رضاه ومباركته عمل هؤلاء الموظفين والمسؤولين، في مقابل سخطه على الغائبين عن لائحة المدعوين. أجواء احتفالية كبيرة تحيط بهؤلاء المدعوين الذين يستضيفهم القصر الملكي، «والمطربون لا يفارقونهم ليلا ونهارا في سائر أيام الوليمة التي لا تقل عن سبعة أيام، ومثل ذلك يكون بداخل القصور عند الزوجات، فإذا كان عصر ليلة الزفاف أتى بالخيول المطهمة مسرجة لركوب المحتفل لعرسهم، وحضرت الموسيقى وأصحاب المزامير والطبول، وفرسان الجيش والقبائل وغيرهم». العريس المنتمي إلى الأسرة الملكية يكون سلطانا حقيقيا في هذه المناسبة، حيث يعيّن له وزير، مهمّته حمله على ظهره إلى أن يوصله إلى الفرس المخصصة لركوبه، «فيركبه غير متمنطق متلففا بإزار أبيض، لابسا برنسا أبيض أو أخضر غالبا، مسدولا على وجهه غطاء رأسه من برنسه، ويأخذ بزمام فرس كل عروس من يعين لذلك من أصحاب الرؤى، ويكون واحد منهم عن اليمين وواحد عن الشمال يروحان عليه بمناديل من حرير أخضر في الغالب، ويتوجهون في حفل عظيم وحفاوة تتجسم فيها ضخامة الملك وعظمة السلطان للمرور على ساقية من مجاري الماء أو زيارة ضريح من مشاهير أضرحة الصالحين للترحم وقراءة الفاتحة وإهداء ثوابها لصاحبه، ويقفون ردحا من الزمان بمشور من مشاور القصور السلطانية، والطبول تضرب والمزامير تنفخ والموسيقى بنغماتها تصدح والخيول تتسابق وتطلق طلقات البارود».
رقص إلى مغيب الشمس مظاهر احتفالية تجمع بين مختلف فنون المغرب، تستمر إلى غروب الشمس، موعد يعود معه الموكب الاحتفالي إلى المكان الذي خصص للجلوس، «فإذا صليت العشاء، أتى بالعروس في موكب فاخر لمحل يعد لهم برحاب القصر، ويجلسون على المنصة، ويحضر العمال والولاة والموظفون وأعيان الجيوش وذوو الحيثيات والعسكر والموسيقى، وتخرج أواني الحناء من القصور المولوية، فيجعل لكل عروس منها شيء في يده فتدلك به وتوضع مائدة صفر غالبا توضع فيها الهدايا التي يتبرع بها العمال والموظفون وغيرهم، فيجعل كل ما قدم في كيس أو غلاف ويكتب عليه اسمه، ثم يجعل بذلك تقييد يقدم للسلطان ليعلم على التعيين القدر الذي قدمه كل واحد منهم ممن ذكر، فإذا تم هذا الحفل يؤتى بالعدول أو القاضي والأزواج والزوجات وأوليائهن أو وكلائهن من الحاجب أو نائبه ليقع العقد ويحضر أمين الصائر القدر المعين لصداق كل مما تبرعت به الجلالة، ويسلمه للعدول ليسلموه معاينة للأولياء أو الوكلاء، ثم سيُذهب بكل للمحل المعد لزفافه برحاب القصر»، يقول ابن زيدان. في تفاصيل العرس داخل أسوار القصر، حسب ابن زيدان، نجد أن العريس يجلس بعد يوم احتفالي طويل ويخضب كفه بالحناء، حتى إذا بقي نحو ساعة لطلوع الفجر، «جاء المكلفون بالرجال والمكلفات بالنساء، ليصحب كل من كلف به إلى المحل المعد له، وفي عصر كل يوم توضع كراسي للمتزوجات يجلسن عليها في أفخر زينة والمغنيات والمطربات يدففن ويغنين أمامهن إلى أن تصلى المغرب ويخرجن لأزواجهن، وعلى هذا يستقر العمل سبعة أيام وربما امتد أربعين يوما». أسبوع كامل إذن من الاحتفالات المكثفة، ينتهي بإجراء نساء المحيط الملكي عادة راسخة في التقاليد المرعية، حيث «يتمنطق الرجال والنساء، ويعقدون أزرار ملابسهم، إذ العادة أنهم لا يعقدونها من يوم الزفاف إلى اليوم السابع، ويسمى لديهم ذلك اليوم بيوم التحزام. وبعد ذلك يتوجه إلى محله من لم يكن من أهل القصور السلطانية مغمورا بالنعم الضافية، مصحوبا بالملابس والصلات والعوائد، ومن كان من العائلة أو سكان القصور يعد لهم محل من محال رحاب القصر، تخرج العروس فيه لبعلها بعد الغروب، وتدخل لمحلها من القصر بعد الفجر، وربما أنعم على البعض بدور من الدور السلطانية يسكنونها، وتجرى عليهم النفقة من جملة تموين القصر، ولا يطالب الزوج بنفقة ولا سكنى أبدا، إن كان من غير الذين تجرى عليهم النفقة السلطانية». وإذا كانت زيجات الأميرات تحاط بهالة من البهجة والفضول لمعرفة كل صغيرة وكبيرة عن المحظوظ الذي كُتب له الارتباط بإحدى قريبات الملك، فإن عرس الأمراء يوجّه فضول المتتبّعين نحو معرفة أصل ونسب الملتحقة الجديدة بالبلاط الملكي. فالنساء كنّ مع تعاقب السلالات الحاكمة للمغرب بمختلف مرجعياتها المذهبية والسياسية، مضطلعات على الدوام بأدوار سياسية واستراتيجية غير هيّنة. ولم تخرج قصور السلاطين العلويين، خاصة منهم الذين صادفت عهودهم فترات ازدهار واستقرار، عن صنوف الجواري والإماء والزيجات المتوالية. وكان لهم بالتالي «حرملك»، أي مكان للحريم، لا يقل حجما ولا إثارة عما يعرفه الناس اليوم عن الغرف الخلفية لقصر السلطان سليمان القانوني بفضل الآلة الجبارة التي تسمى التلفزيون، وهو الجزء من القصر الملكي الذي لا يخلو من رهانات وصراعات سياسية، لكن، وفي مقابل حرية السلطان والأمراء في الاختيار بين مختلف الجهات والقبائل قبل اتخاذ قرار الزواج، فإن الأميرات (الشريفات) بقين إلى وقت قريب ممنوعات من التطلّع إلى خارج أسوار القصر والحلم بالارتباط بأجنبي عن العائلة العلوية.
«الشريفات» تحررن الدبلوماسي البريطاني جون وندسون، الذي حلّ بالمغرب أواخر القرن ال17 لمفاوضة السلطان مولاي إسماعيل لإطلاق أسرى بريطانيين لدى المغرب، لاحظ كيف أصبح ل«الإمبراطور» مولاي إسماعيل، الذي كان يتوفر على أربع زوجات وآلاف من نساء حريمه، عدد كبير من الأبناء. «ويقال إن له سبعمائة من الأبناء قادرين على ركوب الخيل، أما عدد بناته فغير معروف، لأنهن لا يظهرن بالمرة. وبمجرّد ما يبلغن سن الزواج، يعقد عليهن لبعض الشرفاء من تافيلالت بقصره، ثم يبعثهن مع أزواجهن إلى هذا الإقليم». قاعدة أكدت مصادر تاريخية أخرى أن السلاطين العلويين كانوا يعملون بها، حيث لا يُسمح ل«الشريفات» العلويات بالزواج من رجل من خارج العائلة العلوية، حيث سرد الدبلوماسي الفرنسي أوجين أوبان، في كتابه «المغرب في الاضطراب»، كيف كان الشرفاء العلويون الأبعد عائليا عن السلطان، ينصهرون وسط عامة الشعب، حيث يعيشون حياة عادية ككل الشرفاء العاديين، إلا أن جلّهم يتمتعون برواتب قارة. ويترّكز معظمهم في مدن فاس ومكناس وتافيلالت، مع قلة قليلة منتشرة بين القبائل. «أما الشريفات، فيخضعن لنوع من الرقابة، حيث يمكنهن العيش بطريقة عادية، لكنهن لا يستطعن الزواج ممن شئن، فاللواتي لا يصادفن شريفا علويا راغبا في الزواج منهن، يُجبرن على البقاء كفتيات عوانس. وإن لم يكن لهن آباء يعلنهن، فإنهن يلجأن إلى واحدة من الدارين المخصصتين لاستقبالهن في مدينة فاس. والذي يتجرأ على الزواج بشريفة علوية بشكل خفي، يتم اعتقاله وسجنه إلى أن يطلقها». الملك الراحل الحسن الثاني، وهو يؤسس من جديد لأعراف وتقاليد العيش داخل الأسرة الملكية، وضع قيدا آخر على الأمراء الذكور، يتمثل في تحريمه الزواج بأجنبية. الملك الراحل قال في استجوابه المطوّل المنشور في كتاب «ذاكرة ملك»، إن الأمر يشغله كثيرا إلى درجة «أنني أفكر في تحرير ظهير بشأنه، وليس قانونا، لأنه سيمس مجالي أنا كما سيمس الملكية وأفراد عائلتي… لأنني أريد أن أحظر، وإلى الأبد، الزواج بأجنبية ولو كانت عربية أو مسلمة، فالوطنية والتعلق بالوطن والتمسك بأصالته أشياء نرضعها مع حليب أمهاتنا، كما أريد أن أقنن في الوقت نفسه زواج الأمراء أو ملوك المغرب». رغبة الح�