بانت على سطح الأحداث في تيغسالين هذه السنة حركية جد إيجابية، تنطلق من الشباب وتعود إليه في ثنائية تبادلية تحكي عن علاقة تأثير وتأثر، ملخصة في مفهوم الفاعلية بما يحمله من علائم ودلائل الإيجاب وحب البذل والتطوع. يقول أحد منظري فكر الأنوار، إن الولادة ولادتين الأولى بيولوجية والثانية ثقافية. أن تولد ثقافيا فالأمر يتطلب عملية قيصرية، فيها من الصعوبة وبذل المجهود المضاعف الكثير، وفيها من التركيز والمساءلات والمطارحات والملاحظات والفرضيات والتجارب والقوانين والتحاليل والجدليات والتناقضات والتيهانات، الاستقراءات والاستنباطات، بغية التأسيس لملكة نقد تمكن من الاستدامة في بحر المعرفة الذي لا شاطئ له. المعرفة أو الثقافة مساءلة تفرض ذاتها وفق شروط معينة ومن أجل غايات ومرام، تحاول فيما تحاول نفض الغبار وتحقيق الحد الأدنى من الحضور الحضاري وترجمته عبر وسائط، كما ممارسة النقد والانتقاد. فما الثقافة ؟ يعرفها المفكر عابد الجابري بأنها : "الحذق والذكاء وسرعة الفهم، فهي من هذه الناحية خصلة عقلية وليست مفهوما مجردا". فالمراكمة اليومية والعمل الدؤوب والانهماك نمضي إلى الضفة الأخرى عبر جسر الثقافة، نقطع مع فكر الخرافة والموروث الماسخ ونربط الصلة بالحداثة والفكر الكوني ونعلن الانتماء إلى الهامش والمهمشين، في خطوة لسبر غور اللامفكر فيه والمنسي، وخلخلة الطابوهات، إنه ببساطة عدم التخلي عن قناعة البسطاء والانتساب إلى البسطاء، كما قال الأستاذ حميد اتباتو خلال تكريمه بتيغسالين. نستحضر هذا السيد بحس فيه قليل من الألم لمغادرته بلدتنا العزيزة التي كان لها الحظ في احتضان واحد من أعمدة الفكر المغربي، وأمل لا ينفصم وعرفان للسيد الذي بذر ثقافة جديدة لم يكن لنا عهد بها، هي ثقافة سينمائية من خلالها تمكنا من توقيع صك مصالحة مع ذواتنا، ومهادنة واقع وترويضه وتفصيله على مقاسات جديدة تصلح ما فيه من أعطاب مستفحلة . هنا تتقوى دلالة المثقف الذي يعرفه عابد الجابري بكونه : "شخص يفكر، بصورة أو بأخرى، مباشرة أو غير مباشرة انطلاقا من تفكير مثقف سابق يستوحيه، يسير على منواله، يكرره،يعارضه، يتجاوزه... والتفكير تفكير في الموضوع، والموضوع، إما أفكار وإما معطيات الواقع الطبيعي أو الاقتصادي أو الاجتماعي إلخ". وفي نفس السياق يضيف انطونيو غرامشي "إن جميع الناس مفكرون، ومن ثم نستطيع أن نقول: ولكن وظيفة المثقف أو المفكر في المجتمع لا يقوم بها كل الناس". تيغسالين تعرف النور بعض انطفاء شمعة دار الشباب لثلاث سنوات، سنة بهدف الإصلاح وسنتين بعيدا عن التألق والفاعلية المعهودة، فالقاصي والداني من أبناء بلدة تيغسالين ومن عموم المهتمين بالشأن الشبابي بالإقليم يعرف بأن تيغسالين كانت ولازالت تزخر بعديد المواهب سواء في المسرح أو الشعر أو الشطرنج ثم كرة القدم والسلة، ناهيكم عن الموسيقى وغيرها من الميادين. فحينما نستحضر المسرح باعتباره أبا للفنون فلا بد من ذكر أسماء حملت على عاتقها مهمة إنضاج التجربة المسرحية بتيغسالين ويحضرنا في ما نستحضر كل من خنيفري عبد المجيد وغوبيد سيدي علي وبوعلي مصطفى وكسكاس خلافة وعادل بوكنيد وأهقار محمد، عارفي ألعيد...(معذرة للأسماء التي لم ترد) . ثم الشعر الذي بزغ فيه نجم سيدي علي غوبيد والأستاذ خلافة كسكاس. وإذا أدرنا الطرف صوب كرة القدم فالذاكرة الجمعية لجماعة تيغسالين تختزن نجوم في الحد الأدنى صنعوا أمجادا محلية وإقليمية وجهوية، منهم حجاري وجمال غوبيد وفيلالي مولاي ادريس وموحى والشريف بنيشي، وآخرهم مستوي حمزة وهلم جرا. أليست الموسيقى مجالا يستهوي ويترك انطباعا في النفس والذاكرة، إنه الهم الذي تحمله على كاهلهم كثيرون من أمثال مصطفى بوعلي وزاينة واسماعيل 'القيتاريست'... وحتى لا أنسى وأوافي الجميع حقه فأنور السوالح فاز بالبطولة الإقليمية لتنس الطاولة، لكن أيادي خفية في الشبيبة والرياضة أحلت محله حسب أنور ابن مسؤول لا تأتيه الموهبة لا من بين يديه ولا من خلفه، بيد أن "باك صاحبي " خاصمت أنور مع طموح المشاركة في البطولة الوطنية بالرباط وتبخر الحلم بردا، وحدث مرة أخرى أن شارك نادي إشقيرن في مهرجان للشباب والمسرح بخنيفرة، لكن وإعادة للكرة تم إقصاؤه وتتويج فريق مسرحي آخر لم يرق لمستوى مجموعة تيغسالين. كم هي الكفايات والمهارات والقدرات التي تنمت فينا من خلال أنشطة دار الشباب ونحن صغار لا نكاد نرى سوى حدود أنوفنا، وبحماس طفولي تمتزج فيه الحركية والخفة والرغبة في التعرف، غصنا في الشطرنج ولعب الورق بدار الشباب تيغسالين، كما ظلينا لساعات طوال ننتظر دورنا للعب مباراة تنس الطاولة أمام حشد استهوته اللعبة، وشدت انتباهه حماسة الماجريات حوله. ولن ننسى أفلام الشارلي شابلن التي كان لنا حظ مشاهدتها عهد تكلف السيد باعوان محمد بتسيير دار الشباب. أحداث من بين أخرى ترسخت فينا، في وعينا.. وحتى لا أسهب في استحضار ماض جميل يصلح للذكرى والحنين، تهتز معه نوستالجيا ورغبة في العودة بالزمن إلى خلف قليلا، سأمضي إلى تداول الحركية الثقافية التي شهدتها دار الشباب هذا العام، حيث تأسس ناديان الأول يحمل اسم "نادي الثقافة والدعم"، وآخر سمي ب"نادي أفوس كوفوس للثقافة والإبداع". الناديان أعادا النبض لجسد تداعى واحتضر مستنجدا ومستصرخا تاريخه، إلا أن النداء لباه ثلة من الشباب والشابات يؤمنون بالفاعلية والنبش بالإبرة على الجبل، في ظل وضع أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه مأزوم، واقع القيء والكوليرا، واقع تشرذم مجتمع مدني حور عن سياقاته (ولا أعمم)، وابتغى زبانيته التصرف في الريع نكاية في العدو حسب زعمهم، واقع الاعتقال الطبقي والعطب المعيشي، واقع أنا وما بعدي الطوفان هكذا قال فلان وعلان. فلترتاحوا سادتي لأننا هنا بمنأى عن المزايدات والمناقصات، نحاول جاهدين إحياء الذي اغتيل غدرا، مسترشدين بقيم ما، وإننا وإن طال الزمن سنوافي ذاك المقهور معرفيا بالحد الأدنى المتوفر، حتى لا يسجل علينا التاريخ صفحات تفحم وجوهنا غدا. لا نستحضر هذا من مدخل المكرمات أو النبوات، بل نبتغي به استجلاء الدور المنوط بنا كمنتسبين لبلدتنا تيغسالين وللثقافة، كما انتسابنا واعتزازنا "بتامغرابيت". إنه تذكير والذكرى تنفع المومنين، حتى لا نستسلم لموتنا السريري ونكتب قدرا معكوسا. أعود هنا للتاريخ مرة ثانية راغبا في استبانة أشياء والحرص على استثباتها، لبوا دعوات الكائن الثقيل الذي هو الثقافة، وارفعوا المنع، والعنوا شيطانكم الرجيم. أعود للحديث عن الناديين اللذين نظما غير ما مرة موائد مستديرة ونقاشات مستفيضة وتداريب مسرحية وقراءة كتب أريد لها أن تسري في شرايين متصلبة، خلفت عقلا متحجرا ومتكلسا ومعلبا، وإذا كانت القاعدة السوسيولوجية تقول بأن الفعل يستوجب رد الفعل فإن رد الفعل ينمو ويتنمى تدريجيا، كما يكشر عن أنياب ستحصد أخضر ويابس المماطلين، ذوي الحاجات العامة. فدار الشباب اليوم تعاني في صمت مرة أخرى باعتبار أنها لا تتوفر سوى على أسوار معزولة، أما التجهيزات فتغيب بالبث والمطلق مما يحتم طرح التساؤل على إمكانية استفادة هذه الأخيرة من بعض التجهيزات البسيطة كلوحة شطرنج وطاولة تنس، وللتذكير فسابقا كنا نتوفر في دار الشباب على واحدة، وعلى تلفاز وآلات موسيقية ومكتبة فيها من الكتب باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية ما يتجاوز الألف كتاب، اليوم تنتصب المكتبة فارغة تستقبل وفقط التيارات الهوائية الدائرة في الفضاء. وحتى أبين على التعامل السلبي لبعض ممثلي نيابة الشبيبة والرياضة بخنيفرة فقد سبق وأن زارونا في نونبر 2016 على خلفية خلاف بسيط حدث في دار الشباب، واجتمعنا في جلسة حوارية مصغرة، كما ناشدناهم بإمدادنا ببعض الحد الأدنى من التجهيزات إلا أنهم وعدونا وعد وقف على لحظته، قال لنا المسؤول عن التجهيزات بالمندوبية أنه خلال أسبوع سيرسل لنا طاولة تنس، وفي حركة فيها من اللاجدية والمناورة تناول هاتفه وكلم أحدهم وطمأننا طمأنينة عابثة لا تحقق منها غير البروباغاندا والديماغوجية. على سبيل الختم نقول لكم رحماكم بشبابنا وشاباتنا حتى لا نقول غدا بأن فلان افتعل كذا وكذا مما هو خارج عن الشرع المجتمعي، فإن حدث هذا فالمسؤولية كل المسؤولية تحملتموها وتتحملونها. واحذروا يقظة النائم. لازلنا هنا نقول قول الشاعر " بلادي وإن جارت علي عزيزة ".