تكمن قيمة التراث الأدبي العربي في كونه يضم كنوزا جمة من الفكر والعلم والآداب والمنجزات الحضارية السامية، ولعل ذلك يلتمس مثلا فيما خلفه العباقرة الأفذاذ من نقد وفكر وآداب ما أحوجنا نحن اليوم إليه، فالعرب قديما استطاعوا أن يؤلفوا فنون الكلم وعبر الحكم الخالدة، رغم كون جاهليتهم ارتبطت بالطيش وعبادة الأصنام وسفك الدماء، فإنهم على النقيض من ذلك أهل قيم وفضائل قلما وجدت لها نظائر في يومنا هذا، إذ منهم من كان يدين بتعاليم الإسلام السمحاء قبل مجيئها كالورع والعفة والنخوة، ونذكر من هؤلاء مثلا زهير بن أبي سُلمى الذي حمل مشعل السلام والتسامح ورفضه للحرب وما تخلفه من دمار وقتل وشتات وتخريب، ويظهر ذلك من خلال قوله: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم ومن منا ينسى عفة الشاعر المغوار، صاحب الحروب وسيد البطش، حيث أخلاقه الحمية وخصاله القمينة.. فلا سمة تعلو على سيم العزة والنخوة والحمية، ولما لا ذلك وهو القائل: وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها إذ احترام الجارة وتقديس الجيران هو احترام للنفس وكمال صفاتها، دونما ننسى كذلك عروش العزة والكبرياء، ونموذج ذلك حب الشعراء لأهلهم والتفاني في خدمتهم وتقديم التضحية من أجلهم، كما يقول المقنع الكندي: فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا دون أن ننسى كذلك شاعر الفلاسفة أبا العلاء المعري الذي أبى أن ينل الخير دون غيره من الناس، فهو يأمل ويتمنى وصل الخير للبشرية جمعاء، وذلك بقوله: ولو أني حُبيتُ الخلدَ فردا لما أحببت بالخلد انفرادا فلا هطلت علي ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا كما يتضح نكران الذات والتعامل الإنساني مع الآخرين والتكافل الاجتماعي من خلال ما طرحه زعيم الصعاليك آنذاك عروة بن الورد حين يقول: أقسم جسمي في جسوم كثيرة وأحسو قراحَ الماء والماءُ باردُ إن أولى خطوات التحرر، هي تحرير العقل من ربقة المسلمات والتقاليد التي تخنقه وتقيده وتمنعه من التفكير والإبداع، فكان أبرز هذه التقاليد والمسلمات القبلية تلك التي ثار عليها شعراء الصعاليك ورفضوها، ليس ذلك فحسب، بل اقترحوا البديل العقلاني العادل لها، وساروا عمليا في هذا الطريق الذي آمنوا به وارتضوه لأنفسهم غير مبالين بنقد الناقدين، ولا لوم اللائمين، بل إنهم أخذوا يدعون الناس إلى ما آمنوا به. و سنكتفي، في هذا الموضع، بالإشارة إلى شاهد واحد على ما نقول وهو من سيرة عروة بن الورد، حيث يمكننا أن نقف على شاهد قوي الدلالة على ما يمتع به الشاعر من شخصية فذة سبقت عصرها بكثير. لَعلَّ انطلاقِي في البِلادِ وبُغْيَتي وشَدّي حَيازيمَ المطيةِ بالرَّحلِ سَيَدْفَعُني، يوما، إلى رَب هَجْمَةٍ يُدافعُ عنها بالعُقوقِ وبالبُخْلِ إنه آمن بمذهب ثوري أذكته طبيعة الحياة الجاهلية التي أوجدت في المجتمع الجاهلي طائفتين من الناس؛ طائفة مُترَفة يتوفر لها كل ما تحتاج إليه في الحياة، وطائفة مُعوِزة تعاني ذل الفقر والحرمان. فما كان لعروة إلا الانضمام إلى الفقراء والمحرومين والدفاع عن ظلمهم ونصرتهم، ومَنْ يَكُ مثلي ذا عِيالٍ ومُقْتِرًا من المال، يَطرَحْ نفسَه كلَّ مَطرَحِِ ليبْلُغَ عُذرا، أو يُصيبَ رَغيبةً، ومبلغُ نَفسٍ عُذرَها مثل منجحِ حيث يروى أن الصعاليك أتوا عروة بن الورد فجلسوا أمام بيته فلما بصروا به صرخوا وقالوا: يا أبا الصعاليك أغثنا، فرق لهم وخرج ليغزو بهم ويصيب معاشا. وفي أخباره أنه كان يساوي بينهم في تقسيم الغنائم، وأنه لم يختص نفسه بنصيب أكبر من أي منهم. وقد عدّ نفسه أباهم ومسؤولا عنهم، وعن تأمين حاجاتهم والدفاع عنهم بروحه، إذ يقول من أجل ذلك فلا أتْرُكُ الإخْوانَ، ما عِشْتُ، للرَّدَى كَما أنهُ لا يَتْرُكُ الماءَ شارِبُه. وهذا الفضل وهذه الرعاية منه للصعاليك ، لم تكن كرما عن فضل مال، ولا جودا عن كثرة خير، بل هي كرم أخلاق وتأصُّل مبادئ وإيمان بمذهب اتخذه نهجا في الحياة ، فهو يقدم رفاقه و عياله الصعاليك على نفسه ولو كان جائعا، ويكتفي بشرب الماء البارد ويعطيهم حصته من الطعام. إن ما أتينا على ذكره يبقى قلة من كثرة مما يتوفر على تلك الإسهامات الحضارية العربية القديمة، ولا يخفى على أحد أن الاعتماد على النفس وحب التضحية وإصلاح النفوس جانب مهم في حياة الشعوب والأمم. لأنه به تسود المنفعة وتعم القيم.