محامو المغرب: "لا عودة عن الإضراب حتى تحقيق المطالب"    مؤسسة وسيط المملكة تعلن نجاح مبادرة التسوية بين طلبة الطب والصيدلة والإدارة    الأمانة العامة للحكومة تطلق ورش تحيين ومراجعة النصوص التشريعية والتنظيمية وتُعد دليلا للمساطر    الشرطة الهولندية توقف 62 شخصاً بعد اشتباكات حادة في شوارع أمستردام    بورصة البيضاء تستهل التداول بأداء إيجابي    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر        كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    نقطة واحدة تشعل الصراع بين اتحاد يعقوب المنصور وشباب بن جرير    بقرار ملكي…الشيشانيان إسماعيل وإسلام نوردييف يحصلان على الجنسية المغربية    مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    غياب زياش عن لائحة المنتخب الوطني تثير فضول الجمهور المغربي من جديد    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    بيع أول عمل فني من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    ضمنهم مغاربة.. الشرطة الهولندية توقف 62 شخصا بأمستردام    مجلة إسبانية: 49 عاما من التقدم والتنمية في الصحراء المغربية    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    الجولة ال10 من البطولة الاحترافية تنطلق اليوم الجمعة بإجراء مبارتين    طواف الشمال يجوب أقاليم جهة طنجة بمشاركة نخبة من المتسابقين المغاربة والأجانب    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    طوفان الأقصى ومأزق العمل السياسي..        ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    رضوان الحسيني: المغرب بلد رائد في مجال مكافحة العنف ضد الأطفال    كيوسك الجمعة | تفاصيل مشروع قانون نقل مهام "كنوبس" إلى الضمان الاجتماعي    تحليل اقتصادي: نقص الشفافية وتأخر القرارات وتعقيد الإجراءات البيروقراطية تُضعف التجارة في المغرب        تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    المدير العام لوكالة التنمية الفرنسية في زيارة إلى العيون والداخلة لإطلاق استثمارات في الصحراء المغربية    "الخارجية" تعلن استراتيجية 2025 من أجل "دبلوماسية استباقية"... 7 محاور و5 إمكانات متاحة (تقرير)    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    الشبري نائبا لرئيس الجمع العام السنوي لإيكوموس في البرازيل    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    طنجة .. مناظرة تناقش التدبير الحكماتي للممتلكات الجماعية كمدخل للتنمية    الأمازيغية تبصم في مهرجان السينما والهجرة ب"إيقاعات تمازغا" و"بوقساس بوتفوناست"    هذه حقيقة الربط الجوي للداخلة بمدريد    1000 صيدلية تفتح أبوابها للكشف المبكر والمجاني عن مرض السكري    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    بنسعيد يزور مواقع ثقافية بإقليمي العيون وطرفاية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"شيخ الرماية" لمحمد أنقار: رواية الكشف والتأصيل والاختلاف

في هذا الزمن التراجيدي بامتياز ثمة ما يبرر هاجس كل مشتغل جاد بالأدب وكل ملبوس بهمومه العميقة أن ينتج رواية ، ذلك الكتاب الذي يسطر ملحمة الذات الكاتبة ورغبتها في تطويق الشتات وتجميع الرؤى.
ونحن في هذا المحفل الروائي البهيج الذي يتمحور حول تقديم ‘شيخ الرماية' للروائي المبدع محمد أنقار لا يمكننا إلا أن نستحضر ضمن السياق ما آل إليه الاحتفاء بفن الرواية قراءة وإبداعا في الأوساط الأدبية والثقافية بعامة في هذا الفضاء التطواني العريق. حيث أضحى الجميع مساهما برميته في الاتجاه الذي اختاره واصطفاه من مذاهب القول والإبداع ،إلا أن الأستاذ الأديب محمد أنقار يظل فوق الجميع شيخ الرماية بلا منازع. وإنني أتحمل المسؤولية كاملة تجاه هذا المعنى الذي أصله بالمرجع وواقع الحال وأربطه نصيا بعنوان الرواية، وبما يحتويه من قوة الإيحاء الموصولة بمعرفة المتلقي على ما سأثبته لاحقا . وفوق ذلك فدليلي على صدقية المعنى موفور من خلال هذا الحضور الحماسي البهي والكثيف لسدنة الحكي التطواني وفرسان الرواية التطوانية ، ولغيرهم من المثقفين الذين يعتزون بهذه المشيخة أو الريادة بالإصطلاح الآخر. سأتوّج هذا المدخل التقديمي بتأطير عتبات الرواية ومصاحباتها النصية التي تتصدر المتن على مستوى صفحة الغلاف:
عنوان الرواية: عبارة شيخ الرماية موصولة بإحالة مرجعية تتمثل في الدراية والاتقان لفن الرماية بواسطة آلة البارود. وهو تقليد أضحى اليوم باهتا وموصولا ببعض المواسم الدينية التي تقام حول الأضرحة، بعدما كان مرتبطا بالمشيخة الدينية وطرائق التصوف وما يتخللها من كرامات وخوارق. وقد ظهر هذا المذهب على يد الفقيه الشيخ (سيدي موسى الحمري) في جنوب المغرب ، الذي يعتبر أول من أدخل فن الرماية إلى مناطق الجنوب ومنها إلى الشمال كما سترى من خلال مرويات شيخ الرماية. أما على المستوى التركيبي فالعبارة / العنوان تمثل مسندا إضافيا كلمة الشيخ فيه معرّفة بالإضافة. وشأن المعرف بالإضافة أنه يفيد التقييد (تقييد الموضوع بالمحمول) . وهو يختلف عن التعريف بالأداة الذي يفيد الإطلاق والتعميم . ويرى السيرافي أن التعريف معلّق بمعرفة المخاطب دون المتكلم . فلزم من ذلك أن رهان المعنى في (شيخ الرماية) موصول بمعرفة المخاطب ويلزمه باستحضار هذه المعرفة بالشكل المناسب ومن ثم ربطها بالمقام المناسب.
صورة الغلاف: تتصدرها صورة شيخ بدوي جبار يرتدي جلبابا تقليديا وعمامة صفراء. أما الوجه فشاحب وشاخص الملامح ولكنه ينبض بالحياة. وأما النظرة التي يعكسها فموسومة بالثقة والتحدي والقدرة على المغالبة وعلى النفاذ إلى القلوب في آن. ومن باب ربط الصور والمعاني بأنساقها الإنسانية الناظمة لا يسعني إلا أن أقول في غمرة من البهجة والشعور بالمتعة البالغة أن حمولة هذا المعنى البليغ الذي تعرضه الصورة تذكرني بهذه الأبيات الثلاثة الرائعة التي تترجم بلغة العبارة هذا المسكوت الإشاري البليغ ، وهي لشيخ آخر من شيوخ الرماية الكونيين هو الشاعر الجاهلي النبيل عروة بن الورد زعيم طائفة الشعراء المتمردين الموسومين بالصعاليك. تقول الأبيات:
وإني امرؤ عافي إنائيَ شِركة
وأنت امرؤ عافي إنائِك واحد
أتهزأ مني أن سمنتَ وأن ترى
بوجهي شحوب الحقّ والحقّ جاهد
أقسّم جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قَراح الماء والماء بارد
وبجانب الشيخ على صورة الغلاف ترى شابا عصريا وسيما لكنه يبدو بالمقارنة ضئيل الحجم وأقل صلابة حتى ليكاد ينزوي في حضن الشيخ . أما ملامحه الرقيقة فتخفي بدورها نظرة خاصة موسومة بالتأمل الممزوج بالشرود والاستسلام. وخلف الرجلين وعن مسافة تنتصب صورة أنثى تبدو كأمازونية محاربة تسبح في سديم العشب الأخضر الذي يزين فضاء السهل الفسيح الممتد خارج أسوار المدينة. وهي تقاسم الشاب في مظهر الحداثة بينما تقاسم الشيخ في النظرة الصارمة التي تخفي كنه التحدي والمواجهة. ولعل في جماع هذه المؤشرات ما يمحص و يطور الرهان السابق الموصول بدلالة العنوان، من جانب مخاطبة المرجعية الثقافية للمتلقي المتخصص في المجال، حول إحدى المعاني الافتراضية التي تطوق ماهية شيخ الرماية، وهو معنى الكائن الخلاسيّ المتحرر الذي ينشط في أودية الهامش وقممه بعيدا عن دروب المركز ومتاهاته الضيقة الخانقة. ولتقوية هذا الرهان النقدي أحيل القارئ إلى متن الرواية كعنصر استباقي تحفيزي للقراءة، للتأمل في شخصية الحفيد مَحمد واستحضارها في هذا السياق باعتبارها كينونة تجتر مشاعر السأم وأشكال العزلة والانطواء من داخل أسوار المدينة .
تجنيس العمل: وأما جنس هذا العمل فيتحدد في الظاهر المعلن ضمن نطاق الرواية. والرواية بناء عليه هي فن نثري يقوم على مبدأ الانفصال والقطيعة أي على التراجيديا، ولكنه يرتبط في الغاية والمقاصد بالملحمة التي هي فن شعري يزكي الوحدة والاتصال. ومن ثم فإننا ندرك كنه التسمية والتحديد الذي قدمه لوكاش باعتبارها ملحمة بورجوازية لعالم يفتقر للالهة . ومن ثم كان منطقها جدليا قائما على الصراع والتغيير والدينامية والنفي والتجاوز. وبالنسبة للأداة وآلية البناء فهما موصولان برهانين فنيين أساسيين لا بد منهما للرواية وهما: رهان التخييل ومرجعية الواقع الموصولة بالأوتوبيوغرافي أو السيرذاتي. وذانك مكونان يساهمان في تشكيل الرواية المعاصرة ضمن ما هو متعارف عليه بالمخيال الذاتي autofiction.
فهرست الرواية: هذه العتبة بدورها لا تخلو من قوة التدليل وحمولة القراءة. حيث تقع في مائة وأربعة وثمانين صفحة، وتحيل على فصول أو عنونات ثلاثة موسومة تحت مسمى الشخوص الرئيسية: عبد الرازق ، ومحمد ، والشيخ . حيث يحتل الفصل الأول منها فضاء اثنتين وعشرين صفحة، والثاني مائة ونيف، وأما باقي الصفحات المتبقية فهي للفصل الثالث وعددها يفوق الخمسين. مما يزكي أن الفصل الثاني يحظى بثقل مركزي وبعد مفصلي وازن في إبداع هذا العمل وتدبير العلاقة بين المحكي السابق واللاحق. كما ينطوي على غواية ماكرة تتوسل الخطاب وتستحثّ مقاصد التأويل، من خلال تموقع الشخصية المحورية وتحركها عبر الفضاء الشاسع الممتد بين الماضي والحاضر والمركز والهامش وهي شخصية مَحمد، حفيد شيخ الرماية وامتداده الإشكالي . وهو تموقع يشي بالرغبة في الشرود عن صورة الذات في حاضرها التراجيدي، والبحث المهووس لتعويضها بصورة الجد عبر لحظات الماضي القريب، من خلال النبش في ذاكرة المكان والأوراق وذاكرة المحكي الشفاهي.
أحداث الرواية وعوالمها: وأما وقائع الرواية فتجري في فضاء متحرك زمانا ومكانا متوسلا في ذلك بتقنية التداعي في لبوسها التراثي الموصول بالذاكرة عبر تسخير الرواية الشفهية ومرويات الأشخاص. والمتحكم في زمام الأحداث هو شخصية ‘ مَحمد أنقار' بفتح الميم ، و يفهم من ذلك أن هذه الحركة تمثل مؤشر انزياح عن الاٌسم المرجعي الذي يزين غلاف الرواية ونعني به اسم الكاتب. محمد أنقار بضم الميم. بينما يتجه القصد من هذا الانزياح إلى تأكيد الحمولة الإشارية لهذا الملفوظ مشبعة بحركة المخيال الحكائي ، باعتباره دالا على شخصيتين شخصية الجد وشخصية الحفيد، وهي سمة تفصح بإحدى مظاهر التطوير في الرواية الجديدة كما سنرى فيما بعد. فالحفيد هو شخص شبه أمي وشبه عاطل يملك متجرا صغيرا لبيع الملابس الجاهزة يكفيه بالكاد سدّ الرمق، وقد آل إليه من تركة الأسرة. وأما الجد فهو ‘شيخ الرماية' صانع البطولات والخوارق الذي تلاحق صورته روح الحفيد التائه إلى حد الهوس فيقرر ركوب المغامرة والبحث عن قبره والإمساك بإخباره لإشباع غرور وكبرياء النسب التي تلازمه كقيمة تعويضية. وثمة حضور مركزي لشخصية أخرى تتبادل الأثر مع الحفيد بل وتتماهى معه لتشكل معادله الموضوعي وهي شخصية عبد الرزاق الصديق ورفيق الصبا. وهو موظف سام في حقل التعليم والتربية ، ومثقف موسوم بهاجس الالتزام بقضايا الراهن الجمعي، ومتعاطف أيضا مع صديقه في قضاياه، وإن كان ذلك في العمق من قبيل المجاراة والعطف والشفقة ليس إلاّ. بل إنه على المستوى الفني والبنائي يقاسمه وظيفة السرد بضمير المتكلم التي تشي في العمق بمؤشر السارد في حلة الكاتب، الموصول في ذات الوقت بخاصية التقعير السردي الذي يمثل مهيمنة أسلوبية محورية في بنية هذا العمل، في احتفائها بإعلان الشخوص عن تدخلهم المباشر في تأطير الأحداث والتعليق عليها على نحو ما يكشفه (عبد الرازق) الذي يتكفل باعتباره شخصية محورية مشاركة السرد في تقديم شخصية صديقه محمد التي تتقاطع معه في نفس الدور: ‘ أشعر الآن بارتياح إثر مساهمتي في مساعدة محمد على صياغة أخباره وحكايات جده وتفاصيل بعض مغامراته النسائية ،بل حتى مساعدته على الاقتراب من فهم نفسه من خلال الانصات إليه ومشاركته وجدانيا' ص22. هذا، بالإضافة إلى ما قد يعكسه هذا الأسلوب من وظيفة التأمل المبطن أحيانا بالسخرية المضمرة في إطار حوار الذات مع بعدها الآخر، على نحو ما تراه في هذا المونولوج الموازي لهوس الذات في بحثها عن حفريات اسم العائلة:'...- تعلم جيدا أن لقب عائلتك شائع بين الأتراك ربما اشتقاقا من اسم عاصمتهم أنقرة . فلم لا تحمسك هذه الفكرة على السفر إلى تركيا النائية وتحسم مشكل الأصل مرة واحدة ولو بطريقة مقنعة ؟ ...وسرحت بفكري دقائق بين صور العوالم الشرقية كما علقت في الذهن بفضل التلفاز، البوسفور والدردنيل ، والسراويل الفضفاضة ، والطربوش التركي والشوارب المفتولة . ولم أنس التين التركي الذي يروج بيننا في رمضان. وتابعت الطريق الميسور الذي لا يقنع: – كان بطل الدراجات التطواني أحمد المعداني أكثر حسما منك حينما تخيل أن أصله تركي فتبنى اللقب منذ البداية'.
ودون ذلك ترتبط شخصية مَحمد أنقار الحفيد بدوائر أخرى من العلاقات التي تجمعها بأنماط من النساء اللائي التي كان الوازع فيها هو فكرة الزواج وليس مجرد الصدفة. هذا، مع ما تقتضيه هذه الموضوعة من حسن التريث ومن غوص في مقاصد البلاغة ورهانات الرمز الموصول بحسّ الوئد والإحباط. مما يدفع إلى التركيز على تجديد العلاقة بالذات من خلال ملاذ تنفيسي وتعويضي يعيد لها الثقة والطمأنينة والعمق الافتراضي الضائع. ومن ثم يتولد هاجس البحث عن الجذور في الرواية موصولا بالكشف عن حفريات أسرة أنقار وأصول التسمية، عبر التنقيب في الوثائق والمخطوطات واللهث على قبر الجد بغية استحضار الأقنوم والرمز المثالي الملخص لأمجادها . بيد أن العثور على القبر المهجور النافر في العزلة والإهمال والصمت لن يجزي كثيرا في نزع الفتيل ومحو الأثر الملازم لنفسية الحفيد مشخصا بنوع من الغموض والإبهام في نكبة ‘خدوج صوّيط ‘ إحدى النسوة اللائي ارتبطت بها ذاكرة هذا الجد الأسطوري المشمول بالكرامات. لتظل هذه الشخصية حتى النهاية لغزا معلقا في دهاليز الحكي يستعصي على الفهم والتفسير بل حتى على الإدراك .
عنف التصادي أو حوار الذات مع بعدها الآخر: عمد الكاتب في هذه الرواية إلى تركيبة أصواتية تستنفر بعد الانفصال في سبيل إعادة ترتيبه في التشكيل الافتراضي لبعد الاتصال، مما يزكي تكامل البعدين التراجيدي والملحمي في بناء لحمة الرواية. الصوت الأول منبعث من قوة اللحظة ومن عنف الحاضر النثري الذي يلهج بالكوارث والفظائع يعكسه بقوة الحاضر صوت الكائن المثقف مفتش الفلسفة، المعلن عن إفلاس القيم وتصدع العلاقة بين الذات والعالم. وهو يكتفي بهذا الموقف من الشجب والإدانة ثم يعلن انسحابه . أما الصوت الثاني فهو صوت سطحي ساذج صوت الكائن المنحط الذي يرغب في الهروب من اللحظة الخانقة بما تحتويه من ضيق المكان (دكان ملابس الأطفال) وتشوّه الإنسان(المرأة المسترجلة) ، ولكن بعدّة شاعرية حالمة تتوق إلى التصالح مع الذات والالتحام مع الجوهر عبر هاجس الإحياء والاسترجاع لصورة الجد.التي تعكس سمت النبالة والفروسية في لبوسهما المحلي الموصول بالماضي القريب. محاولا من خلال ذلك أن يعيد رأب هذا التناقض ويقيم مكانه وحدة متجانسة تقوم على تحيين القيم المعلقة وجعلها الناظم الذي يعيد ترتيب المسار. فهذان الموقفان إذن، وإن اختلفا في الأسس وزوايا الرصد إلا أنهما يشتركان في لحمة البناء، وفي تأمل مشروعية الكشف عن قبر الجد أي عن جدوى القيم الموصولة بالذاكرة. إلا الأول يسعى من خلال بحثه تحقيق مقاصد جمعية موصولة بالرغبة في التجديد والتطوير بما يلائم تحولات المسار واستيعاب هموم اللحظة بما تعكسه من أثر جمعي. بينما الثاني يصبو في بحثه إلى غاية فردية نفسية موصولة بالتعويض والتنفيس catharsism عن الذات في بعدها المأساوي الوجودي الذي يكاد يعلن بشكل صريح أن الجحيم هو الآخر...
وتنتهي فصول الرواية الموصولة بتمحيص هذا المآل المختلف في ترجمة الوقائع بعد العثور على قبر الجد. حيث مثلت الواقعة بالنسبة للأول أمرا سطحيا لا يسعف بتفسير أي شيئ أو إضافة أي قيمة. أما بالنسبة للثاني فقد قوت لديه حسّ التوهم إلى حد التلبس بمطلق اليقين: (ها أنا أحس كأن الدائرة تكاد تكتمل وإن كان عبدالرزاق واثقا من أنها لن تكتمل أبدا. أما دليلي على ما أقول تمكني من الوقوف على قبر الجد كأنه بمنزلة عقدة الفيلم كما يقولون ... والواقع أن ذلك الحدث مثل إلي نوعا من اللذة أو حتى الانتصار على أشباح حقيقية ووهمية ظلت تطاردني منذ فشلي الأول مع لطيفة...) ص 131. بيد أنه يتردد بعد ذلك ويراجع أمره على نحولا يخلو من رهبة موصولة بحس الفجيعة الجاثم في النفس من ذكرى امراة لغز موصولة بصورة الجد: (لكن بعد هذا وذاك يبقى هناك الضرر المجهول الذي أصاب خدوج صويط في زمن غابر. هو جرح قديم وجديد ،وأخوف ما أخافه أن يصيبني في رحلتي الجديدة ما أصاب تلك المرأة) نفس الصفحة. ومن ثم نراه يستأنف رحلة البحث عن جذور اسم الجد، مرة عبر النبش في الوثائق والمخطوطات بالمكتبات المحلية حيث يطارده طيف فوزية الجبار المستخف الساخر، (وحينما كنت أرد المجلة إلى المكلف انقضت علي ابتسامة فوزية الشامتة كأنها تهزأ من جهلي وعقدي.) ص98، ومرة أخرى عبر الخزانات الوطنية حيث لم يكد يعثر فيها أيضا على شيء يفيد سوى طيف امرأة جديدة كان اللقاء بها هذه المرة عن طريق الصدفة فكان علامة فأل تبشر بالبلسم الشافي.
وأما انتهاء الرواية بفصل يتناول محكيات ومرويات عن شمائل الجد ومناقبه وفتوحاته وخوارقه وكراماته فلا يكاد يفسرها سوى حرص الحفيد الهاجس بذكرى الجد المتوسل بمقامه على أن يجعل من ذلك بقية من السند الروحي لدعائم النفس المحطمة على غرار ما تحققه التمائم والتعاويذ في نفس أصحابها من مشاعر التطهير والاستجابة الموصولة بالرضا والأمان. ولعل في هذه الخارقة من بين العشرات المروية عن الجد ما يجلي صدقية المعنى والمراد: (ومن الخوارق العظيمة التي روتها أمي في هدوء وراحة وفي غياب ابي ، تلك الحكاية التي سمعتها عن عايشة إحدى زوجات الشيخ الأربع الشهيرة بعاهة في أنفها جعلتها تتكلم نغنغة ...ذات مرة سمعتها أمي تروي في دهشة ووقار كبيرين أن الشيخ كان يخرج ليجاهد ضد النصارى فتصيبه بعض الطلقات ويصطدم رصاصها بملابسه فلا يخترقها وإنما يستقر في ثناياها. وعندما يعود إلى داره منهكا ويتأهب للنوم يخلع جلبابه وقشابته فيتساقط منهما الرصاص الذي لم يفلح في اختراق جسده. ص169
مظاهر أسلوبية: ومن التحققات الأسلوبية الجديدة التي تستحق التنويه في هذه الرواية، الرسم الحي للشخصيات، وتنويع زاوية النظر التي يتقاسمها في العمل الشخصيتان الرئيستان المتكاملتان ضمن السمة الوظائفية (السارد في حلة الكاتبle narrateur en auteur) (م َحمد ، وعبد الرازق) وإن كان منظور الأولى مهيمنا وحاسما. ومما يقوي الفرضية انسحاب الصوت الثاني (عبد الرازق) الذي نراه مدعوما بصوت فوزية الطالبة الجامعية المثقفة خطيبة صديقه السابقة التي انفصلت عنه بوازع عدم التكافؤ في الفكر والثقافة والمواقف.( ص24 ،ص75 79). وأمام هذا الواقع ظل المسار في بقية الرواية موكولا بالسارد الأول ومعززا بمجموعة من الأصوات الثانوية المجانسة التي استغرقتها وشملتها حكايا الفصل الثالث، والتي تشكل في حد ذاتها وظيفة المساعد. أما الانزياح الزمني المتحقق ضمن السرد فيستثمر تقنية الاستباق باعتبارها مظهرا من مظاهر تكسير الحبكة يقوم على استثمار خاصية التبئير للدلالة على الموقف. ومن ذلك استباق النهاية واستيهام الحل لمعضلات الذات مع معادلاتها الموضوعية السائبة، ممثلا في اللقاء الواعد بشخصية سلوى الموظفة القيمة على مكتبة سلا. ومن ذلك أيضا استثمار الرواية التنويع الأصواتي العاكس للنمذجات والصور الفارقة التي يرسمها الحكي لأشكال من الممارسات البشرية المتزامنة أو المتباعدة في الزمن، مع ما يلزم ذلك من استثمار مساحة التعدد اللغوي بما يناسب المقاس. أما الخاصية الأسلوبية التي تسترعي الوقوف والتريث والتأمل في هذا المنجز الحكائي فهي توظيف آلية التقعير السردي la mise en abyme أو ما يعرف أيضا بظاهرة الميتانصية التي أضحت من سمات التجريب البارزة في الرواية والمسرح، والتي تقوم على استحضار المفاهيم الموصولة بالعملية الإبداعية وتشريحها أمام القارئ المتلقي. فيتحول النص الإبداعي سواء أكان ممسرحا أم مرويا إلى حقل تجريب وفي نفس الوقت إلى آليات للتفكير في هذا التجريب.مما يكسب الإبداع مسحة تأملية تلخصها عبارة إضاءة العمل الأدبي من الداخل. وهو ما يشكل مجال إشهادt'moignage أو تمثيل ذاتي autorepr'sentation . حيث يتحفز التجريب من داخل الانعكاس المنبعث من سيرورة السرد الذاتي، إلى ممارسة نوع من التأمل لمخياله موصولا بالنشوة والرضا. وكأنه نوع من الإعلان عن الظفر بقطوف من ثمار العمل. وأول من استعمل هذا المفهوم في مجال النقد الكاتب الفرنسي المخضرم أندريه جيد في نهاية القرن التاسع عشر، ولخصه في المقولة التالية: ( يعد تقعيرا كل مرآة داخلية متأملة في المحكي) . ثم طوّره من بعده نقاد الحكي والمسرح ومن بينهم دلنباخ وجيرار جينيت...حيث أضحى المعنى الشائع لديهم حول هذا المفهوم بتعبئة محكي ضمن آخر lenchëssement dun r'cit dans un autre . واتخذوا له تمثيلات إيقونية مقاربة تجسد الوحدة القائمة على تعدد مستويات التقعير من قبيل طاقم العلب الصينية وحبّة البصلة البرية ...
فأما المجلى الأول من تجليات هذا الأسلوب ضمن سيرورة هذا المتن الروائي الجديد للكاتب أنقار فهو يتصل بالمعنى الذي وضعه المتأخرون أي بوضع الحكاية داخل الحكاية. حيث إننا نجد مسار هذه الرواية يبدأ بمحاولة الكشف عن حفريات اسم الأسرة في الوثائق وسجلات العوائل الثاوية في مكاتب الأبحاث المكتبات العمومية، وقد توج هذا المسار بالعثورعلى صورة المرأة/ الحلم . ثم سرعان ما يستدرج هذا المسار داخله مسارا آخر من البحث الموازي موصولا بهاجس الكشف عن قبر الجد لاسترجاع بركته الضائعة، وقد توج أيضا بالعثور على القبر. والدعامة النصية التي تقوي هذا المحفل الظافر المتناسل من الداخل تتمثل في محكي بركات الشيخ وكراماته بشكل مكثف ضمن الفصل الأخير من الرواية. وقد وظف هذا المسار تقنيات الزمن النفسي الذي يتوسل آليات الاسترجاع الخارجي والاسترجاع الداخلي. الأول في علاقته بمرجعيات الحدث أي بما يمهد للبداية، والثاني في صلته ببداية الحدث. والحصيلة هي توظيف الماضي ليس لمجرد التمجيد، بل لربطه بالمستقبل وبتطلعات الذات للخروج من وضعها المنحط.
أما المجلى الثاني فيرتهن بالتأمل والتفكير من داخل الحكي وهو يعد المعنى الأول والأوسع لمفهوم التقعير كما حدده أندريه جيد في نهاية القرن 19 : ( يعد تقعيرا كل مرآة داخلية متأملة في المحكي ) . ولهذا الصنف مظاهر عدة في الرواية أهما ما يرتبط بالوقوف عند مقاصد تسمية ‘أنقار' التي تراهن عليها الصفحات الأولى من الرواية من ص39 من داخل مرويات الحكي ومخياله وفي صلة بالشخصية الرئيسة التي تحرك الوقائع وتدفع الأحداث في الرواية. وهي شخصية مَحمد أنقار بفتح الحاء لا بضمها. التي لا يفصلها عن شخصية الكاتب الفعلي سوى خيط شفيف هو خيط الحركة الصوتية، كما سبق أن كشفنا من قبل. ومن أمثلة هذا الوضع الإدماجي الذي يقرب الأبعاد بين عوالم التخييل ومنطق الإدراك والتأويل، ما تعرضه الرواية في صفحة 41 حول لقاء مَحمد بالمؤرخ التطواني المعروف محمد بن عزوز حكيم الذي أمده ببعض القصصاصات التي تكشف علاقة أسرة أنقار بالعائلات التطوانية العريقة. بيد أن اللافت في الأمر هو اشتغال هذا التقعير على نوع من التأمل الخصيب الذي يقوي بحق حضور الكاتب أنقار وتدخله الفعلي بقوة التمثيل الذاتي المرتهنة بالواقع الفعلي وبحدود السيرة الذاتية . ( ولم تمر الإشارة الإيجابية من دون أن تدغدغ الأريحية . استنتجت منها أن جدي كان موجودا في المدينة أو في ضواحيها قبل نهاية القرن التاسع عشر، فتخيلت الرجل في صور جسدية ونفسية متداخلة.تارة أتصوره يسبح في الفضاء ،يملك مطلق الحرية على الانتقال عبر السنوات، قاطعا فيافيها بساقيه الطويلتين، سابحا بين السحب...وتارة ثانية أتخيله يقفز في خفة خارقة من نهاية القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين كما يقفز من سطح دار إلى سطح دار أخرى مجاورة...)ص وهو أسلوب تراه يحقق للذات إمكانية أن تستنفر مساحة الكينونة وتنتقي فضاءها الأرحب الذي يناسب عمقها وصفاء معدنها الذي قد يعكره الرغام و تفارقه بهجة السمو ولكن إلى أمد ، ذلك أن الكينونة هاته يحكمها منطق الانبعاث وحتمية التجدد. مما تلخصه أسطورة العنقاء أو الفينيق أو ذلك المقطع الأخير من قصيدة النورس للرائع بودلير يقارن فيها كيان الشاعرَ بكيان طائر النورس الجريح، والذي أحببت أن أترجمه وفق هاجس الإيقاع، عماد السموّ الشعري:
إنه الشّاعر الذي كان أمير السّحب وسلطان الغمام
من كان يغشى العواصف ويسخر من رامي السهام
وها هو قد صار ملقى على الأرض وسط الرغام
والجناحان الجباران راحا يصدانه الخطو إلى الأمام
هامش:
هذا النص التقديمي شاركت به في تقديم رواية ‘شيخ الرماية' لمحمد أنقار، في دار الحكمة بتطوان بتاريخ 30 مايو 2013. والرواية صدرت في هذا الموسم ( 2012/2013) عن نفس الدار.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.