ولاية أمن طنجة تتفاعل بجدية كبيرة مع فيديو يوثق لاعتداء على سيدة بالشارع العام    من هو عثمان البلوطي بارون الكوكايين المغربي الذي أثار الجدل بعد اعتقاله في دبي؟    كوريا الجنوبية: إعلان حالة الطوارئ وإغلاق البرلمان في خطوة مثيرة للجدل    رسميا.. الوداد الرياضي يعلن تعاقده مع بنعبيشة لشغل مهمة المدير التقني        السجن مدى الحياة لسفاح تلميذات صفرو    اتفاق بين البرلمانين المغربي والأوروبي    التوفيق: الوزارة تواكب التأطير الديني للجالية .. ومساجد المملكة تتجاوز 51 ألفًا    ديباجة قانون الإضراب تثير الجدل .. والسكوري يتسلح بالقضاء الدستوري    تداولات الإغلاق في بورصة الدار البيضاء    انعقاد الاجتماع ال 22 للجنة العسكرية المختلطة المغربية-الفرنسية بالرباط    بوريطة يرحب بقرار وقف إطلاق النار في لبنان ويدعو إلى احترامه مع ضرورة حل القضية الفلسطينية    حوادث السير تخلف 16 قتيلا في أسبوع    أخنوش يمثل جلالة الملك في قمة «المياه الواحدة» في الرياض        البواري: القطاع الفلاحي يواجه تحديا كبيرا ومخزون السدود الفلاحية ضعيف    الفنان المغربي المقتدر مصطفى الزعري يغادر مسرح الحياة        "الاعتداء" على مسؤول روسي يعزز دعوات تقنين النقل عبر التطبيقات الذكية    إسرائيل تهدد ب "التوغل" في العمق اللبناني في حال انهيار اتفاق وقف إطلاق النار    مطالب بفتح تحقيق في التدبير المالي لمديرية الارتقاء بالرياضة المدرسية    طائرة خاصة تنقل نهضة بركان صوب جنوب أفريقيا الجمعة القادم تأهبا لمواجهة ستينبوش    الأمم المتحدة: كلفة الجفاف تبلغ 300 مليار دولار سنويا    إنتخاب عبد الحميد أبرشان رئيسا جديدا لمقاطعة طنجة المدينة    رحيل الفنان المغربي مصطفى الزعري    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    الفنان المسرحي الكبير مصطفى الزعري ينتقل إلى جوار ربه    التامني: استمرار ارتفاع أسعار المواد البترولية بالمغرب يؤكد تغول وجشع لوبي المحروقات    حدث نادر في تاريخ الكرة.. آشلي يونج يواجه ابنه في كأس الاتحاد الإنجليزي    النقابة المستقلة لأطباء القطاع العام تستمر في إضرابها الوطني للأسبوع الثالث على التوالي    تصريحات مثيرة حول اعتناق رونالدو الإسلام في السعودية        رحيل أسطورة التنس الأسترالي نيل فريزر عن 91 عاما    جبهة دعم فلسطين تسجل خروج أزيد من 30 مدينة مغربية تضامنا مع الفلسطينيين وتدين القمع الذي تعرض له المحتجون    حماس وفتح تتفقان على "إدارة غزة"    أمريكا تقيد تصدير رقائق إلى الصين    المضمون ‬العميق ‬للتضامن ‬مع ‬الشعب ‬الفلسطيني    فن اللغا والسجية.. الفيلم المغربي "الوترة"/ حربا وفن الحلقة/ سيمفونية الوتار (فيديو)    مزاد بريطاني يروج لوثائق متسببة في نهاية فرقة "بيتلز"    فريق طبي: 8 أكواب من الماء يوميا تحافظ على الصحة    ترامب يهدد الشرق الأوسط ب"الجحيم" إذا لم يٌطلق سراح الأسرى الإسرائليين قبل 20 يناير    فيديو: تكريم حار للمخرج الكندي ديفيد كروننبرغ بالمهرجان الدولي للفيلم بمراكش    مزور: التاجر الصغير يهيمن على 80 في المائة من السوق الوطنية لتجارة القرب    أسعار الذهب ترتفع مع تزايد التوقعات بخفض الفائدة الأمريكية    مهرجان مراكش للسينما يواصل استقبال مشاهير الفن السابع (فيديو)    وزيرة: ليالي المبيت للسياحة الداخلية تمثل 30 مليون ليلة    برلين.. صندوق الإيداع والتدبير والبنك الألماني للتنمية يعززان شراكتهما الاستراتيجية    القضاء يحرم ماسك من "مكافأة سخية"    شعراء وإعلاميون يكرمون سعيد كوبريت    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    دراسة: تناول كميات كبيرة من الأطعمة فائقة المعالجة قد يزيد من خطر الإصابة بمرض الصدفية    وجدة والناظور تستحوذان على نصف سكان جهة الشرق وفق إحصائيات 2024    فقدان البصر يقلص حضور المغني البريطاني إلتون جون    التغيرات الطارئة على "الشامة" تنذر بوجود سرطان الجلد    استخلاص مصاريف الحج بالنسبة للمسجلين في لوائح الانتظار من 09 إلى 13 دجنبر المقبل    هذا تاريخ المرحلة الثانية من استخلاص مصاريف الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نزار قباني و المرأة
نشر في بني ملال أون لاين يوم 09 - 03 - 2013


بمناسبة اليوم العالمي للمرأة
إلى أمي - فاطمة- الغالية
أظهر نزار قباني المرأة على أنها جزء من حياتنا التي نعيشها ونعانيها، لا فكرةٌ قائمةٌ في مخيلتنا المكبوتة فقط. فاقترب من تفاصيلها ولغتها اليوميةِ، وكانت هذه الثورة بحاجة إلى مصاحِباتٍ فنيةٍ تسهم في إنجازِ قصيدةٍ ذاتِ جمالياتٍ مختلفةٍ ومحرّضةٍ، لذلك جاءت لغةُ نزار جديدةً ولا تخضعُ لا لمألوف المتلقي العربي العادي، وأعرافه المستقرة، ولا تخضع كذلك للنمطِ الشعري المتداول بين أوساط الشعراء. فهو صاحب الشعار المعروف "أنا رجل يمتهن عشق النساء". فما كان عليه إلا أن يسلك طريقه المفضل وأن يصور المرأة كما هو موضوع لها، مع الدفاع عنها ضد أي مكروه وضد أي ظلم قد يلحقها.
المرأة في شعر نزار قباني:
على امتداد التاريخ البشري عرفت صورة المرأة توترا إن على مستوى وضعيتها الاجتماعية أو مكانتها الرمزية التي حظيت بها في المنتوج الإبداعي..غير أن الثابت في هذا المسار المجتمعي هو معاناتها من النظرة الدونية التي كرسها المجتمع الذكوري في فترات متفاوتة.صحيح جدا أنها ارتقت قديما إلى مصاف راقية في حضارات سابقة نذكر منها على سبيل المثال: عشتار ربة الخصب عند البابليين وأفروديت عند الإغريق وفينوس عند الرومان...لكن بالنزول لقاعدة الهرم الاجتماعي نجدها تحتل المرتبة الثانية بعد الرجل..أما الوضع الراهن للمرأة فيمكن اعتبار الامتيازات التي قدمت لها - دون أن نتهم بالمبالغة- الهدف منها هو إرضاء متطلبات الاقتصاد الجديد الذي هو بحاجة لمزيد من اليد العاملة لكسب السوق العالمية. وليست خدمة لقضية المرأة. وهذا جعلها تعي أن الشرط الموضوعي لتحررها الفعلي هو تحديث ذهنيات الأفراد ومسلكياتهم اليومية بوضع أنظومة القيم تحت مجهر التقييم والنقد..مساق تاريخي حكم مجمل إبداعات شاعر الحرية والصبابة.علما أنه عانى من سلطة التقاليد التي كانت السبب في فقدان أخته المنتحرة لمجرد أنها أحبت! وموت زوجته بلقيس في حرب خرقاء(قتلت بلقيس في تفجير للسفارة العراقية ببيروت سنة 1982).ومن ثمة رفضه لهذا الوضع المترهل ورهانه على حرية الفرد. فهل كانت كتابات نزار قباني عن الحب تعويضا لما حرمت منه أخته وانتقاما لها من مجتمع يرفض الحب ويطارده بالفؤوس والبنادق؟أم كان شعره صفارة إنذار حتى لا يسقط ضحايا آخرون نتيجة الأمية الوجدانية؟ إن الإجابة عن هذين السؤالين جعلت من قضية المرأة في شعر نزار قباني تعبر مرحلتين أساسيتين:1- مرحلة المرأة /الجسد، و2- مرحلة المرأة/ الرمز.. وذلك ما سنحاول توضيحه في هذه الورقة.
1- المرأة/الجسد أو البدايات الشعرية لنزار قباني.
إن نظرة نزار للمرأة اختلفت باختلاف السن والأوضاع والتجربة..ففي دواوينه الأولى كانت نظرته إليها تتسم بالتجزيئية وتنصرف إلى الجسد وخاصة في ديوانه الأول''قالت لي السمراء''الصادر سنة1944 إن أول ما يلفت الانتباه في هذا الديوان هو أن غالبية القصائد تدور حول دائرة مغلقة قلما تخرج عنها وهي دائرة الغزل الحسي المؤسس على الشوق العارم لمفاتن الجسد... و بذلك فهو يمثل استمرارا طبيعيا للغزل في شعرنا العربي القديم والجاهلي منه على وجه التحديد. إذ لم يكن الشاعر الجاهلي هو الآخر يرى في المرأة أكثر من جسد جميل يفتنه بتكوينه وانثناءاته، ويثير شهيته للمتعة الحسية مع اختلاف بالطبع بين الصورة الشعرية الجاهلية وإيحاءاتها وصور نزار قباني القائل في إحدى قصائد هذا الديوان:
أقبلت... مسحوبة/ يخضر تحتها الحجر
ملتفة شالها/لا يرتوي منها النظر
أضحى من الضوء/ وأصفى من دميعات المطر
تخفي نهيدا نصفه/ دار ونصفه لم يدر...
فعلى الرغم من التفاف المرأة في شالها فإن فكر الشاعر انصرف إلى الصدر لتتشظى المرأة وتصبح قطع غيار مجزأة ما يصلح منها للتلذذ يتم إبرازه وما سوى ذلك يترك جانبا .. وكأني بالمرأة لا تحقق وجودها إلا في معترك الجنس/ الجسد. ويعود ليقر أن هذا العضو هو أجمل ما تحمله المرأة، يقول :
أجمل ما فيك الجنون
أجمل ما فيك، إذا سمحتِ لي
خروج نهديك على القانون
وفي ذات السياق يشبه النهد بسمك القرش المعروف ببطشه وفتكه. وهي قوة تتغيى هدفا واحدا هو السيطرة على تفكير الرجل ودفعه لاقتراف الجريمة. يقول:
ما احترفت القتلَ من قبلُ.. ولكن.../
سمك القرش الذي يقفز من خُلْجانِ نهدَيك/
البدائيتين.. يغريني بتنفيذ الجريمة/
وبعد النهد يحتل الشعر ثم العيون المنزلة َالثانية في وصفه لجمال المرأة الجسدي. فالشعَر الطويل يستهوي الشاعر، كما تسحره العيون الحوراء، لنصغي لأشعاره من جديد:
لو خرج المارِدُ من قمقمهِ
وقال لي: لبيك
دقيقة واحدة لديك
تختار فيها كل ما تريده
من قطع الياقوت والزمرد
لاخترت عينيكِ.. بلا تردد..
. وفي نفس الصدد يقول:
ذاتَ العينين السوداويتين
ذات العينين الصاحيتين الممطرتين
لا أطلب أبدا من ربي
إلا شيئين
أن يحفظ هاتين العينين
ويزيد بأيامي يوميين
كي أكتب شعرا
في هاتين اللؤلؤتين.
أما الشعر فيحبه طويلا أسودا مثل الليل منسدلا على الكتفين، كجداول بلا نهاية مطلوقا حتى الخصر كآلهات الجمال الإغريقيات:
يا شعرها على يدي
شلالٌ ضوء أسود
ألمّه سنابلاً
سنابلاً لم تُحصدِ
لا تربطيه واجعلي
عل المساء مقعدي
من عمرنا على مخدات الشذا
لم نرقدِ
......
تصوري ماذا يكون العمر
لو لم توجدي
يقول محي الدين صبحي معلقا على هذه القصيدة بالذات:''ما تزال قصيدة- الضفائر السود- تقف وحدها في الشعر العربي المعاصر لا بسبب الروعة في الوصف.. فليس فيها وصف بالمعنى التقليدي الذي رفضناه.وهو أن يقف الشاعر ناظرا إلى الموضوع معددا أشباهه،ولا إلى سبب انعدام الوصف فيها لأنها تحتوي ما يفوق ما تضمنته أية قصيدة في شعرنا منذ امرئ القيس وإلى يومنا هذا. بل يكمن سر الإبداع لديه في ما تضمنته من رحابة الإحساس وغنى المشاعر وتعدد مجالات التداعي الصوري. فلقد تراءى للشاعر أن الشعر شلال ضوء أسود وأن الضفائر سنابل.. ''إن الغزل المادي عند نزار قباني لا يقف عند حدود الجسد بل يمتد لملابس المرأة وأدوات زينتها وهي ظاهرة معروفة في الشعر العربي القديم بالنسيب والذي يتمثل في ذكر الشاعر لحاجيات محبوبته وملابسها:الوشاح، ثوب النوم، العطر وما شابه...
فاقتناع نزار بقضية المرأة- في هذه المرحلة الأولى من تجربته- جعله يستعير صوتها في العديد من قصائده. ولعنا لا نجانب الصواب عندما نعتبر هذه الظاهرة مسلمة نفسية شائعة تقرر أن في نفس كل رجل نسبة من الأنوثة وأن في كل امرأة نسبة من الرجولة. وهذه الحقائق النفسية الفطرية مع الحقائق التجريبية تتيح لنا أن نفهم كيف سوغ الشعراء منذ أقدم العصور لأنفسهم أن يتحدثوا بلسان النساء. يقول نزار في قصيدته الشهيرة ''كلمات''التي يصف فيها إحساس امرأة تراقص صديقها ويسمعها كلمات تقع في نفسها موقعا آسرا. يقول:
يسمعني حين يراقصني/كلمات.. ليست كالكلمات
يأخذني من تحت ذراعي/يزرعني في إحدى الغيمات
وأنا كالطفلة في يده/كالريشة تحملها النسمات
إن هذه المرحلة من عمر التجربة الشعرية لنزار قباني ونقصد بها مرحلة الغزل المادي الصرف تمتد لحدود بداية الستينات حيث سيبدأ في ربط الحب بحرية الفرد، وتحرر الجماعة التي يحيى فيها فضلا عن استقلالية الاثنين معا عن أية تبعية.
2- المرأة/الرمز أو نضج التجربة الشعرية.
كان صوت نزار من بين أبرز الأصوات التي عالجت قضية المرأة العربية بالذات لسبب بسيط هو أنه شاعر عربي مؤمن بقضية تحرر الإنسان أينما كان وبصرف النظر عن جنسه ولونه أو عرقه. يقول في كتابه قصتي مع الشعر:''ليس من باب التبجح والغرور القومي أن أقول إن تجاربي وأبطالي وخلفية شعري كانت عربية مائة بالمائة والنساء اللواتي يتحركن على دفاتري هن عربيات وهمومهن عربية وأزماتهن وأحزانهن وصرخاتهن هي هموم وأزمات عربية. ''وإذا كانت المرأة تعي بشكل ضمني منذ ولادتها أنها غير مرغوبة ومقزمة موازاة والذكر ..فإن هذا الوضع يولد لديها عقدة نقص وكراهية حيال واقعها.. وبالتالي يصعب اندماجها بشكل سوي، و بالأحرى مشاركتها في الحراك الاجتماعي. يقول نزار بهذا الصدد: (من قصيدة: يوميات امرأة لا مبالية)
أنا بمحارتي السوداء .. ضوءُ الشمسِ يوجعني
وساعةُ بيتنا البلهاء .. تعلكني و تبصقني
مجلاتي مبعثرةٌ .. وموسيقاي تضجرني
مع الموت أعيش أنا .. مع الأطلال و الدّمنِ
جميعُ أقاربي موتى .. بلا قبرٍ و لا كفنِ
أبوح لمن ولا أحداً .. مِنَ الأمواتِ يفهمني ؟
أثور أنا على قدري .. على صدئي على عفني
و بيتٍ كلُّ مَنْ فيه .. يعاديني و يكرهني
أدقُّ بقبضتي الأبواب .. و الأبوابُ ترفضني
بظفري أحفر الجدران .. أجلدها و تجلدني
أنا في منزل الأموات فمن من قبضة الموتى يحررني ؟!
إن هذه المرأة التي أعارت صوتها لشاعر الحرية والعشق تسخر من استبداد الرجل العربي الذي كان عليه أن يخلق رفقتها شرطا موضوعيا لانعتاق مجتمعي منشود لكنه أصر على استعبادها! ولهذه الأسباب تحديدا تستشعر إحساسا فادحا بخسارتها .. وعند هذا المستوى يتراجع الغزل الحسي موازاة وتجدر مطلب التحرر العام ومن داخله حرية المرأة. لنصغي له من جديد:
أحبُّ طيورَ تشرينِ .. تسافرُ حيثما شاءت
و تأخذُ في حقائبها بقايا الحقلِ من لوزٍ ومن تينِ
أنا أيضاً أحبُّ أكونَ .. مثل طيورِ تشرينِ
أحبُّ أضيعَ .. مثل طيورِ تشرينِ
فحلوٌ أن يضيعَ المرءُ .. بينَ الحينِ و الحينِ
أريدُ البحثَ عن وطن .. جديدٍ غيرَ مسكونِ
وهذه قصيدة أخرى تسير في نفس الأفق التحرري .. مشهد فتاة نزلت إلى الحديقة مع مطلع الربيع فاكتشفت أن الأرض تعيش حالة ولادة جديدة من خلال الثورة على فصل الشتاء.. وتتمنى لو تعيش ذات الولادة والحالة.. لكنها سجينة الخوف من السقوط في ''جنحة''الحب الذي يعاش عادة في الظلام وعن طريق التهريب. إحساس مرغوب ومنبوذ في ذات الآن!
نزلتُ إلى حديقتنا .. أزورُ ربيعها الرّاجعْ
عجنتُ ترابها بيدي .. حضنتُ حشيشها الطالعْ
أريد .. أريد أن أحيا .. بكل حرارة الواقع .. بكل حماقة الواقع
فهذه صرخة في وجه المجتمع العربي الذي تمزقه ازدواجيته! فهو يعتبر الحب جريمة تعاقب فيها المرأة ويسقط فيها الحكم على الرجل. مجتمع يدين المرأة نهارا ويسعى إليها ليلا. والسبب حيازتها لجسد يغري ويفتن لذلك وجب تكثيف الرقابة عليه لا خوفا عليها بل خوفا على ضعفه، لنعود لهذه القرينة النصية:
لماذا أهل بلدتنا يمزّقهم تناقضهم
ففي ساعات يقظتهم يسبّون الضفائر و التنانيرا
و حين الليل يطويهم يضمّون التصاويرا
لكن هل يعني هذا أن الرجل هو السجن والسجان؟ وهل هو المنفى والنافي؟ وما درجة وعي كل من المرأة والرجل بهذا؟ وهل بإمكانهما التحرر من هذا الارتهان؟ وما السبيل لتثوير النظام الأبوي والنظام الزوجي كمعتقِلين للمرأة حرية الاختيار بينهما؟! يقول نزار في هذا الأفق وعلى لسان امرأة: ( يوميات امرأة لا مبالية)
إلهٌ في معابدنا نصلّي له و نبتهلُ
يغازلنا وحين يجوع يأكلنا ويملأ الكأس من دمنا و يغتسلُ
إلهٌ لا نقاومه .. يعذّبنا و نحتملُ
و يجذبنا نعاجاً من ضفائرنا و نحتملُ
و يلهو في مشاعرنا و يلهو في مصائرنا و نحتملُ
و يدمينا و يؤذينا و يقتلنا و يحيينا و يأمرنا فنمتثلُ
إلهٌ مالهُ عمرُ ... إلهٌ اسمه الرّجلُ
فالرجل استعبد المرأة روحا وجسدا، وكان لابد للشاعر المدافع عن المرأة وحريتها أن يثور على هذا الواقع،" فهو يعتبر نفسه محامي النساء" فبدأ يبحث عن المرأة التي بإمكانها أن تتخلص من قيود الشرق.وتتجرأ على الحديث عن نفسها بدون عقد، يقول نزار"كان لابد من العثور على امرأة من هذا الشرق تملك القدرة على الصراخ، و تملك الجرأة على التحدث عن نفسها وعن حبسها دون أن نلطخها عقد الذنب. وتذبحها فؤوس العشيرة" يقول نزار قباني:
تكلمي تكلمي أيتها الجميلة الخرساء
فالحب مثل الزهرة البيضاء
تكون أحلى عندما توضع في إناء
بهذا افتتح نزار قباني مرحلة شعرية جديدة عندما انتقل إلى انجلترا، فاكتشف عاملا اجتماعيا جديدا، يختلف عن عالمه الشرقي. ووجد العلاقة بين الرجل و المرأة مغايرة تماما لما ترك في المشرق العربي. فتولد لديه وعي بما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الطرفين. لكن هناك أسبابا أخرى أسهمت في هذا التحول. أهمها الثورات ضد المحتل الأجنبي في بعض البلدان العربية والتي شكلت بداية لتحرر سياسي وفكري واجتماعي. نتج عنه تحرير المرأة من جدران البيت وخروجها إلى العالم الخارجي. فدخلت المدارس والمعاهد العلمية. وساهمت في الحركة الاقتصادية، بل زاحمت الرجل في امتيازاته القديمة التي كان يستأثر بها.
ونتيجة لذلك تغيرت صورة المرأة في شعر نزار قباني، فتراجعت صورة المرأة التقليدية التي تعنى بجسدها، والتي أثارت فيه شهواته، ولبت له رغباته الحسية. و بدأت تتشكل صورة المرأة في هذه المرحلة التي تتكلم بلسانها هي، وليس بلسان الرجل و"صارت تعبر عن انفعالاتها المختلفة في نبرة تمرد عارمة على الوضع الاجتماعي والعاطفي الذي يعطي الرجل كل شيء، ويحرم المرأة من كل شيء" و هكذا صارت تعبر عن حقها في الحب، والتعبير عن ذلك. والمهم هنا أن المرأة بدأت تتكلم وتعبر عن مشاعرها و تخاطب الرجل خطابا مباشرا دون خوف من أسوار المجتمع، وهذا يحسب لنزار قباني، وتقدمت المرأة نحو حريتها تبعا لتقدم الزمن و تقدم تجربة نزار معها، فلم تعد راضية بأن ينظر إليها الرجل من زاوية الجسد فقط، بل أصبحت تسعى إلى إثبات مكانتها إلى جانب الرجل دون عقد أو خجل أو إحساس بالنقص. فتمردت المرأة على القوانين الاجتماعية الموروثة، ومنحها الشاعر المجال من خلال شعره، لتعبر عن أنوثتها وتفخر بنفسها، وتعجب بجسدها. بعد أن كان ذلك حقا للرجل. أما التي تفعل ذلك فتوصف بالعهر والفحش. يقول نزار على لسان امرأة:
على كراستي الزرقاء ..
استرخي على كفي ..
وأهرب من أفاعي الجنس .
والإرهاب ..
والخوف ..
وأصرخ ملئ حنجرتي
أنا امرأة .. أنا امرأة
أنا إنسانة حية
أيا مدن التوابيت الرخامية.........
ويقول أيضا على لسان امرأة :
صار عمري خمس عشر
كل ما في داخلي غنى و أزهر
شفتي خوخا و ياقوت مسكر
وبصدري ضحكت قبة مرمر
وينابيع و شمس وصنوبر
لقد سلط نزار قباني الضوء في هذه المرحلة على الثقافة العربية التقليدية بكل أسوارها، معريا حقيقة الرجل الذي يلغي وجود المرأة عن جهل كامن بدورها الحيوي في الحياة والمجتمع.
لقد ظل نزار قباني صيحة في وجه هذه الأمة النائمة، فشعره كما يقول"يمثل هموم وأزمات وصرخات الأنوثة العربية " فمكنها من خلال شعره من التهجم على الرجل وأعطاها اللسان الفصيح لرد الاعتبار لنفسها، يقول على لسان امرأة:
لا تدخلي ...
وسددت في وجهي الطريق مرفقيك
وزعمت لي أن الرفاق أتوا إليك
أم أن سيدة لديك
تحتل بعدي ساعديك
لا تعتذر،يا نذل،لا تتأسف
آنا لست آسفة عليك،
لكن على قلبي الوفي
قلبي الذي لم تعرف
كما تعددت جوانب المرأة الإنسانية في شعره، فكما قلنا لم يعد حضورها حضورا جسديا فقط، بل حاول نزار التغلغل في عالمها، وإضاءة الجوانب الإنسانية، فهي المجتمع،لأنها الأم والأخت والحبيبة والرفيقة والمناضلة. وسنسلط الضوء على بعض هذه الجوانب:
- المرأة/الوفاء:
يجد الشاعر في المرأة رمزا للوفاء والإخلاص، لأنها كانت تتذكر أدق التفاصيل التي جمعتهما في يوم من الأيام. وحتى عندما أرادت أن تتخلص من تلك الذكريات طلبت من الله تعالى أن يعينها على النسيان. يقول:
رباه أشياءه الصغرى تعذبني.
فكيف أنجو من الأشياء رباه.
هنا جريدته في الركن مهملة
هنا كتاب معا كنا قرأناه
- المرأة/ الثورة:
أراد نزار قباني أن تكون المرأة ثائرة على كل الأوضاع التي تجعلها جارية تباع وتشترى بالمال، فدفعها إلى التمرد على كل شيء يحاول طمس إنسانيتها، فهي ليست وعاء وعورة، وليست وظيفتها الجنس. تلك النظرة التي التصقت بها قرونا طويلة، يقول :
ثوري ! أحبك أن تثوري ..
ثوري على شرق السبايا .. و التكايا .. والبخور
ثوري على التاريخ، وانتصري على الوهم الكبير.
لا ترهبي أحدا، فإن الشمس مقبرة النسور
كما أرادها أن تكون مناضلة ومستقلة بأحاسيسها ومشاعرها، حرة في رأيها،وإلا فهو بريء منها، يقول:".. أما المرأة البليدة، الثقيلة الدم، المطفأة الروح، الميتة الأحاسيس والتي تنام إلى جانبي بجدار من الجليد.. فيحق ذبحها "
بل أكثر من هذا كره حتى الدفاع عنها:" و لكنني لا أسمح لنفسي ولا يسمح لي القانون، أن أدافع عن امرأة متلبسة بجريمة الغباء، أو الثرثرة، أو التسلط،أو موت الأنوثة" إذ أرادها مدافعة عن حبها. يقول في قصيدة: أيظن ؟على لسان امرأة:
أيظن أني لعبة بيديه ؟
أنا لا أفكر في الرجوع إليه
اليوم عاد كأن شيئا لم يكن
ليقول لي: إني رفيقة دربه
وبأني الحب الوحيد لديه
المرأة/ البساطة:
يتطلع الشاعر إلى المرأة البسيطة، التي لا تتكلف، المرأة العفوية التي ترفض التبرج وسيلة إلى قلب الرجل، بل تعتمد اللباقة والذكاء أرضية لجمالها حتى تتمكن من غزو قلبه، يقول:
أَحِبََّنِي كما أنا ..
بلا مساحيق .. ولا طلاء ..
أحبني .. بسيطة عفوية ..
كما تحب الزهرة في الحقول .. والنجوم في السماء
فالحب ليس مسرحا تعرض فيه آخر الأزياء.
ويبقى التساؤل قائما: ما القيمة المضافة التي طرحتها أشعار نزار في السوق الاجتماعية/الفنية؟ أما إذا كان الجواب سلبيا فأين يكمن الخلل؟ يجيب نزار نفسه في إحدى حواراته:''لأن المرأة لم تكن في يوم حلم الرجل العربي ولكنها كانت رهينة ومطية.. والمزرعة التي يمارس فيها إقطاعه التاريخي..
إن العلاقة بين الرجل العربي والمرأة العربية هي علاقة عقارية. ويضيف:''تحرير المرأة مثل تحرير فلسطين لا يتم بالتضرعات والأدعية وتقديم النذور ولكنه يحتاج إلى عشريين فرقة انتحارية من النساء''ويبقى عزاء الشاعر في بوادر التغيير والتحول الايجابي الذي يلوح في الأفق .. تغير النظرة للمرأة .. يقول على لسان هذه الفئة:
إياك أن تتصوري/أني أفكر فيك تفكير القبيلة بالثريد/
وأريد أن تتحولي حجرا أطارحه الهوى/وأريد أن أمحو حدودك في حدودي/
أنا هارب من كل إرهاب يمارسه جدودك وجدودي/
خاتمة
نستنتج أن حرية المرأة وحرية الرجل جزءان لا يتجزءان على اعتبار أن قضية المرأة قضية مجتمع لا قضية فرد.. وتحريرها يتم بالضرورة رفقة الرجل لا ضده مادام الخصم واحدا والغاية واحدة...
هوامش
نزار قباني، لعبت بإتقان وها هي مفاتيحي.
نزار قباني، ديوان الرسم بالكلمات.
نزار قباني، ديوان يوميات امرأة لا مبالية.
نزار قباني، الأعمال الشعرية الكاملة ج2


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.