يجهد عينيه الغائرتين لتتبع شريط الأخبار في أسفل الشاشة : خبر عاجل : قصف إسرائيلي متواصل من الجو و البر و البحر على غزة المحاصرة ، مقتل أطفال و نساء و شيوخ بالفوسفور الأبيض .. يطلع عليه وثائقي ، ملء الشاشة ، يستعرض عمليات الفتك و الدمار الصهيونية منذ 1949م : بساط الريح ، عملية أوبرا ، عملية موسى ، عناقيد الغضب ، عملية قوس قزح ، عملية الرصاص المسكوب ... مجازر تلو أخرى ، نهشت اللحم الفلسطيني الأعزل ، كما الحجر و الشجر .. ينتهي الوثائقي بومضة درويشية من قراءاته الخالدة : كانت تسمى فلسطين .. أصبحت تسمى فلسطين ! اضطرب فؤاده ، و نز عموده الفقري بعرق بارد . أشعل سيجارة شبه مكسورة من التبغ الرخيص ، تناول منها نفسا عميقا ، أردفه برشفة من بقايا قهوة ملتصقة بقاع الفنجان .. و تنهد بألم .. تذكر أيام فورة الشباب ، أعوام الجامعة ، و ما جايله من تظاهرات و احتجاجات طلابية حاشدة غاضبة ، لنصرة الشعب الفلسطيني في محنته ، و التنديد بالصمت العربي .. و حضرته فجأة أقوال لطالما تغنى بها في تلك السنوات البعيدة ، ينام و يصحو عليها ، ظلت راسخة في ذهنه إلى الآن ، رغم التقدم في السن و بون المسافة : * الصغار الذين يواجهون الدبابة في فلسطين يفعلون عملا جنونيا ، يختارون لحظة مطلقة من المعنى و القدرة ، حرية مركزة و بعدها الموت ، يشترون لحظة واحدة بكل حياتهم ، هذا جنون ، و لكنه جنون جميل لأن اللحظة أثمن من حياة ممتدة في وحل العجز و المهانة ) . رضوى عاشور ) . * هناك لحظات شديدة الغموض ، و لا يعرف الإنسان كيف تأتي أو متى ، لكن إحساسا غامضا ، حدسا مفاجئا ، ينبئ أن شيئا قد انتهى ، انكسر ، و لا بد أن يقوم على أنقاضه شيء آخر . ( عبد الرحمن منيف ) . * إننا نحب الحياة لأننا نحب الحرية ، و نحب الموت متى كان الموت طريقا إلى الحياة . ( أنطوان سعادة ). * نحن لا نرث الأرض من أسلافنا ، بل نقترضها من أطفالنا . ( أنطوان دو سانت إكسوبيري ). * أرض فلسطين جزء من الإيمان .( عبد العزيز الرنتيسي ) . * أقوى المحاربين هما الوقت و الصبر .( ليو تولستوي ) . * الحق يحتاج إلى رجلين : رجل ينطق به و رجل يفهمه .( جبران خليل جبران ) . ... لملم أوجاعه و ذكرياته الفجة ، أطفأ سيجارته ، و انصرف متحاملا على نفسه ، مرددا بصوت مسموع ، كأنما يكلم أحدا في الطريق ، قولة غسان كنفاني : إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت ، إنها قضية الباقين !! ذ . إدريس الهراس / الفقيه بن صالح