«كل امرئ وإن طالت سلامته/يوما على الآلة الحدباء محمول» كعب بن زهير اعتدت في الآونة الأخيرة، وبحثا عن موضوع مناسب لمعرضي الفني القادم، أن أتوجه كل يوم إلى «المحطة الطرقية»، بغاية التقاط صور خاطفة وعشوائية من قلب فصاحة الزحام لأجساد وأقدام وملامح في طور الانسحاب، ذهابا أو إيابا، صوب جهات غير معلومة. ومادام الهدف من هذا النوع المتحرك دون إبطاء والمتشابه بلا هوية، هو يأس العدسة، لأنه يسلبك في اللحظة نفسها ما اعتقدت أنك تعرفت عليه، فقد وجدتني - في كل مرة وبعناد من يبحث عن إبرة في متاهة رمل - أعاود نصب فخاخ الحدقة في بهو المحطة علّ الصدفة تجود بصيد ثمين. الصدفة عينها، التي قادتني عند نهاية يوم بدأت شمسه تذوي تاركة وراءها نورا برتقاليا رهيفا هو الأكثر مخاتلة وتمنعا بالنسبة لأي فوتوغرافي مهما بلغت درجة براعته وشدّة مرّاسه، لأن احتجز في وضح عين الكاميرا رجلا طويل القامة ونحيل البنية. بعهدة يديه حقيبة سفر جلدية وعصا من تلك التي يستعين بها العميان على مكر الطريق ومطباته. على الأرجح، كان في العقد السابع من عمره، ويرتدي معطفا مرتفع الطوق ونظارات شمسية وقبعة مستديرة الحواف، جميعها تطنب في اللون الأسود الشامل باستثناء حذائه الذي اعترته حمرة سافلة. ولعل تلك الحمرة المفارقة، من كانت حافزي كي أغدق نحوه دونما توقف ومن مختلف الزوايا، وابلا من النقرات قبل أن يتنصل من عمق المجال ويذوب بخفة لا تنسجم مع عاهته عبر شدق بوابة المغادرة مثل ذلك الطراز من الكائنات التي تسعى لاجتياز الوجود بلا شاهد كأن حياتها كانت جريمة كاملة. طبعا، زجت بي لحظة التجلي هاته في نشوة الفنان الذي سدّ لتوه ثغرة فاحشة في جدار عمله، فهرعت إلى المنزل لتحمّيض الصور داخل غرفتي السوداء الصغيرة. غير أن الإخراج النهائي للفيلم، ورغم الترقيش والضبط الفنيين اللذين أنجزتهما في ما بعد على الحاسوب، تمخض عن أمر غريب فعلا. لقد كانت شتى صور الرجل الضرير.. «الوطواط صاحب الحذاء الأحمر» كما أسميته، مجردة من الوجه كأنها حفرة ضباب نجمت عن ممحاة دقيقة امتدت عمدا لهذا الجزء بعينه وشطبته بقسوة لتحيله إلى قبض وجه. فما كان عليّ وقتذاك سوى أن ارجع هذه الخيبة غير المتوقعة إلى احتراق النسخة السالبة جرّاء هبّة ضوء مباغتة، لكن بعد أن قررت، ابتداء من صباح اليوم التالي، معاودة المحاولة. بيد أن الانتظار توّرم وانفرطت أيام عديدة من سبحة الوقت، قبل أن يبزغ «الوطواط صاحب الحذاء الأحمر» مرة ثانية آيلا للانصراف عند احد سلالم المحطة. وكي أواسي فشلي السابق ولا أفوّت فرصة حبس قسمات وجهه الشائخ داخل قمقم العدسة، جازفت بالاقتراب منه أكثر، ثم اندلعت في اتجاهه بجرعة قوية من النقرات على زر الكاميرا. لكن، كل هذا كان محض جهد ضائع وضالع في مهاوي اللامعقول. فالصور الجديدة المحمّضة أسفرت عن نفس النتيجة الأولى التي أعادت عقارب الخيبة إلى نقطة الصفر، بل زرعت فسائل الدهشة والفضول في التربة البعيدة لأعماقي، لدرجة أصبحت مرابطا في أرجاء المحطة، من مطلع الصباح إلى مفرق مساء كل يوم، منتظرا أن يطرق الرجل الضرير باب الصدفة مرة ثالثة، حتى أمضي خلفه متعقبا. نعم، لا مجال بعد الآن للتراجع وبأي ثمن، فالحكاية الغامضة لهذا الوجه الشاغر الذي يخطئ باستمرار سبيله إلى الكشف، أفاضت قدح الكيل وكادت أن تطير بصوابي. وفعلا، أورق حضور «الوطواط صاحب الحذاء الأحمر» بعد انصرام أسبوع كامل، وولّى عصاه شطر الأرصفة المّرقمة ليستقل الحافلة. صعدت على الفور في إثره حتى دون أن اعرف الوجهة، ومكثت أتفحصه برقبة ممطوطة من احد المقاعد الجانبية القريبة، مستغربا مخايل القوة والشباب التي زحفت دفعة واحدة على قسماته وهيئته، وكذا استغراقه، طوال مدة السفر، بعيونه الكليلة المزعومة التي تتمترس خلف زجاج نظاراته الشمسية، في مراجعة ملف ضخم يضم قوائم طويلة لأسماء أشخاص كان يضع تحت البعض منها بقلم رصاص، سطورا سميكة. وبما أن هذا الذي يحدث أمام ناظري مخلّ بالمنطق وعصّي على الاستيعاب، كان لابدّ من النزول خلفه لإبراء ذمة الشك عندما توقفت الحافلة، وترّجل منها في واحدة من مدن الضاحية. دشن الرجل الضرير «سابقا» (إذا ما صحت استنتاجاتي)، عبر طريق مظلمة صاعدة، خطوه البطيء، متقزما في ياقة معطفه كما لو أنه غادر فصامه الجسدي، واسترد بشكل فجائي عجزه وشيخوخته. وقد لاحظت أثناء مسيره، الذي غاض منه الوقع، أن رهطا من الكلاب الضالة ابتعد مفزوعا، وبأن أسرابا غفيرة من الجنادب والعصافير أحجمت عن إصدار أي صوت وانفضت هلوعة عن وكناتها في أعالي الأشجار.. أن الريح ولجت مرحلة الهذيان وصارت صرصرا، وبأن المصابيح التي كانت تجلل البيوت القليلة المتناثرة على الجانبين همدت أنوارها تماما. كظمت الخوف العاتي الذي قرضني لحظتها، وواصلت المشي في أعقابه محترسا أن لا ينتبه إلى كونه موضع مطاردة من قبل احدهم، إلى أن لمحته ينسل داخل بيت واطئ شبه متداع يتوسط بنايتين عاليتين كأنه ثقب قاتم بلا قرار أو ضرس مسوّس بين واجهتين ناصعتي البياض. لحسن الحظ، عثرت على نزل متواضع على مسافة غير بعيدة، وكرّست ما تبقى من الليلة للتحري عن أصل وفصل » الوطواط صاحب الحذاء الأحمر«، غير أن جميع الجيران و زبائن المقهى تشبثوا بناصية الجهل، وبكونهم لا يعرفون لهذا الغريب، الذي يستقر في الكتمان، لا اسما ولا صديقا ولا صلات سواء أكانت قريبة أم بعيدة. وفي الأيام الأخرى، أسلست القياد للتلصص بلا هوادة على الرجل الضرير، الذي كانت تسلمه مقبرة إلى سواها، حيث يسقي الثرى بماء الزهر ويعلّق على أعناق الشواهد أكاليل الورد ويوزع الخبز والتين المجفف على المساكين. كما كان ينتقل من محطة إلى أخرى أو من عنوان إلى غيره ليلتقي أناسا من مختلف الأعمار في المنازل والمستشفيات ودور العجزة والحدائق والمساجد والمطاعم والحانات وصالات السينما.. كان يبدو جليا أنه لا يعرفهم، لكن البعض ممن وقع بصري عليهم برفقته كانوا ينصتون إليه باحترام شاهق وقد انتشر حزن عميق على محياهم أو ينخرطون في سورة بكاء أبكم، وهو لا يتردد في مواساتهم بكل حنو. عاث الغموض بكياني وحاولت الاتصال بعناوينهم، لكنني كنت اصطدم في كل زيارة بأنباء القبض على أرواحهم وانتقالهم إلى العالم الآخر. إلى أن جاء يوم، استنكفت فيه عن تقفي «الوطواط صاحب الحذاء الأحمر»، الذي غادر متعجلا، من دون ريب، لتتبع سير أشغاله في واحدة من المناطق التي تخضع لسيادته. إذ انتبهت بمحض المصادفة إلى أنه ترك باب بيته مواربا. لم أتردد في التسلل إلى الداخل، فلقيتني بعد اجتياز ردهة تتكدس على جانبيها في انتظام رهيب الكثير من الملفات الضخمة، في قلب غرفة يضيئها مصباح. وبمجرد ما أصبحت هناك لا ادري لم أحسست بأنني أعيش شيئا شبيها بذكرى، ولكن من الجانب المعاكس، كما لو أن وقائع الذكرى توشك البدء بالحدوث الآن فحسب. وقعت عيناي على مشجب علّق عليه معطف وقبعة وكاميرا تصوير مطابقة لتلك التي استخدمها منذ سنوات، وكذا على طاولة مكتب تهجع فوقها آلة دكتلو قديمة وحزمة أوراق. فتناولتها وشرعت اقرأ: «اعتاد في الآونة الأخيرة، وبحثا عن موضوع مناسب لمعرضه الفني القادم، أن يتوجه كل يوم إلى «المحطة الطرقية»...»، وواصلت القراءة حتى الصفحة الأخيرة: «...المصور الفوتوغرافي يخرج مذعورا من بيتي بعد اطلاعه على الأوراق. يقطع الشارع، لكنه لا ينتبه إلى هدير محرك الشاحنة القادمة بسرعة جنونية من الجهة الأخرى للطريق...» ولم اقو على المواصلة، ثم خرجت هاربا.. وأنا أفكر بأنها سوف تكون أطول طريق سأقطعها في حياتي حتى أصل إلى الفندق.. ترى، هل سأصل فعلا؟!.