ذاكرة الرحل وديوان الموروث الحضاري الصحراوي قبل أن تطأ قدم الزائر خيمة «متحف تغمرت» التي نصبت إلى جانب 17 خيمة موضوعاتية ضمن فعاليات موسم طانطان الثقافي والسياحي في دورته السابعة، ينتابه شعور بالانتماء إلى تاريخ وبيئة ضاع جزء غير يسير من مقوماتها، وشرع الزمان في إدخالها تدريجيا في عداد الذاكرة المفقودة. فمنذ أزيد من ثلاثين سنة، شرع المواطن الصحراوي المغربي مبارك التاقي في تقفي آثار الرحل وسط محيط وادي نون الشاسع، وفي المجال الصحراوي له، منقبا عن بقايا حضارة عريقة تجاور فيها الموروث المادي واللامادي، همه الوحيد هو صيانة ذاكرة الأجداد من النسيان ونقل مقوماتها وتفاصيلها لأبناء عشيرته، ولباقي مواطنيه المغاربة، وللأجانب أيضا. يستقبل التاقي صاحب «متحف تغمرت»، نسبة إلى موطنه وموطن أجداده جنوب شرق كلميم، زوار متحفه، الذي هو عبارة عن خيمة متنقلة، ببشاشته المعهودة، وزيه الصحراوي الذي لا يفارق هندامه وبكؤوس الشاي على عادة أهل الصحراء في احتفالهم بحلول الضيف عندهم. يستهل شروحاته داخل المتحف المتنقل، عند قدوم أي زائر، بتقديم لمحة ضافية عن تيمة الماء في البيئة الصحراوية، مستعينا في ذلك بالإشارة إلى عدد من الأواني والأدوات مثل «القربة» و»المحكن» أي الدواز، ثم «الصمام» الذي استعمله سكان الصحراء في تصفية الماء من الشوائب قبل استعماله. بعد الماء يأتي دور الحليب أو اللبن، حيث يسهب في الحديث عن «الكدح» و»الكدحة» و»أدرس» و»تزُوة»، مدققا في كيفية استعمال كل واحدة من هذه الأدوات، والأغراض التي تسخر من أجلها، والعادات التي دأب الرحل على إحيائها في وسطهم العائلي كلما تعلق الأمر باستهلاك حليب النوق سواء من طرف الأطفال أو البالغين. ويحرص التاقي، في حديثه لزوار المتحف، على تنبيههم إلى ضرورة التفريق بين «القربة» المصنوعة من الجلد الذي يبقى محتفظا على الشعر والتي تستعمل في الحفاظ على الماء، و»الشكوة» المصنوعة من جلد منزوع الشعر والتي تسخر للحفاظ على الحليب أو اللبن. وتتموقع «الرحى» في أماكن تجلب انتباه الزائر «لمتحف تغمرت». وحين تسأل مبارك التاقي عن السر في ذلك، يجيب بأن هذه الآلة اليدوية الحجرية في ثقافة الرحل تحتل مكانة مركزية وترتبط بالأساس، بوظيفة المرأة ودورها الاقتصادي والاجتماعي في خلية الأسرة التي تعتمد الترحال كأسلوب للعيش. و»الرحى» في اعتبار الرحل، على الرغم من ثقل وزنها، تبقى ملازمة للإنسان الصحراوي في حله وترحاله، وأول ما يفكر فيه الرحل بعد نصب الخيمة هو إنزال «الرحى» لتشرع المرأة الصحراوية في إعداد الدقيق الذي يستخدم في إطعام أفراد الأسرة، وهي المهمة التي تستخدم فيها كذلك مجموعة من الأواني التقليدية من ضمنها «القصعة» التي تتخذ أحجاما مختلفة. وإلى جانب الأدوات المسخرة في إعداد الأكل، وتدبير النُدرة، تتكدس داخل خيمة «متحف تغمرت» المتنقل العشرات من الأدوات التي تشكل «موسوعة حقيقية» لاستكشاف أدق تفاصيل الحياة لدى الرحل والتي أصبح البعض منها مهددا بالإتلاف بفعل التقادم، حيث يرجع تاريخ البعض منها إلى أزيد من قرن من الزمن. البعض من هذه الأدوات والأشياء، يسهل على الزائر استيعاب مدلول تسميتها حين ينطق بها مبارك التاقي باللغة العربية المتداولة على نطاق واسع. لكن، سرعان ما تتغير هذه الفكرة لدى الزائر حين ينعتها بأسمائها المحلية التي تحيل في بعض الأحيان على مرجعية أمازيغية. من هذا القبيل، يمكن الإشارة إلى اصطلاح «أمشقب» الذي يعني الهودج و»تيزياتن» وهي الحقائب التي توضع فيها أغراض النساء أثناء الترحال من مكان إلى آخر، أما الرجال فيضعون أغراضهم في «تاسوفرة». تتنقل خيمة «متحف تغمرت» في عدد من المدن المغربية للتعريف بثقافة وحياة الرحل. كما نصبت خيمة هذا المتحف في عدد من الدول الأوروبية التي يبدي مواطنوها إعجابا كبيرا، وفضولا منقطع النظير بهذا الموروث الثقافي والحضاري الصحراوي. حاول العديد من مواطني الدول الغربية الذين زاروا «متحف تغمرت»، سواء في المغرب أو الخارج، اقتناء بعض محتوياته إلا أن تمسك مبارك التاقي بحفظ كنزه وكنز أجداده يجعلهم يطأطئون الرأس إجلالا لعدم استسلامه لإغراءاتهم المادية التي يسيل لها لعاب تجار البازارات في مختلف المدن المغربية السياحية. وتبقى أمنية السيد مبارك التاقي هي الحصول على يد المساعدة التي تمكنه من ترميم وصيانة تحفه الجلدية والخشبية التي طالها الإتلاف بفعل توالي السنين، كما يتطلع إلى تأسيس متحف قار ودائم، لكنه ليس كباقي المتاحف المتعارف عليها، بل هو متحف مخصص للتعريف بذاكرة الرحل التي خصص لها حياته وماله لأجلها.