بدعوة من منشورات (بلون) الفرنسية، كتب الآخرون قواميسهم العاشقة للقطارات والصيد والقطط، وللطب والمغامرة والطبخ وأيضا لفكتور هيغو والسينما والبالي ومصر الفرعونية، لكن إلياس صنبر اختار الكتابة عن فلسطينه التي غادرها رضيعا في أبريل 1948 ولم تكتحل عيناه بمرآها بعد ذلك حرة ولم تغادره على مدى سنوات عمره وهو من عمر النكبة أو يزيد قليلا. ويلخص غلاف الصفحة الأخيرة من القاموس، الذي وقعه إلياس صنبر الأحد الماضي على هامش الدورة 17 للمعرض الفرانكفوني للكتاب ببيروت، المعادلة المستحيلة ظاهريا بين أن يتحدث المرء عن بلد لم يوجد قط أو عن دولة لم توجد بعد، ويتحدث أيضا عن اعتزام الكاتب نقل فلسطين، البلد والشعب، إلى واقعها اليومي العادي والطموح العميق في أن تغدو أخيرا بلدا على غرار البلدان الأخرى. في حديث أدلى به لوكالة المغرب العربي للأنباء شدد إلياس صنبر، أو إيلي كما يدعوه المقربون، على أنه وضع قاموسه بمقاربة عاشقة تتوخى تقديم فلسطين البعيدة جغرافيا عنه في منفاه بفرنسا، القريبة من القلب إلى حد الامتزاج بشرايينه، بشكل مختلف قد لا ترضي من يتوقع قاموسا كلاسيكيا يصنف القضية حسب ترتيب كرونولوجي موضوعي صارم. وأوضح أنه كتب فلسطين ذاتيا أي كما يراها بعين العاشق، وأن ما همه في هذا القاموس ليس المعلومات المتوفرة في كتب ومراجع لا تحصى، بل أن يضع قلبه على الورق ويتأمل فلسطين كما عاشها ويعيشها عاطفيا ووجدانيا، كاتبا لنفسه أولا قبل أن يفكر في القارئ المحتمل. ويعود بالذاكرة أبجديا إلى أشخاص أحبهم لأنهم أحبوا فلسطين (ياسر عرفات، محمود درويش، إدوار سعيد، جان جونيه، جيل دولوز..)، وإلى أحداث طبعت نفسيته إلى الأبد (منظمة التحرير الفلسطينية، الانتفاضة، السور، المقاومة، مجلة الدراسات الفلسطينية...)، وكذا إلى أماكن لا تبرح ذاكرته (حيفا البلد والبلاد، القدس، الأرض المقدسة...). يناقش الغربة والاغتراب والمنفى والعودة والمستوطنات والديموقراطية والتعددية والالتزام والأصوليات والسلام والمصالحة والحياة والموت، وحل الدولة ثنائية القومية أو حل الدولتين، وبعضا من التاريخ أيضا: نبي الله إلياس الذي يحمل إسمه. ولا ينسى جان لوك غودار وجان جونيه صاحب (الأسير العاشق) و(أربع ساعات في شاتيلا) وجيل دولوز. ويتذكر يوم قال له الشهيد ياسر عرفات مرة (كم نشتاق جيل..) ويعلق صنبر (وأنا أشتاقهما اليوم معا- ص 341).. ولأن الجمال لا يتجزأ، ترد في القاموس العاشق، الذي وضع رسوماته الداخلية ألان بولدوير، مقاطع من شعر محمود درويش الذي وضع إلياس صنبر أنطولوجيا من شعره مترجما إلى اللغة الفرنسية (دار أكت سود -2009)، ويرد حديث عن السينما مع جان لوك غودار، كما يرد حديث عن الثقافة والطبخ والفولكلور والطوابع.. كان عمر ابنة إلياس صنبر الكبرى سبع سنوات حين سألته مرة «هل تبقى طوال حياتك تتحدث عن فلسطين». قال إنه أحس بالحرج وبقليل من عقدة الذنب لأن طفلته كانت ترغب أن تعيش حياة عادية متحررة من وطأة هذا النزاع الكامن في أحاديث أبيها وفي انشغالاته. وسأل إلياس صنبر صديق عمره محمود درويش مرة «ماذا سنفعل، أنت وأنا، عندما نشيخ»، فأجابه الشاعر «سنكون جالسين تحت ظل شجرة تين في فناء بيت بفلسطين.. ولكننا سنتفق على ألا نتبادل إلا أحاديث عادية، عن حالة الطقس وعن السحاب الذي يمر». لهذا كتب إلياس صنبر قاموسه العاشق، لينقل فلسطين من قضية سياسية إلى قضية يومية وجدانية لا تسكن الفلسطينيين وحدهم في الداخل والدياسبورا، ولا تسكن العرب وحدهم في المشارق والمغارب، بل تسكن الإنسان، أو حقيق بالإنسان أن تسكنه أنى كان، لأنها المحك والفاروق على المستوى الشامل بين العدل والظلم وبين الحقيقة والأضاليل.